قضايا

ثامر عباس: مفاهيم العولمة الثقافية.. كيف نفهمها!

لا مناص من الإقرار بأننا، نحن شعوب العالم البائس، لسنا – ولن نكون - بمنأى عن دوامات العولمة وتياراتها المختلفة؛ السياسية والاقتصادية والثقافية والجغرافية، الخ . بيد إننا ورغم ذلك لا نزال نجهل ونضلل ليس فقط كيفية التعامل معها بما يدرء عنا المخاطر والإضرار الناجمة عنها من جهة، أو نستقبل المنافع ونستجلب الفوائد التي تتمخض عنها بصورة عرضية، ومن ثم نتمثل هذه الحسنات داخل فضاءاتنا العقلية والثقافية والنفسية من جهة أخرى فحسب، وإنما لا نبرح نخوض في أتونها بلا مرشد أمين ونعوم وسط متاهاتها بلا دليل واضح . لا بل حتى دون أن نملك أدنى فكرة عن حجم دورنا في حراكها الكوني، ومقدار إسهامنا في دينامياتها الشاملة . وهو الأمر الذي أوقعنا في الكثير من حالات الالتباس بين المفاهيم الصادرة عنها، والخلط بين الأفكار المتشكلة حولها، والتداخل بين التصورات الرائجة عنها . 

ولكي لا تستدرجنا إغراءات التعميم الاعتباطي، بحيث ننظر إلى كافة شعوب العالم كما لو أنها نسخت عن بعضها أوتوماتيكيا"، بما يسوقها للتعامل مع ظاهرة (العولمة الثقافية) بطريقة واحدة وأسلوب متشابه، فان من الضرورة بمكان الإشارة إلى حقيقة أن بعض من تلك الشعوب نجحت نجاحا"باهرا"، ليس فقط في تجنب الوقوع في مصائدها المضمرة والتغلب على شباكها الناعمة فحسب، بل وكذلك تمكنت من استثمار ما تحمله هذه العولمة من إمكانات  مفيدة وخيارات واعدة . هذا في حين أخفقت شعوب أخرى في الإفلات من تلك المصائد وعجزت عن التغلب على تلك الشباك؛ إما بفعل المغريات المادية والمحفزات المعنوية التي طالما يلهث خلفها صنّاع القرار السياسي في البلدان التي تستهلك أكثر مما تنتج، أو بدوافع حسن النوايا وسلامة الطوايا المبنية على مناقبيات تقليدية لم صالحة في العلاقات الدولية، والتي غالبا"ما كان أصحابها ضحية المساومات السياسية المشبوهة والاتفاقيات الاقتصادية المجحفة .

ولكي يتاح لنا أن نتخطى حواجز الجهل وموانع التضليل المضروبة حولنا والموضوعة أمامنا، للحيلولة دون استيعابنا وفهمنا لمضامين مفاهيم ومصطلحات (العولمة الثقافية)، حري بنا التريث في استخدام ما يعرض علينا والتأني في التعاطي مع ما يرد إلينا، قبل أن يتاح لنا استقراء ما تحمله من معاني وما تضمره من دلالات . فمفاهيم من قبيل (التثاقف الفكري) و(التلاقح الحضاري) و(التعددية الثقافية)، ليست من وجهة نظر أقطاب (العولمة الثقافية) بريئة من المقاصد أو منزهة عن النوايا، كما يعتقد أغلبنا تحت وابل انغمارنا بسيول الدراسات والخطابات التي تبثها مراكز البحوث الغربية، فضلا"عن الحشد الهائل من الكتاب والصحفيين الذين يستخدمون منصات وسائل التواصل الاجتماعي، لبث أفكارهم وترويج آرائهم عن الحداثة وما بعد الحداثة . ولعل كتاب الانثروبولوجي الفرنسي (جيرار ليكلرك) الموسوم (الانثروبولوجيا والاستعمار)، كان من بين المحاولات الجريئة الأولى التي أماطة اللثام عن مساوئ مفهوم (التثاقف) حين يتم تطبيقه بين ثقافة أمة (غالبة / مسيطرة) وبين ثقافة أمة (مغلوبة / مسيطر عليها) .

والحال إن المراد بمصطلح (التثاقف الفكري) حمل الشعوب التقليدية على إزالة مظاهر الممانعات الذهنية والسيكولوجية التي تبديها تلك الشعوب حيال منتجات الفكر الغربي الحداثي وما بعد الحداثي، لاسيما تمظهراته (الليبرالية / الفردية) و(الماركسية / العلمانية)، فضلا"عن بعض تياراته ذات التوجه الإلحادي والفوضوي . ولأن منظومات الثقافة في هذا النمط من المجتمعات تشكو الهشاشة في بنيتها والهزال في قيمها، الأمر الذي أضعف جهاز مناعتها الذاتية وجردها من كل ما من شأنه تعزيز حصانتها ضد الغزوات والمؤثرات الخارجية، ويجعلها من ثم في موقف لا تحسد عليه إزاء دوامات العصف التي لا تفتأ تضرب سواحلها من جميع الجهات .

هذا في حين يراد لمصطلح (التلاقح الحضاري) هو إجراء عمليات (تلقيح) أو (تنقيح) جملة التقاليد الاجتماعية والأعراف الأخلاقية والعادات السلوكية والأنساق الثقافية، التي تشكّل البناء التحتي للشخصية الاجتماعية في مثل هذه المجتمعات العامرة بالمواريث الأسطورية والسرديات التاريخية . وذلك للحدّ من سلطة السيكولوجيا الاجتماعية المهيمنة التي غالبا"ما تؤثر في خيارات وتوجهات الأفراد والجماعات، تحت طائلة التوجس من مبادرات الآخر (الغريب / المختلف) المحمولة على محمل الرفض والممانعة، نتيجة لرواسب ومخلفات الحقبة الاستعمارية السابقة وما تركته من ندوب في الوعي وشروخ في الذاكرة، يأبى الزمن أن يعالجها بالنسيان أو يمحوها بالغفران ! . ولهذا ينبغي أن نستوعب حقيقة إن تلك العمليات / المبادرات، لا تعدو أن تكون بمثابة (تهجين) أقرب منها إلى (التلاقح)، وهو الأمر الذي دعى المفكر الهندي (هومي بابا) ومن قبله المفكر الفلسطيني (ادوارد سعيد) إلى استخدام هذا المفهوم الموفق للتعبير عن هذه الحالة أو تلك الظاهرة  .

وإذا ما قاربنا، أخيرا"، مصطلح (التعددية الثقافية) فإننا سنكتشف إن الغاية التي يستهدفها والهدف الذي ينشده، ليس الحفاظ على حقوق الأقليات الدينية المختلفة والجماعات الحضارية المتنوعة التي تزخر بها غالبية المجتمعات التاريخية المعروفة كما يزعم ويشاع عادة في الخطابات والسرديات، وإنما المراد هو تجريد الدول الوطنية من هيبتها وسيادتها والحكومات المحلية من سلطتها وشرعيتها، عبر تحريك وتفعيل ملفات تلك الأقليات والجماعات عبر تنشيطها سياسيا"وإنعاشها إيديولوجيا"، ومن ثم حثها على المطالبة بحقوقها (المنسية) ومصالحها (المهدورة) وحرياتها (المعدومة)، تحت مسمى (حقوق الإنسان) و(العدالة الاجتماعية) . 

 

 ثامر عباس        

 

في المثقف اليوم