قضايا

في مواجهة الحس المشترك

محمد المرجانمن الصعب جدا اعتبار بعض الأحداث التي تقع هنا وهناك، وتتباين خطورتها وأهميتها حسب ظرفيات وأوضاع معينة، بمثابة ظواهر اجتماعية ثابتة متكررة جمعية وشاملة، وبالتالي قابلة للمعاينة العلمية بكل سهولة. كما يستحيل علينا اعتبارها في إطار محدوديتها، كتوجه تاريخي عميق يحكم المسار العام للمجتمع. ولعل ما حدث في الآونة الأخيرة من تصرفات رعناء "للعامة الواطئة" في هجومها على "الكسابة" أو سرقتها للمعدات الطبية بعد خروجها من المستشفيات التي قامت بعلاجها، لدليل واضح على هذا النوع من الأحداث، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تدل على ظاهرة اجتماعية تتكرر عبر الزمان والمكان وتشمل فئات اجتماعية بعينها.

قد يكون سلوك النهب والتخريب تعبير مباشر عن مستوى الصراع الاجتماعي السائد داخل الكتل الاجتماعية الغير متساوية والمتصارعة فيما بينها، وهو أمر يسود كل الأنظمة الاجتماعية بدون استثناء. إلا أن الأنظمة الأكثر مركزية والأكثر انغلاقا والأشد رسوخا على المستوى التاريخي والمؤسسي هي المعروفة بكثرة هذه الحركات اليائسة والموجهة لغيضها نحو ما هو مثيل لها أو أدنى منها، على أساس ضعفها البنيوي في إيجاد الصيغ الكفيلة بالتعبير اللائق عن حرمانها. خاصة إذا كانت درجة ومستوى الإصلاح الطامح إلى ترميم هذه الأنظمة غير قادرة على إحداث أي تغيير ممكن في علاقتها بمكوناتها البشرية. هل تختص الفئات المعدمة وحدها بمثل هذا التصرف؟ لا شك أن سياق التناقض الطبقي المحدد لوضعية الفئات داخل البنية الاجتماعية العامة، يلعب دورا كبيرا في "انتاج القيم الداعمة لمكانة ووضعية الفئات" ضمن التراتبية المتدرجة من الأعلى إلى الأسفل. ولذلك تتفاعل السلوكات الفردية أو الجماعية اليومية للفئات المعدمة –و بكيفية شعورية أو غير شعورية-من أجل تكريس القيم الدالة على دونيتها وعلى تخلفها واستهتارها بكل القيم المناقضة لطبيعتها وتفكيرها ونمط عيشها. معتبرة أن الانتماء العضوي لطبقتها هو ما يشكل في الواقع مبرر وجودها الشرعي.

وعلى أساس ذلك تتبلور "بنية الشخصية" المتكونة من مجموع التأثيرات العامة لكل من الوسط الاجتماعي والأسري والسياسي والنفسي والاقتصادي والثقافي. فتكون هذه الجموع صورة عن ذاتها تتماهى في الغالب مع الصورة التي رسخها المجتمع عنها. وبعبارة أوضح خضوع الإنسان لضغط الأنساق وحتمياتها، لا يلغي بتاتا المسؤولية الأخلاقية للأفراد في مثل هذه السلوكيات. مما يعني التقيد بتحليل الحدث في إطار ظرفه الخاص المرتبط بأحداث أخرى تتشابك فيما بينها موضوعيا، وتضغط في اتجاه بلورة سلوك معين، كرد فعل طبيعي من طرف مجموعة معينة. فليست كل الفئات المعدمة همجية الطبع متوحشة السلوك ومدمرة لكل القيم الصالحة، وإنما قد تصبح كذلك حينما نعمل على إنتاج كل الشروط التي تعمل على المزيد من إقصائها ونبدها.

إن الجرم الكبير الذي نقترفه هو الاعتقاد بأن مثل هذه التصرفات تقتصر على الطبقات المعدمة أو تلك المتواجدة في العالم الثالث. ففي الهزات التي عرفتها فرنسا في ضواحيها تبين بالملموس أن الطبقة المتوسطة التي شاركت في هذه الاحتجاجات مارست نفس الأمر على ممتلكات ومتاجر نفس الطبقة. في الولايات المتحدة الأمريكية منظر النهب والسرقة للمتاجر الصغرى والدكاكين العادية من طرف الحشود الغاضبة، معروف ويتذكره الجميع. هذا الاستنتاج لا يسمح قطعا بتبرير هكذا سلوك. لكن اللافت بكل تأكيد أنه داخل هذا الصراع ليس هناك طرف محايد، ووسائل الإعلام الرسمية أو غيرها جزء كبير من هذه المواجهة. والنخبة المثقفة بدورها ليست في منأى عن هذه الورطة. وإلا كيف نفسر الضجيج الإعلامي حول حادث الكسابة، والذي لم ينجم عنه إلا الخسائر المادية، والصمت الشبه المطبق على القرار الارتجالي الذي اتخذ حول حالة الطوارئ بين المدن خلال 24 ساعة وكانت نتيجته إزهاق العديد من الأرواح والخسائر المادية أيضا.

إن المعرفة الناجعة لا تستقيم مع التسرع في الأحكام، بل في القدرة على التعاطي مع تنوع الواقع وصعوبة تجليه، والارتكان للمقارنة بين الأوضاع حتى نتمكن من الإمساك بالخيط الناظم الذي يجمع بين المتناقضات في إطار بنية إدراكية واضحة.

 

بقلم د. محمد المرجان

 أستاذ باحث في علم الاجتماع ـ جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، المغرب

 

في المثقف اليوم