قضايا

مراد غريبي: تحرير الإسلام بوصفه الحب؟!

مراد غريبيفي إحدى الهمسات التنويرية لعالم دين ومثقف عارف بتحديات الزمن المعاصر عرض حوارًا جرى بينه وبين أحد علماء الدين نال شهرةً بين عامة المسلمين بفتاواه ومواقفه، حيث ذكر أنه خلال إحدى المناسبات الثقافية الوحدوية أهدى كتابه الذي يحمل عنوان الحديث الشريف (وهل الدين إلا الحب) إليه فكان رد هذا العالم النجم في عالم فوضى الفتاوى (وكذلك في الدين البغض) !!

من المتعارف بين أهل الحكمة والأدب أن الحب كلمة تبعث الرفق، أما البغضاء والكراهية كلمات تنفث العنف، فشتان بين الأمرين وبين النور والظلمات، والعجيب أن نعيش سنوات في أجواء الدعاية لمفاهيم الدين وفي لحظة عابرة نفقد معنى الحب الذي هو صميم الدين!!

لا أود التعمق أكثر في تفاصيل الحادثة التي وقعت للعالم المربي مع هذا الشيخ النجم، لأن الهدية التي تعبق بعطر الحب عند العظماء لا تقابل بروائح الكير، الأهم حين تقليب النظر في عنوان الكتاب، يرتسم في الذهن أنه لا يمكنك أن تعرف حقائق الدين وتنعكس في شخصيتك سوى عبر فن الحب..

التطرف سرطان التدين:

من الدواعي المهمة التي تؤكد حاجة الواقع الإسلامي اليوم الى اعادة التفكر والاهتمام بمبحث الحب في تعاليم الإسلام ومبادئه ولما لا يرقى النقاش حول هذا المبحث لإبتكار علما حول الحب  يثير ويؤثر  في  الوعي العام للمسلمين على صعيدي النظر والعمل، ومن هذه الدواعي ما يتصل بتفشي ثقافات التطرف ونزعات الكراهية والتسقيط وفتاوى قتل الأبرياء في مجتمعات المسلمين، هذه الظاهرة المتوحشة التي شوهت  بشكل خطير ومخيف الصورة الحضارية للإسلام، وقلبت موازين النظر والمقاربة والتحليل لحقائق الدين الإسلامي العظيمة بإنسانيتها وتمدنها وعالميتها..

بلا ادنى شك هناك حقيقة تتجلى بوضوح في معالم التكوين النفسي البشري، حيث في الغالب الاعم  الناس متطرفون في تفاعلهم اليومي مع الأمور التي تعرض عليهم، هناك من يتطرف في الرأي وآخر لنسبه أو لبلده أو طائفته أو دينه أو لعمله أو لفريقه الرياضي أو نجمه الفني أو شيخه الفقيه أو زعيمه الحزبي وهلم جرا، هناك تطرف إنساني مستشري وهذا التطرف نتاج أمرين:

- إما الجهل

- أو المصلحة

و معظم المتطرفين منبت تطرفهم والكراهية والبغضاء لديهم عدم الصدق مع الذات والآخر، فالكذاب متطرف والمنافق متطرف والطائفي متطرف، لهذا كله عانت كل الأديان ومجتمعاتها من ظاهرة التطرف التي أفسدت مقاصد الدين وتطلعات المجتمع بتحيزاتها المناقضة للمبادئ الحضارية في كل دين، والإسلام كدين خالد لم يسلم من سموم وفتن التطرف التي حرفت مقاصده في واقع المسلمين فأصبح قتل المسلم أولى من قتل المعتدي والمستدمر لحرمات المسلمين والمدنس لمقدساتهم، التطرف لا يمكننا بأي حال من الأحوال ربطه بالإسلام لأن الدين الإسلامي هو الضد الأبدي للتطرف والبغضاء والكراهية المنفلتة  فلا يليق القول التطرف الإسلامي حيث يذكر الدكتور راشد المبارك في كتابه( فلسفة الكراهية): (توجد فئة من الناس تحترف الكراهية، تزرعها وتسقيها وتنميها، وتدعو إليها، وتبشر بها، لقد صارت الكراهية في بعض النفوس نوعاً من العقيدة، لها جلال العقائد التي تجب حمايتها وصيانتها وإحاطتها بسياج يمنع أن تمس أو تناقش أو توضع موضع المساءلة والاستشكال)، الإسلام دين العدل والاعتدال والحكمة والإنسانية، مبادئه ترسم معالم منهج حضاري للإنسان والمجتمع على ضوء علامة الحب من البداية إلى النهاية ، فلا إكراه في الدين بل الدين كله حب، حب خاص بمقاصد الإسلام الخالية من التطرف والعنف والمفعمة بالإنسانية والرفق والحرية المسؤولة والتسامح والتعارف والحوار والتعايش..

الإسلام دين الحب:

في ذات السياق.. هناك من يفهم الحب إسلاميا فهمه للحب اجتماعيا، بينما الإسلام كدين جعل الفهم للمبادئ والقيم على ضوء منهجه القرآني والنبوي، فالحب اجتماعيا بالنسبة للمسلمين هو حب مبدئي وقيمي، بحيث يكون حبا يفكك الكراهية ويصنع الجمال والانسجام والخير كله في تفاصيل حياة المجتمع، فحتى لما يبغض المسلم بغضه يكون على أساس حب لنشر الخير الذي يحرر الجميع من العقد والاوهام والمظالم، إنه حب نابع من معرفة  منبعثة من حب الله لخلقه، وهذا الحب من مصاديقه الطاقة الايجابية التي تستقطب أعتى العتاة والطغاة والمجرمين فيذعنوا للحق الاسلامي الحضاري والانساني صاغرين..

التسامح طريق الحب إسلاميا:

 عرفت الإنسانية العديد من النظريات النفسية والاجتماعية والإرشادات الخاصة بالتسامح على ضوء مناهج وفلسفات وضعية وأخرى مستمدة من قراءات لاهوتية أو صوفية بوذية ، كما هناك تجارب فردية ومجتمعية بالغرب والشرق عبر التاريخ الميلادي، لكن نزعات التسامح بقيت ضمن القيم المصاحبة للمصالح دون النفاذ ضمن المبادئ الشاملة، ولعل أهمية التسامح في رسالة الإسلام أنه ارتبط بمبدأ أساسي في الدين الإسلامي وهو الحب، فأن تسامح بحب يعني تأتي بالصدق كأساس للخير وتصدق به لتطرد الكذب كعنوان مركزي في فلسفة الشر، في حين العكس تكتيك مرحلي مصلحي قد يتحول إلى جريمة شنعاء في أي لحظة من لحظات سوء الفهم أو الشك أو التخلف..

لهذا كان التسامح إسلاميا ليس انفتاحا تكتيكيا بل مصادقة مبدئية على التعاون في إبداع الحب، الإسلام دين العدل وتسامحه عدل مع الذات والآخر، تسامح الإسلام مع الأديان كلها تنظيرا وعملا وتطلعا للحق، وأساس التسامح الصدق النابع من عمق الانفتاح على الحق وبالتالي سيادة قانون الحب وليس المحبة فقط..

الحب والتربية صنوان في الإسلام

بحسب ما تقدم، لابد من اطلالة خاطفة على حقل اهتم به الاسلام اهتماما عظيما، التربية هذا الحقل الاستراتيجي والحساس جدا، كونه محل إعراب المبادئ والقيم، إذا نال قسطا وافرا  من العلم والنظم والتخطيط والتنمية والإبداع كان أمين مستقبل الأمة ومرشدها للخير كله..

في ظل ظواهر التطرف والتعصب والأحادية الفكرية والإيمانية والاجتماعية والرغبة في نفي المغاير واستئصاله، يتجه النظر مباشرة نحو سؤال التربية في واقعنا هل هي ذات أصول ومبادئ ثقافتنا الإسلامية السليمة أم من صور  كمثل الذين خلطوا عملا صالحا وآخر فاسدا فعسى الله أن يتوب عليهم؟؟

 هناك انحرافات عديدة وخطيرة وعظيمة في واقعنا كمسلمين اتت على العديد من القيم التربوية الإسلامية، حتى أصبح الحب عيب في ثقافتنا التربوية وناشئتنا لا تربطها صلة حقيقية بالحب وثقافة الحب، ولا يعني لها الحب شيئا سوى نظرة فوردة فغواية ..!!

هناك جهل بالحب إسلاميا في ثقافة التربية، الأب لا يقول للأم احبك أمام اولاده لأن ذلك ضعف ذكوري وعيب إجتماعي وانحدار عرفي اخلاقي، وبعض الوالدين لا ينطقوا بكلمة حب لأولادهم لأن ذلك يفسدهم بل لابد من الشدة والعنف حتى يصبحوا ناجحين،  هكذا تلاشت معالم الحب بيننا، فالحب الكلمة والمعاملة والقضية والحركة حرام عند فقهاء الكراهية ووعاظ التكفير وأدباء الحيل الشرعية..

الحب روح الحياة ولا تنفع المواعظ والكلمات الجافة من الحنان والوعد والإخلاص الصادق، حاجتنا للحب في المنظور التربوي هي حاجة مصيرية لتجفيف منابع التطرف والطغيان والتهميش، ليس مقاربة أكاديمية بقدر ماهي مشروع إصلاح ونظم أمورنا في ظل عولمة القيم وتحديات المستقبل، ومن أسس التربية على الحب، الإنفتاح القلبي على الآخرين، عبر التعارف والتلطف معهم، وليس إعلان الإعدام عليهم بفتاوى وأحكام مسبقة وسلوكيات وحشية تصل لحد القتل، ومن أهمية التربية على الحب، تربية الاطفال على التواصل مع المتفق والمختلف عبر قنوات الحوار واللقاء و(وقولوا للناس حسنا)(سورة البقرة، آية: 83)، وليس بحمية التعصب!!

من هنا فإن التربية على الحب هي خطوة استباقية علاجية لكل ظواهر التطرف والعنف والتخلف في واقعنا العام..

فقه الحب وإشكاليات التجديد:

لا يمكننا تبرئة ساحة الفقه من العديد من التجاوزات لمبادئ الإسلام بحيث أصبح النظر للمسلمين نظرة تشاؤمية وذات حساسية لكل ماهو اسلامي، وهذا الواقع مصدره تاريخ ضخم من الفتاوى الدموية والأفكار القاتلة التي لا تزال تنشر غيوم الشر والبغضاء والشحناءبين المسلمين، حتى جعلت من الحب وهنا ودعة وضعف وتفريط في الحق الموهوم والمصالح الكاذبة، هذه الحال تؤشر لإنحراف كبير لابد من استدراكه عبر تنظيف التراث الفقهي من فتاوى البغض والغش والتدليس والتضليل بإسم الدين، مع نفض الغبار عن جواهر فقه الحب التي تثير في النفوس حب الفقه السليم الذي يعكس روح الحياة لا أساس استجيبوا لما يحييكم، الفقه الذي يربي النفس المسلمة على الانفتاح بصدر رحب على الله الحق وعباده والخلافة بالأرض التي ترتبط بالشهادة الحضارية والمدنية لا الموت النابع من جهل مركب بمعنى الحياة الرسالة، فقه الحب هو مدخل محوري في تفكيك إشكاليات التجديد الديني، هذا المبحث الذي لايزال محل لغط وفوضى وجدال دون فهمه الفهم الصحيح الذي يتصل بالتنمية المعرفية والنهوض الثقافي والإقلاع الإجتهادي المصاحب للتحديات والتطلعات، تلك الإشكاليات التي نشأت من خطابات البغض والتسقيط والتحريف والتخويف من كل محاولة نقدية تجديدية في حقول المعرفة الدينية الإسلامية وليس مبادئ الدين الخالدة والرئيسية في معادلة وعي المنظومة الإسلامية، حتى كان فقه الحب ضلال وإبتداع، لذا لابد من إثارة الحوار البناء حول ماهية فقه الحب وأبعاده وذلك عبر وعي أصوله وجذوره في العقيدة والسلوك من خلال معالم القرآن ومعارفه والسنة الشريفة وإضاءاتها، حتى تنطلق عجلة التجديد كمنارة للمناهج والقراءات والمقاربات والنظم والرؤى والتطلعات على ضوء أصول فقه الحب الإسلامية، ما سوف يعكس حقائق التسامح والتعارف والتعايش والتعاون بين المسلمين ضمن إطار الحب الإسلامي الذي يواجه الأديان المذهبية وطوائف الكراهية والبغضاء..

عند النظر في هذه الصور الخاصة بالحب في واقعنا، يمكن القول أنها تعبر عن تراكم تاريخي من مستويات الفكر والفلسفة والفقه والفن والأدب والثقافة في منظومة الدين الإسلامي، وبالتالي فإن إشكالات ومشكلات التطرف التي تعبر عن منظومة ثقافية للبغض والكراهية، لا ينبغي أن تظل بالضرورة  الصورة النهائية أو المكتملة حول الفقه والفكر والفهم. بمعنى أن الحاجة إلى تجديد الوعي ومراجعته وإعادة النظر في معاملاته، سيبقى ضرورة مستمرة للقديم والجديد والمستقبلي لتطويره وصيانة تراكمه، فالتجديد هو من دواعي التجديد، والإبداع الحضاري نواته تجديد حب الحضارة وحب التجديد الثقافة الحضارية..

 

بقلم: أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

 

في المثقف اليوم