قضايا

فاضل حسن شريف: حكمة الحاكم في القرآن الكريم (1)

الحكم كمصطلح مشتق من الحكمة، لذلك فإن الحاكم اصلا عليه ان يتصف بالحكمة والا فانه لا يسمى حاكما وربما الأولى أن يسمى ظالما. والحكمة ذكرت في ايات عديدة منها " وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة 151) وهذا يعني ان الحاكم عليه ان يتعلم الحكمة. وما لقمان الا نموذجا للحكام وان لم يكن حاكما "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان 12). والله ينزل على الانبياء الحكمة "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (النساء 113) و"وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة 251) فالملك بدون حكمة لا فائدة منه. والحاكم في منهجه ودعوته عليه ان يكون حكيما "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل 125) والذي لا يتصف بالحكمة عليه ان يغادر الحكم لانه يخرج عن الارادة الربانية "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" (البقرة 269) كون الحكمة من معانيها الاصابة في القول والفعل وبالتالي فالحاكم الذي يؤتى الحكمة فان الخير يعم عليه وعلى شعبه. والحاكم الحكيم داوود عليه السلام الذي حكم 40 سنة كان جنديا في جيش الملك طالوت حيث تحول الملك اليه بعد هزيمة جالوت "فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ" (البقرة 251).

عن علاقة الحكم بالنبوة قال الله سبحانه و تعالى "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" ﴿آل عمران 79﴾، و "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ" ﴿المائدة 20﴾، و "فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ" ﴿المائدة 44﴾. وعن علاقة الحكمة بالكتاب قال الله تعالى "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" ﴿البقرة 113﴾، و "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" ﴿البقرة 151﴾.

جاء في  تفسير غريب القرآن لفخر الدين الطريحي النجفي: (حكم) "منه آيات محكمات" (ال عمران 7) في المحكم أقوال للمفسرين والأصح منها على ما قيل: ان المحكم ما هو واضح قائم بنفسه لا يفتقر إلى استدلال كقوله تعالى "قل هو الله أحد" (الاخلاص 1) إلى آخر السورة، والمتشابه: ما يقابله، و "أحكمت آياته" (هود 1) أي بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد أو أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال و الاشتباه، وحكم وحكمه، كما يقال: ذل وذله، وحكمة: اسم للعقل وإنما سمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل، و "بالحكمة" (النحل 125) أي النبوة، و "الموعظة الحسنة" (النحل 125) أي القرآن، و "اتيناه الحكمة" (ص 20) أي الزبور وعلم الشرائع، وقيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة، ويقال: الحكمة فهم المعاني، وسميت حكمة لأنها مانعة من الجهل قال تعالى: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" (البقرة 269) وفي الخبر "ومن يؤت الحكمة" (البقرة 269) هي طاعة الله تعالى ومعرفة الإمام عليه السلام ويقال في قوله: "ويعلمه الكتاب والحكمة" (ال عمران 48) أي الفقه والمعرفة و "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" (النساء 34) أي حاكم، و "الحكيم" من صفات الله تعالى لذاته بمعنى العالم، ويجوز أن يكون من صفات الفعل، و "القران الحكيم" (يس 1) أي المحكم قاله أبو عبيدة. (فهم) "ففهمناها سليمان" (الانبياء 79) الضمير للحكومة والفتوى حيث حكم داود بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان: وهو ابن أحد عشر سنة غير هذا يا نبي الله أرفق بالفريقين قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بها، والحرث إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان فقال القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، والصحيح إنهما جميعا حكما بالوحي إلا أن حكومة سليمان نسخت حكومة داود لان الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظن والاجتهاد ولهم طريق إلى العلم وفي قوله "وكلا اتينا حكما وعلما" (الانبياء 79) دلالة على أن كلا منهما كان مصيبا. قوله تعالى "وآتيناه الحكم صبيا" (مريم 11) أي الحكمة والنبوة وهو ابن ثلاث سنين وهو يحيى عليه السلام. قوله تعالى "إذا قضى أمرا" (الاسراء 13) أي أحكمه و "وقال الشيطان لما قضي الأمر" (ابراهيم 22) أي احكم وفرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. قال تعالى "واتيناه الحكمة وفصل الخطاب" (ص 20) وعن مجاهد الفهم في الحكومات والفصل في الخصومات. قوله تعالى "ثم فصلت" (هود 1) أي كما يفصل القلائد بدليل التوحيد، والمواعظ، والأحكام والقصص أو جعلت فصولا آية آية، وسورة سورة، أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة. قوله تعالى و "افتح بيننا" (الاعراف 88) أي أحكم "بيننا" (الاعراف 88).

قصرت معرفتنا عن جميع جهات الحكمة في أفعاله جلَّ شأنه: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة 30). فسبحان من لا يسأل عن فعله لكمال حكمته وهم يسألون. قال الله تعالى "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (يوسف 22)  ضرب الله سبحانه مثلا للفتيان والشباب هو النبي يوسف عليه السلام الذي اتاه العلم والحكمة عندما بلغ اشده حيث صمد امام الاغراءات صابرا محتسبا، وصبر امام الاضطهاد والقمع والمطاردة والتهديد بالسجن والنفي، وكافح امام المجتمع الفاسد.

الحكمة والموعظة متلازمتان والدعوة لهما ان تكون بالحسنة وسعة الصدر والتسامح "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل 125) و "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" (البقرة 83). وخطبة الوعظ تكافح الجهل "إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (هود 46). من معاني الموعظة في القرآن الحكمة  "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" (القمر 4). الخطيب الواعظ عليه ان يكون قدوة باخلاقه وسلوكه وكما جاء في الحكمة (كُونوا دُعاةً إلى أَنفُسِكُم بغيرِ ألسِنَتِكُم). قال الله تعالى "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ" (البقرة 44) و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف 2). وكتاب الله هو مصدر الوعظ الاساسي "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِيَعِظُكُمْ بِهِ " (البقرة 231). والمشاكس عليك وعظه قبل انزال العقوبة عليه "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ " (النساء 34) وتعتبر وصايا لقمان هي في حقيقتها وعظ "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ" (لقمان 13). و الواعظ الجيد هو من ينهى مستمعيه او القراء عن الفحشاء والمنكر "وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل 90). والشخص الذي يتعظ من الموعظة عليه ان يلتزم بها وان لا يعود لاعماله المنكرة "يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (النور 17). كان الرسل خطباء يدعون اقوامهم إلى الله عز وجل، وخاتمهم النبي صلى الله عليه واله وسلم "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ (الحجر 94). أن كل نبي في خطبه عنده الحجة والبرهان من الكتاب المنزل عليه ويعلمهم ما لم يعلموا "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" (البقرة 151).

***

د. فاضل حسن شريف

في المثقف اليوم