قضايا

ديريك بيريس: ‫الجذور القديمة للعلاج النفسي ‬‬

رحيم الساعديبقلم: ديريك بيريس - فبراير 2020

ترجمة: ا.د .رحيم الساعدي


يشير العلاج السلوكي المعرفي، وهو اختراع القرن العشرين، إلى الرواقية اليونانية كمصدر للإلهام، والرواقية والعلاج المعرفي السلوكي يشتركان في التركيز على استخدام المنطق والتفكير للتغلب على الصعوبات العاطفية.

وتكمن كيفية معرفة الاستجابة للتحديات من خلال ممارسات العلاج النفسي الحديث .

على الرغم من أننا طورنا فهمنا للأفعال الفسيولوجية التي تؤدي إلى التفكير فقد يرد سؤال، من أين تأتي الأفكار؟ ويعتقد فرويد أن الأفكار تعمل على مستوى اللاوعي. وتخلى علم النفس الحديث وعلم الأعصاب عن هذه الفكرة منذ عقود. فالتجارب تترك البصمات - ذكريات – التي تعمل كمخططات للتفكير.

لقد وضعت تطورات العلاج السلوكي والعلاج المعرفي في النصف الأول من القرن العشرين الأساس للعلاج السلوكي المعرفي، وهو شكل من أشكال التدريب على الصحة العقلية الهادف إلى تعطيل التشوهات المعرفية والسلوكيات والمساعدة في تنظيم العواطف. تم تطبيق هذا العلاج في البداية على الاكتئاب، وتشعب الآن للعديد من المشكلات الأخرى، بما في ذلك القلق الذي يصاحب الاكتئاب في وقت ما.

وبينما يمكن إرجاع جذور العلاج المعرفي السلوكي إلى العديد من المعالجين في العشرينات من القرن الماضي وحتى الستينيات، إلا أن ظهور "الموجة الثالثة" من العلاج المعرفي السلوكي بدأ في الثمانينيات. وتزامن هذا الاتجاه مع استخدام العلاج المعرفي السلوكي كوسيلة عامة لوصف عدد من الأساليب، بما في ذلك العلاج السلوكي الجدلي، والعلاج الانفعالي العقلاني، والمعالجة المعرفية. واليوم، يتضمن العلاج المعرفي السلوكي عمومًا أي علاج يهدف إلى تحسين المشكلات المعرفية والعاطفية.

وعندما كان تدخل القرن العشرين، كان العلاج المعرفي السلوكي نذيرًا في المدرسة الفلسفية للرواقية. ويتبنى العلاج المعرفي السلوكي نهجًا عقلانيًا للمرض النفسي والعاطفي، مما يجعلنا نتذكر كلمات سقراط وأبيقور، وكلاهما يعتقد أن الفلسفة علاجية. في الواقع،وقد كتب الأخير،  أن "مدرسة الفيلسوف هي عيادة طبيب".

لقد تأسست الرواقية من قبل زينون الرواقي في القرن الثالث قبل الميلاد. ويبدو ان الأساس الفلسفي كان بوذيًا: فلا يجب ان تسمح للمتعة أو الألم بتحفيز أفعالك؛ وعليك تقبل  كل لحظة كما هي. وعش حياة فاضلة من خلال معاملة الآخرين بإنصاف؛ فالعيش يكون وفقا للطبيعة. وتجدر الإشارة الى  انه في ذلك العصر هيمنت وسائل الإعلام عليه حيث اشتغل المنافقون بصوت عالٍ .

قال زينون إنه من أجل الازدهار، يجب أن تظهر الإرادة، حتى لا تغريك بالأشياء اللامعة أو الخوف من الموت. ويتم تحقيق ذلك من خلال اكتساب المعرفة جنبًا إلى جنب مع القدرة على تنفيذ الجانب الأخلاقي الذي تتطلب هذه المعرفة. وقد ازدهرت الرواقية الى ان هيمنت المسيحية على المنطقة في القرن الرابع الميلادي، على الرغم من أن الكثيرين قالوا بأن العلاج المعرفي السلوكي يمثل حضورا حديثا .

شارك دونالد جيه روبرتسون وترينت كود مؤخرًا في تأليف بحث عميق عن تاريخ العلاقة بين الرواقية والعلاج  السلوكي المعرفي في مجلة العلاج السلوكي . وكتبوا أن أفضل مثال حديث للرواقية، اذ  يمكن إرجاعه إلى صلاة العالم اللاهوتي رينهولد نيبور عام 1934:

"يا الله، أعطني الصفاء لقبول الأشياء التي لا أستطيع تغييرها؛ والشجاعة لتغيير الأشياء التي يمكنني تغييرها؛ والحكمة لمعرفة الاختلاف "

وينسب كتاب لعالم النفس ألبرت إليس، مؤسس العلاج السلوكي الانفعالي العقلاني  استلهامه النهضة الحديثة للرواقية بالإضافة إلى الإشارة إلى قابليتها للتطبيق في العلاج النفسي. يعتقد إيليس أن المشاكل العاطفية ليست ناجمة عن أحداث خارجية، بل انها "معتقداتنا غير العقلانية حول مثل هذه الأحداث". وقد تم استعارة هذه الفكرة مباشرة من قلم إبيكتيتوس، الفيلسوف الرواقي في القرن الأول الميلادي.

لقد فتح إليس الباب الواسع للرواقية في مجاله، على الرغم من أن المعالجين النفسيين يميلون إلى قراءة إليس بدلاً من استرجاع المصدر، كما يكتب كود وروبرتسون. ومع ذلك، فإن النسب واضح.

ويمكن القول ان آرون تي بيك، مؤسس العلاج المعرفي (والذي تأثر أيضًا بشدة بإيليس)، أحب الاقتباس من ماركوس أوريليوس عبارة :

"إذا كنت تتألم من أي شيء خارجي، فهذا ليس الشيء الذي يزعجك، بل حكمك عليه. ويمكنك أن تمحو هذا الحكم الآن "

وبنظرة شاملة، فنحن نتحكم في عواطفنا،وكما كتبت أستاذة علم النفس ليزا فيلدمان باريت في كتابها كيف تصنع العواطف، فانها ليست ردود أفعال بل إبداعات مستوحاة من تجارب الماضي. يتماشى هذا مع أوريليوس، الذي لا يتعلق اقتباسه أعلاه بقمع الاستجابة التلقائية، بل يتعلق باختيار المنطق على التفكير غير العقلاني. فالعواطف لا تأتي من الهاوية الغامضة. ولدينا رقابة في كيفية تصرفنا وشعورنا .

هذا هو المكان الذي يتم فيه تطبيق المنطق على العلاج النفسي: فلا ترجع ببساطة إلى أنماط السلوك القديمة لأنك معتاد عليها، خاصة عندما تصور نفسك كضحية عاجزة في عملية لا يمكن السيطرة عليها. كما يشير نيبور.

عرف الرواقيون أن الحياة لا تتعلق بالمتعة. والسعي وراء المشاعر الجيدة فقط لا يؤدي إلى التحرر من حقائق الوجود غير السارة. وقد بشر الفلاسفة القدامى بتطور وتميز الشخصية.

فاستخدموا الأسس الأربعة للفضيلة الأفلاطونية - الحكمة والعدالة والاعتدال والثبات - كأساس فلسفي لبناء تلك الشخصية. ومثل هذا التطور يتطلب ضبط النفس. لان أدمغتنا تسعى إلى الحصول على نتائج سريعة من الدوبامين الذي يبحث عن إشباع فوري. والروح المعتدلة ترى ان اللعبة طويلة وتتكيف وفقًا لذلك.

وتتوافق تقنيات العلاج المعرفي الحديثة مع الرواقية في فهم أن العواطف والمعتقدات ليست مشتقة من عمليات منفصلة. ويدعم علم الأعصاب هذا الأمر: فالعواطف هي مشاعر، لكن ما نشعر به يجب أن يترجم إلى مفاهيم.

 فيمكن أن يكون اضطراب المعدة ناتجًا عن تفكك أو حنين أو طعام فاسد. فكيف نختبر هذا الشعور الذي لا ينفصل عن مسببه. لكن على كل حال، لدينا قدرة التحكم في كيفية تعاملنا مع الأعراض.

واليوم يستمر السعي وراء هذا الاتجاه، ومن المرجح أن يستمر ما دمنا على قيد الحياة.

على اننا يجب أن نستمد بعض الراحة من حقيقة أن على البشر الحفاظ على الاتزان والتحكم في الأوقات الصعبة .

 

في المثقف اليوم