قضايا
فلسفة التشجيع.. فلسفة العجز عن الفعل
لا يستطيع أحد أن ينكر أهمية التشجيع فى حياتنا. فكثير من المجتهدين، والموهوبين فقدوا الرغبة في الاستمرار لمجرد أنهم لا يجدون التشجيع والتقدير الكافيين. وربما كان غياب التشجيع واحداً من أهم اسباب أزماتنا، ونكباتنا الدائمة التي لا نعرف لها سبباً. ويكفى أن نستدعي بعض العبارات الرائجة فى الثقافة الشعبية العربية، من قبيل "كله محصل بعضه" و"طولها زي عرضها"، حتى نتبين إلى أى مدى تهيمن الروح الانهزامية على المواطن العربي.
غير أننا فى الحقيقة، ومن زاوية فلسفية، نرى المسألة تختلف اذا انتقلنا إلى ميادين أخرى من التشجيع، ولعل أبرزها التشجيع الرياضي والفني والسياسي.
فالتشجيع الرياضي، خاصة فى مباريات الكرة، إنما يكشف عن نوع من العجز لدى المشجع. وهو من منطلق هذا الشعور، الذى يكون في اللاوعي غالباً، يطلق صيحاته، وينبري للدفاع باستماته عن مصالح وأشخاص لا تمت له بصلة مباشرة أو حقيقية. فالكرة، مثل الدين، ينحاز إليها الإنسان بالوراثة أولاً، ثم بالحجة والاقتناع بعد ذلك. وفى هذا السياق، لا يمكنك أن تعثر على سبب وجيه لانحياز مشجعي الكرة إلى ناد كروي دون آخر. ومهما قيل عن مناقب الفريق الذى يلعب باسم هذا النادي، فلن يكون الأمر مقنعاً، لأن آراء المشجعين كلها تنبني على العاطفة والانفعال، ولا مجال فيها للعقل أو المنطق.
والتفسير الوحيد لذهنية التشجيع، إنما يكمن في أن المشجع يجلس بعيداً، فى منزله أمام شاشة التليفزيون أو في المدرج، داخل الملعب لكن بعيدا عن المستطيل الأخضر، دون أن يشارك مشاركة حقيقية فى المباراة. والخدعة الكبرى التى تشتغل عليها هذه الذهنية، هى كونها تتحدث لخصمها، من المشجعين الآخرين، وكأنها هى التى لعبت وكسبت. إنها حالة أشبه ب "القرعة اللي بتتباهه بشعر بنت اختها" على رأي المثل الشعبي.
إن فكرة التشجيع، تتأسس على فكرة "النيابة" أو "الوكالة". فهناك اتفاق ضمني بين المشجعين ولاعبي الكرة، بحيث يتظاهر اللاعب بأنه يلعب لصالح المشجع، في أنه يلعب لصالح نفسه، و يتظاهر المشجع بأنه صاحب النصر، وهو يعلم أنه يدور في لعبة وهمية لم يخضها على الإطلاق. ف اللاعب ينوب عن المشجع فى التدريب واللعب وبذل أقصى الجهد بينما ينعم المشجع براحة لذيذة، عدا أنه يشارك اللاعب فى العبء النفسي، خاصة أن المشجع يتلقى سيلاً كبيراً من الإهانات، وكأنه يلعب بنفسه، من خصومه في حالة الهزيمة.
ولعلنا نذكر ذلك المشهد الشهير الذى يقف فيه لاعب الكرة الفائز أمام شاشة التليفزيون، بعد المباراة، وهو يتصبب عرقاً، بينما يشير بيده إلى الجماهير التي في المدرجات، قائلا إنه يهدي الفوز إلى هذه الجماهير الوفية التى جاءت خلف فريقها وملأت الاستاد.
هذا اللاعب، هو نفسه الذى لم يحزن، ولم يقل كلمة حق إزاء الجماهير التي قتلت في أحداث استاد بورسعيد. وهو نفسه، الذى يمكن أن يخلع فانلة ناديه، ويرتدي فانلة ناد آخر اذا كان سيدفع له أكثر تحت مقولة "الاحتراف". والسؤال الذى يطرح نفسه، لماذا لا ينطبق الاحتراف أيضاً على الجماهير، بحيث يملك المشجع حرية التحول من تشجيع ناد إلى تشجيع ناد آخر دون أن يُتّهم بالخيانة وانعدام الوفاء.
تتضح المسألة أكثر إذا انتقلنا إلى الألعاب العنيفة مثل الملاكمة والمصارعة، وفيها يتلقى اللاعب الضربات وينزف الدماء نيابة عنا لقاء تشجيعنا له. والحقيقة أن التشجيع ،أو الانحياز، ليس هو المقابل النهائي الذى يسعى إليه اللاعب، وإنما ما يحصده، فى النهاية، من شهرة ومن مال. إن فرحة المشجع حال الفوز، وحزنه حال الهزيمة، لا يعنيان سوى أنه يخوض مباراة وهمية، لا يملك ترف تغيير نتيجتها، لأنه فى الحقيقة لا يملك القدرة على تغيير اي نتيجة فى حياته
وامعاناً فى لعبة الإيهام يستكمل الجمهور المباراة بعد نهايتها، فى الواقع، بين مشجعي الناديين، الفائز والمهزوم، لتتحول المباراة إلى حرب كلامية، يشهر فيها كل مشجع سلاحه الرمزي الذى استعاره من المباراة، الذى هو، فى التحليل الأخير، مجرد ضربة، أو دفعة، أو قذيفة، أو فرصة ضائعة، أو هدف تم تسجيله. ليس هذا فحسب، بل إن التماهي مع المباراة يصل إلى درجة الشعور بالظلم الكروي الذى يمكن أن يؤدى إلى ضياع البطولة، بنحو يفوق الشعور بالظلم الواقعي الذى يمكن أن يهدد بضياع مستقبل أمة بالكامل!
إن المسألة برمتها تُعد امتداداً مبالغ فيه لتربية إيهاميه جعلت الفرجة أهم من الممارسة، والخيال أصدق من الواقع، وربطت مصير الرؤوس بمصير الأقدام. والأمر في كل الأحوال، أشبه بالعمل الفني أو شغل السينما، الذى يجعلك تنحاز لنجمك المفضل الذى اخترته بناء على الصورة الدعائية التي صنعها الإنتاج، فأنت فى الحقيقة قد تعانى من الظلم أو القهر أو ضيق العيش، ولا يمكنك تغيير واقعك أو حل مشكلاتك بنفسك، فلا تجد أمامك من سبيل سوى البحث عن بطل شعبي مخلّص، ينقذك، ولو على مستوى الخيال، من وطأة واقعك المأزوم.
وفى هذا السياق، اذكر كيف نجحت أفلام كثيرة جماهيرياً، بالرغم من ضعف مستواها الفني، وسطحية موضوعاتها، لمجرد أنها راهنت على مشاعر الجماهير السلبية، واستعدادها للتأثر بالنموذج البطولي الذى صنعته المؤثرات الخاصة للسينما، والحبكة الشعبية لمواقف الانتقام والأخذ بالثأر من الطغاة المتجبرين لصالح الضعفاء المغلوب على أمرهم. ولعل فى نموذج الأفلام الهندية خير دليل على ذلك.
ويتضح الأمر أكثر في المجال السياسي، فالجماهير التي تؤيد حاكماً أو مسئولاً بالرغم من قراراته الخاطئة، إنما تدافع، فى حقيقة الأمر، عن نفسها، وعن اختيارها غير الموفق. لأنه، فى معظم الأحوال، يمثل هذه الفئة، وهى تركن إلى تصرفاته وأفعاله، لأنها تسعى دائماً إلى من ينوب عنها، ويدير لها حياتها. وينبع هذا الموقف من انعدام الثقة في الذات وفى الآخرين، ما يجعل المسؤول يتحول إلى حالة فريدة واستثنائية، لأن المؤيدين، يفتقرون إلى الخيال السياسي، الذى يدفعهم إلى مغامرة التغيير، ورؤية وجوه جديدة، وأساليب مبتكرة فى الحكم والادارة، ومن المؤسف أن الموقف كله يخضع لمنطق غير عقلانى بالمرة، يجد مبرره فى مقولة "اللي تعرفه احسن من اللي متعرفوش"!
والمفارقة أن المعارضين، الراغبين فى التغيير، ينتظرون الثورة من آخرين، ينوبون عنهم، ويكونون موضوعاً للفرجة والتشجيع، كما حدث فى ثورة 25 يناير. وكما يحدث في مباريات الكرة، يحدث في السياسة، فسنجد الصراع وقد انتقل من الواقع إلى الكلام، لتتحول المسالة برمتها إلى علاقة بين المؤيدين والمعارضين، ويصير التشجيع الأعمى هو أداة كل فريق من أجل إثبات صحة اختياره، وسلامة موقفة، وقوة حضوره، من خلال شخص الآخر الذى يملك زمام المبادرة، ويتحكم فى مصائر الجميع وسط تصفيق حاد من المتفرجين.
د. ماهر عبد المحسن