قضايا

توماس هوبز.. فيلسوف يحذر من الوحش الذي لم ينقرض بعد

يسري عبد الغنيروع الكثيرون عندما أصدر الإنجليزي / توماس هوبز في سنة 1651 كتابة المعروف باسم (الحكم الاستبدادي) Leviathan (وحش بحري منقرض ورد ذكره في بعض الكتب المقدسة رمزًا للشر، وهو يطلق الآن دلالة على الحكم الاستبدادي)، وقالوا : ألا ما أسوأ رأي المؤلف في الطبيعة البشرية، وشجب العديد من مفكري عصره الكتاب، ونعوا عليه ما ورد فيه من مبادئ فاسدة، وإن أقرت الأجيال التي تلت ذلك أن مؤلفه توماس هوبز كان من أعظم الفلاسفة الإنجليز .

ولد هوبز في السنة التي نشبت فيها حرب الأرماد أي في سنة 1588 م، في بلدة مالميسبوري في مقاطعة ويلتشاير الإنجليزية، وهي بلدة قديمة مازالت تقوم فيها حتى يومنا هذا بعض المباني التي سبق وأن عاصرها توماس هوبز حال حياته .

وقد تجلى عندئذ أنه لم يكن بالصبي العادي، إذ أظهر نبوغًا في الأدب الكلاسيكي وفي علوم الرياضيات، قبل أن ينتقل من مدرسة مالميسبوري إلى إكسفورد، كان قد ترجم مسرحية ميديا لمؤلفها يوربيدس من الشعر الإغريقي إلى اللغة اللاتينية، وكان ذلك وهو في سن يتعذر فيها على معظم الفتيان أن ينقلوها إلى اللغة الإنجليزية، وبسبب خصلة سوداء تعلو شعره، كناه زملاؤه في المدرسة باسم الغراب .

وفي إكسفورد التحق بكلية ماجدالين ونال منها درجته العلمية، وعمل بعد ذلك مدرسًا في بيوت النبلاء، ومن حين لآخر كان يصحب تلاميذه في رحلات خارج بريطانيا، وفي سنة 1642، وقد بلغ توما هوبز منتصف العمر استقر رأيه فجأة على مغادرة إنجلترا .

في تلك الأيام كان حكم الملك شارل الأول يواجه هجومًا عنيفًا من البرلمان الإنجليزي، وقد أدى هذا النزاع إلى قيام الحرب الأهلية الكبرى فيما بين عامي 1642 ـ 1647، ويبدو أنه كان في هذه الخصومات الأهلية ما أثار قلق هوبز وانزعاجه الشديد، وقد غرف عنه حينئذ أنه كان من مؤيدي أساليب الحكم التي يتبعها الملك / شارل الأول، وحين اعتقل زعماء البرلمان أحد كبار أنصار الملك، ويدعى مانوبرنج أسقف كنيسة سانت ديفيد، دار في خلد هوبز أنه " قد حان الوقت الآن لكي أتدبر أمر نفسي "، وكان هذا هو السبب في رحيله إلى العاصمة الفرنسية باريس .

وفي باريس أضاف إلى معارفه الواسعة دراسة الكيمياء وعلم التشريح، ولكن عمله الحقيقي الذي كان سببًا في ذيوع شهرته كان شيئًا مختلفًا تمامًا، ذلك هو مؤلفه الشهير : الحكم الاستبدادي، الذي ظل طوال مائتي عام مؤثرًا في الفكر الإنساني عن السياسة .

وفي أواخر ذلك القرن، كتب المفكر / جون أوبري يؤرخ الحياة الطريفة لهذا الفيلسوف، فقال في ترجمة سيرته : كان يتمشى كثيرًا، وهو يفكر ويتأمل، وفي مقبض عصاه ريشة ومحبرة، وفي جيبه مفكرة، فما أن تنبثق فكرة في رأسه حتى يبادر من فوره إلى تدوينها في مفكرته، وإلا نأت عنه وتبددت .

فرغ هوبز من كتابه في سنة 1651 بعد إعدام الملك / شارل الأول، وتم طبعه في العاصمة الإنجليزية لندن، وقدم هوبز نسخة منه مجلدة تجليدًا خاصًا إلى الملك / شارل الثاني الذي كان إذ ذاك في منفاه في باريس، ثم عاد هو نفسه إلى إنجلترا بعد ذلك، وسمح له قبل أن يستعيد شارل الثاني عرشه، بالإقامة في لندن، وفي سنة 1660 وقد استرد الملك العرش، كان هوبز قد أصبح طاعنًا في السن، وإن ظل مع ذلك متدفق الحيوية، وكان من الواضح أن الملك الجديد يأنس إلى صحبته، وكان يلقبه بالدب، فإذا رآه قادمًا عليه ابتدره بقوله : ها هو ذا الدب قد أقبل .

ومات هوبز في عام 1679، في ساتشوبرث في مقاطعة ديربيشاير في بيت إيريل ديفونشاير، أول تلميذ من تلاميذه .

إن كتاب : الحكم الاستبدادي لتوماس هوبز، من الكتب التي تثير قراءتها الضيق في بعض مواضعها، إذ ينظر فيه إلى الطبيعة البشرية نظرة تحقير واستهانة، ومع ذلك فإنه يعكس تجربة هوبز الشخصية وعهد العنف والفوضى والانفلات الذي عاصره .

إن هوبز في قرارة نفسه كان يمقت النزاع والخصومات ويحاول دائمًا أن يتحاشاها، وفي رأينا الخاص : إن هذا ما يجب أن يتحلى به كل مفكر أو صاحب فكر يحترم نفسه ويحترم أفكاره، وكان هذا هو سر هجرته إلى فرنسا عام 1642، وكان من رأيه أنه خير للمرء أن يعيش في ظل حكم طاغية مستبد، على أن يعيش في بلد يتعرض فيه القانون والنظام للزوال فتعم فيه الفوضى والعشوائية والتسيب والحروب الأهلية وانعدام القيم والأخلاق .

هذه هي النظرية الأساسية أو الرئيسية التي قام عليها كتاب هوبز : الحكم الاستبدادي، فهو يؤكد على أنه إذا ترك الناس على نزعاتهم، فإنهم سيعيشون دائمًا في حالة حرب وصراع، يقاتل كل إنسان غيره، ولذلك فإن حياة المرء هي: " حياة انعزالية قذرة قصيرة وذات طابع وحشي . "

ولما لم يكن في الناس من يبغي أن يعيش على هذه الحال غير الإنسانية، كما يقول هوبز، فإن عليهم أن يتفقوا على النزول عن الحرية التي تؤدي إلى كل هذا النزاع والخصومات، وذلك في مقابل السلام والأمن والاستقرار التي يمكن أن توفرها حكومة قوية حاسمة فاهمة، وليس ثمة جدوى من أن ينزل الناس عن نصف حرياتهم، فإنهم إن فعلوا ذلك، عادوا يطالبون باستردادها إذا ما هددت الأخطار مصالحهم، وارتد المجتمع إلى الحالة السيئة التي كان عليها في البداية .

يذهب هوبز إلى أنه ينبغي على الناس أن ينزلوا عن كل حرياتهم، وعليهم فضلاً عن هذا أن يمنحوا الحكومة الحق في تنفيذ مشيئتها بالقوة، أي بحد السيف، ويقول هوبز في هذا: " إن العهود والمواثيق بغير السيف - أي   الحسم ـ ليست إلا مجرد كلمات " .

وقصار القول إن الفيلسوف الإنجليزي / توماس هوبز يرى أن الحياة في ظل حكم استبدادي أفضل من حالة الفوضى وعدم الاستقرار والتفكك والتمزق، أي حيث لا حكم ولا قانون .

ويبدو أن فيلسوفنا لم يكن يعتقد أنه يمكن أن تكون هناك حالة وسطى ملائمة بين الوضعين، ولكن علينا أن نلاحظ أنه، عاصر حينئذ حكومة ضعيفة مرتعشة متداعية منهارة، لم تتوافر لها قوة كافية لتنفيذ أوامرها حتى يعم الأمن والأمان والاستقرار، لقد عاش هوبز خلال الفترة التي أعدم فيها ملك إنجلترا  سنة 1649، حين بدا أن الجيش أو القوات المسلحة هو نظام الحكم الوحيد الفعال المجدي لمقاومة الفوضى، فلعله مما لا يثير الدهشة في كتاب يصف أصلح نظام للحكم، أن يصر هوبز على أن يكون هذا الحكم قويًا مزودًا بقوة السلاح، وقادرًا على ردع وسحق المتمردين الذين يهدفون إلى الفوضى وعدم الاستقرار من أجل مصالح خاصة يسعون إليها .

ويجب أن نشير في هذه السطور إلى أن نمو المعارضة وازدياد سطوتها مما أدى إلى الحروب والصراعات داخل إنجلترا، هي التي حملت هوبز لأول مرة على الفرار إلى فرنسا، وهو يعتقد أن الخوف هو الشعور المسيطر المتحكم في الناس، ولما لا وهم لا يشعرون بالأمن أو الاستقرار بكل أنواعه ؟!، وهذه هي الفكرة المقبضة للنفس التي حملت هوبز على أن يدعو إلى حرمان الناس من حرياتهم .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم