قضايا

مجدي إبراهيم: لمَ لمْ نتوحد؟!

قلة افتقار العربى المسلم إلى فهم غريزة التوحيد، لم تجعله يتمكن فى ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلى والثقافى ولا على المستوى العملى التطبيقى، غير أنه ينكص على عقبيه، ويعودُ أدراجه مستغرقاً فى التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري؛ لأن يجرى عليه ممارسته العملية والواقعية؛ فأضحى تدينه فى كفة، ونشاطه الفكرى والثقافى والعملى فى كفة أخرى، فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحُّد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التى هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها.

لكأنما العربى لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاها تكون فطرة الوحدانية؟ لكأنه لم يستطع بعدُ، لأجل تدينه الساذج البسيط، أن يكوِّن لديه رؤية موحَّدة، يجريها على الواقع الفكرى والنظري، تماماً كما يجريها على الواقع الفعلى والتطبيقى، كما هى مُقررة قبلاً فى الواقع الدينى بالفعل، إذْ إن فكرة الرؤية الموحدة تلك، إنما هى فكرة دينية بالأساس، وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

ثم ما معنى أن تكون متديناً بدين التوحيد الذى فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً وروحياً؛ ليكون هو عينه مجرى التجربة على المستوى الفعلى والتطبيقى؟

إنّما العائق الوحيد أمام العقل العربى يبدو ظاهراً جلياً فى قلة الفهم أو عدمه لفطرة التوحيد، وتعطيل فاعلية الوحدة على صعيد الممارسة السلوكية، ونبذ قوتها واستبدالها بضعف الفرقة والخلاف والتشتت الدائم والاستغراق فى التفاصيل والجزئيات؛ لتجىء التجزيئية هى العاملة فى واقع أسود مُغرق فى المحدودية النظرية والعملية؛ الأمر الذى يجعل الباحث يشك كثيراً فى أمته العربية والإسلامية: هل هذه بالفعل، والحال كما ترى، أمة تدين بالتوحيد عقيدة وعلماً ونظراً وسلوكاً وممارسة وتطبيقاً؟!

وهى إذا كانت تدين بالتوحيد فعلاً وتقريراً وواقعاً وتفصيلاً، فلماذا عزلته عن واقعاتها الحياتية، فلم يسفر إلا عن فرقة وشتات : عزلته عن الواقع الفكرى، فلم تستطع أن تتخذه أساساً لمنطلقاتها النظرية، وعزلته عن الواقع الفعلى، فلم تتحقق من مجرياته التطبيقية، ولم يؤثر قيد أنملة فى وقائع تلك المجريات، وعزلته مرة ثالثة عن الواقع الدينى، فأنتج واقع الأمة التى تدين بعقيدة التوحيد شكلاً ينقصه المضمون؛ أنتج أصناماً وأوثاناً تُعْبَد من دون الله فى أشكال جديدة، وقدَّست المخلوقين بدلاً من تقديس الخالق، وآمنت بالخرافة والتخلف دون الإيمان بالفهم البصير والعقل المستنير، وارتضت بالمذلة والهوان وقلة القيمة فى واقعها الأسود لا تملك فيه سوى شعارات الغضب.

ولم لا؟! فإذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الدينى أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظرى والفكرى ثم الواقع الفعلى، الأمر الذى جعل الإيمان الدينى لدى المسلم قشرة سطحية تخلو أو تكاد من المضمون العملى؛ وهو الذى لا نشك لحظة واحدة فى أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة، ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّى الوحدة.

ولكن الواقع الثقافى العربى الحالى يقول لك بأبلغ لسان: إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، الأمر الذى أطمع الأغيار فينا حتى دهسونا بأقدم النعال.

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم