قضايا

حاتم حميد محسن: ماذا يمكن ان نتعلم من سقوط شجرة؟

عندما تسقط شجرة في غابة نائية، ولا أحد هناك قرب الشجرة، فهل يُسمع لها صوت؟ اذا كنا نعني بـ "الصوت" اهتزاز الهواء المحيط بها، الجواب هو نعم، حيث ان سقوط الشجرة يؤدي الى اهتزاز الهواء حولها. ولكن اذا كنا نعني بالصوت الوعي بالضوضاء التي نسمعها عندما يتفاعل جهازنا الحسي مع الهواء المهتز، في هذه الحالة اذا لم يكن هناك أحد قرب الشجرة عند سقوطها فسوف لا يوجد جهاز حسي يتفاعل معه الهواء المهتز، وبالتالي لن يحصل أي وعي بالضوضاء ولا يُسمع شيء.

لذا فان الجواب على هذا السؤال القديم يعتمد على الكيفية التي نعرّف بها "الصوت". اذا كنا نعرّف الصوت كتجربة واعية عندئذ سوف لن يسبّب سقوط الشجرة أي صوت، ولكن اذا كنا نعرّف الصوت كـ "هواء مهتز" فان الشجرة الساقطة ستسبّب صوتا. وبهذا تُحل المشكلة.

المسألة الأساسية في السؤال هي ليس ان يُجاب على السؤال بسرعة ثم يُوضع جانبا، بل ان المسألة هي أبعد من ذلك، وتنطوي على تفكير عميق في مفهوم "الصوت".

فمن جهة، نحن نصنف "صوت" كعملية ميكانيكية توجد،"في الخارج" بدوننا. ومن جهة اخرى، نحن نعتبره كتجربة وعي خاصة، وجودها يعتمد علينا كليا. عندما نتحدث عن الصوت كتجربة خاصة للوعي، نحن ندرك انه لا يقتصر فقط على الأصوات. كل شيء نتعامل معه – كل شيء نراه، نسمعه، نشمه، نلمسه، نتذوقه – جميعها تعتمد على جهازنا الحسي، أي تعتمد علينا. بدوننا سوف لن توجد تجاربنا. وكما يوضح غاليلو الفلكي الكبير في القرن السادس عشر: "الذوق، الروائح، الألوان .. تكمن فقط في الوعي. عندما يزول الكائن الحي، كل هذه الصفات ستزول وتُمحى تماما".

لو انتزعنا بعيدا كل أحاسيسنا، واستُبدلت تجاربنا بالعالم بـ اللّالون، اللّاصوت، اللّارائحة، اللّاذوق. ماذا يتبقى بدوننا؟ سؤالنا الأصلي حول سقوط الشجرة هو سؤال صعب له معاني عميقة. بمعنى:

"اذا لم تكن هناك حياة واعية، هل سيكون هناك وجود للكون المادي؟ ردة فعلنا السريعة لهذا السؤال ستكون،"بالطبع نعم". لكن لو فكرنا مرة اخرى: اذا لم يكن هناك شيء واعي، عندئذ لا شيء سيُمارس او يكون موضوع للتجربة. سوف لن يكون هناك شيء يشبه ما نسميه "وجود". لا الوان، لا اصوات، لا روائح، لا اذواق، لا تلمّس للاشياء، لا معنى للزمان والمكان.

هل الوعي أكثر جوهرية من المادة؟

عند التفكير في هذا الموقف العام والغريب نجد ان عددا هائلا من المفكرين استنتجوا ان الوعي يجب ان يكون أكثر أهمية من "المادة" التي يتصورها الوعي. فمثلا، الفيلسوف جورج باركلي (1685-1753) في عمل له عام 1710 "مقال يتعلق بمبادئ المعرفة الانسانية" يناقش سخافة ان يكون هناك عالم موجود بشكل مستقل عن ذهننا الواعي . طبقا لباركلي "انه في الحقيقة رأي غريب سائد بين الناس في ان البيوت والجبال والأنهار وكل الأشياء المحسوسة، لها وجود طبيعي او واقعي متميز عن كونها مُدركة بواسطة الفهم .. لأن الأشياء المذكورة ليست الاّ أشياء نتصورها بالحواس؟ واننا لا ندرك أشياءً عدى  أفكارنا وأحاسيسنا، وانه من غير المنسجم والغريب ان يوجد أي واحد او أي مجموعة من تلك الأشياء اذا لم تكن مُدركة.

وفق هذه الرؤية، من السخف القول ان سقوط شجرة يسبب صوتا. بالنسبة لباركلي من الحماقة القول ان شجرة موجودة هناك بدون وجود ذهن يتصورها.

يؤكد باركلي ان جميع المعرفة تأتي من الادراك، ما ندرك هو افكار فقط ،وليست الاشياء في ذاتها، الشيء في ذاته يجب ان يكون خارج التجربة، لذا فان العالم يتألف فقط من أفكار وأذهان تدرك تلك الافكار، الشيء يوجد فقط بمقدار ما يُدرك. من هنا نحن يمكننا ان نرى ان الوعي يُعتبر شيء ما موجود بسبب قدرته على ان يدرِك. باركلي أنكر وجود المادة كشيء ميتافيزيقي، هو لم ينكر وجود الأشياء الفيزيقية كالبيوت والانهار،هو أنكر ما يسميه الفلاسفة المادة matter.(1)

يعرض باركلي حجته في إنكار المادة كالتالي:

1- نحن ندرك الأشياء العادية (بيوت، جبال، وغيرها)

2- نحن ندرك فقط الأفكار، ولذلك

3- فان الأشياء العادية هي أفكار.

ولكي نستطلع ايضا باختصار حالة التوتر بين التصور والواقع، يمكن النظر في تعليق للفائز بجائزة نوبل في فيزياء الكوانتم الفيزيائي ماكس بلانك في مقابلة معه عام 1931:

"انا أعتبر الوعي أساسيا. انا أعتبر المادة مشتقة من الوعي. كل شيء نتحدث عنه، كل شيء نعتبره موجودا يفترض الوعي".

***

حاتم حميد محسن

................................

الهوامش

(1) تعرضت مثالية باركلي للكثير من الانتقادات منها مثلا:

1- هناك مشكلة الموضوعية في تفكيره. اذا انا ادرك المنضدة فهي ستكون موجودة. واذا كان زيد يدرك المنضدة فهي ايضا ستكون موجودة. ما الذي يضمن ان ما نراه هو نفس المنضدة؟ باعتبار ان المرء لديه فقط أحاسيسه الخاصة به، لماذا نفترض ان هذه الاشياء يشترك بها الآخرون، او ان هناك عالم مشترك؟

2- في كتابه Sense and sensibilia يؤكد اوستن J.L.Austin بان: الشيء المألوف لنا هو اننا لم نشعر في يوم ما اننا بحاجة لتبرير إعتقادنا بوجود الأشياء المادية. في اللحظة الراهنة،مثلا، انا ليس لدي شك بأني ادرك الأشياء المألوفة مثل،الكرسي والطاولة والكتب والصور التي تزيّن غرفتي، وانا لذلك مقتنع انها موجودة. انا أعترف بان الناس احيانا تخدعهم حواسهم لكن هذا لا يقودني للشك عموما بان ادراكي الحسي لايمكن الوثوق به او انه يخدعني الآن.

3- الأنانية solipsism: وهي شكل متطرف للمثالية الذاتية تنكر ان يكون للذهن الانساني أي أساس صالح للاعتقاد بوجود أي شيء الاّ ذاته. حجة باركلي المبكرة – ان كل شيء يدركه المرء هو معتمد على الذهن – تشير الى ان لا سبب للاعتقاد بوجود أي شيء يتجاوز تجربة المرء. اذا كان شعار "لكي يكون الشيء موجودا هو ان يُدرك"، عندئذ ما هو السبب لديّ للاعتقاد بوجود الناس الآخرين والأشياء عندما لا ادرك أي منهم حينما أكون نائما مثلا؟ اذا كانت المثالية صحيحة، فهي تعني ان لا شيء يوجد ما لم ادركه انا – وان العالم لم يوجد قبل ان اولد، وهذا العالم غير موجود عندما أغلق عيني او أذهب للنوم. جواب باركلي هو ان الله موجود، ويدرك أي شيء حتى عندما لا أدرك انا ذلك.

 

في المثقف اليوم