قضايا

محمود محمد علي: قراءة في مشروع عصمت نصار الفلسفي (2)

ذكرنا في المقالة السابقة أن الأستاذ الدكتور عصمت نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، كان من المؤمنين بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية، حيث إن وظيفة التعليم في نظره تعد من أهم وأخطر الوظائف في المجتمع، فعملية التعليم فضلا عن دورها في تثقيف الأجيال الصاعدة فهي تساهم في نظر عصمت نصار الوجدان المشترك وترسم صورة مستقبل الأمة بألوان متجانسة .

إن دولتنا العربية اليوم في نظر عصمت نصار تعيش في حالة شيزوفرينيا أو ازدواجية إن صح التعبير فهي مدنية من حيث الشكل وتعريفها لنفسها، لكن في الوقت نفسه لا زال الدين يلعب دورا رئيسا في التشريع والعلاقات والمعاملات بين الناس، وكذلك في التعليم، فالدين ليس حاضرا عبر مادة التربية الدينية فقط، بل في كافة مواد العلوم الإنسانية أيضا، بل حتى في تعليم العلوم الطبيعية هو موجود، فحتى يومنا هذا لازال تناول نظرية التطور علي سبيل المثال في كثير من الدول العربية مسألة شائكة جدا ومحل جدل وممنوع تدريسها في أغلب دولنا العربية.

وعملية تديين التعليم في نظر عصمت نصار في بلادنا تتم عبر مسارين: مسار رسمي تعكسه مناهج التعليم، ومسار غير رسمي عبر ما يلقنه المعلمون لطلابهم شفاهة من خارج المنهج، بل حتى أن بعض المعلمين ينتقدون ويخطئون ما جاء في المنهج إن وجدوا ما يتعارض مع ما يعتقدون أنه الحقيقة الدينية .

وهنا يتساءل عصمت نصار: هل ما نسميه تديين التعليم شيء صحي؟، أم أنه يتعارض مع بنية ومفهوم الدولة المدنية؟

وهنا يجيبنا  قائلا: أنا أرفض مدنية التعليم وذلك لأن الدين بطبيعته مدنيا، فهو يحوي ثوابت شرعية تندرج تحت ما يسمي قطعية ثبوت وقطعية دلالة، وهذا يعد نوعا من السماحة والاتساع اللذين يستوعبان أي نسق فيه خيرية للإنسان وليس المتبع أو المنضوي تحت عباءة أي دين .

وهنا يريد عصمت نصار أن يكون الثابت آمرا بالمعروف القطعي الذي يقبله العقل، وناهيا عن المنكر الذي يأباه الإنسان علي نفسه وعلى غيره، وأن التطبيق فيه بعض العوار ؛ ومن ثم لا يمكن الموافقة على التفرقة في نظر عصمت نصار ما بين مدني وديني لأن التعليم الديني في رأيه مدني بالضرورة، وهذه القضية قد ناقشها أجدادنا تحت مسمى مثل إشكالية النقل والعقل، وإشكالية الشريعة والحكمة، والآن في نظر عصمت نصار تناقش تحت مسميات مثل إشكالية التعليم بين التدين والمدنية.

وفي نظر عصمت نصار أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار كان يعبر عن الاتجاه المحافظ المستنير الذي جمع بين الأصالة والمعاصرة، والعقل، والنقل، والدين، والتعليم، وذلك لتلبية احتياجات الواقع القائم على فكرة عدم الرفض للمدنية الغربية والعلوم العصرية ؛ علاوة على أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار في نظر عصمت نصار خطاب تجديدي ويمثل مشروع مصري حضاري، وهذا المشروع يعبر عن هموم المجتمع المصري وطموحاته وغاية التطوير والتحديث، وآلياته ومعايير نقض الموروث والوافد لانتخاب الأفضل لدرء المفاسد وجلب المصالح، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل في نظر عصمت نصار على أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار الفكري يدعو إلى تجديد الفكر الإسلامي وفتح باب الاجتهاد والفصل بين الثابت العقدي والفكر الموروث وتجديد اللغة العربية وتحديث ميادين إبداعاتها ونقض الراكد من أساليبها واستبعاد الوحشي من مفرداتها، وتطوير تهوج دراستها .

ولا يعني ذلك في نظر عصمت نصار إنكار دور المؤسسات الأجنبية في بناء خطاب التجديد، بل الذي يريد توضيحه في هذا السياق أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار لم ينتحلوا الأغيار ولم يقلدوا مشروعات الأجانب، بل ابتضعوا المعارف العلمية والمناهج الحديثة والأساليب المتطورة من جل الثقافات التي اتصلوا بها عن طريق حركة التجارة، أو البعثات العلمية أو حركة الترجمة ؛ ثم أعملوا فيها النقد، ووظفوا النافع منها لخدمة مشروعهم الحضاري بعد صبغته بالصبغة المصرية، أي أن محمد عبده ومن قبله حسن العطار قد استطاعوا منذ البداية وضع الأسس والخطوط الرئيسة لخطابهم ومشروعهم، ويبدوا ذلك جليا في ربطهم بين النظر والعمل، وفضلهم بين الثابت والمتغير، وتجنبهم الصدام مع السلطات المهيمنة على صناعة القرار والعمل على توجيهها لخدمة مشروعهم، وتقديمهم تحديد الغايات على البحث في الوسائل، وانتخابهم مناهج التطبيق، ذلك فضلا عن براعتهم في صياغة لغة الخطاب وموضوعيتهم وواقعيتهم في مناقشة القضايا والتغلب على المشكلات.

ويعتقد عصمت نصار أن خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار كان المرشف الذي فك ظمأ كل من " أمين الخولي "، وعبد المتعال الصعيدي"، ومحمد عمارة" - ويبدو ذلك في قراءة الأخير المتأنية لدعوة حسن العطار لابتضاع المعارف الغربية والكشف عن ما من منافع ونقد الموروث لتخليصه من معوقات التقدم وفتح باب الاجتهاد واستنفار طاقات الأنا لتستيقظ من ثباتها وتحييِ مجدها التليد.

وهكذ يكون التجديد في نظر عصمت نصار ليس حراسة الدين بنفي كل دخيل يمس أصوله أو فروعه، ولا ابتضاع المعارف الغربية بحيث تكون مرهونة بقدرة المسلمين على أسلمتها، وإنما التجديد يعني المزج بين الأصالة والمعاصرة حفاظا على الثابت من العقيدة والانفتاح على كل الثقافات لانتقاء النافع من المتغيرات .

وهنا يفرق عصمت نصار بين التجديد والتقليد، فالتجديد عنده عمل عقلي يمكن صاحبه من نقد الموضوع المراد تجديده فيق على صحيحه ثوابته فيستبعد الفاسد من عواضه ويستحدث عوضا عنها ما يتلاءم مع الأصل ويصبح نافعا ملائما للعصر، أما التقليد فهو المسايرة للغير فحسب، دون فحص أو تحليل، أو الإتيان بدليل أو حجة تبرر اتباعه واقتفاءه، ولا يفرق عصمت نصار بين تقليد الموروث وتقليد المستحدث، فكلاهما مذموم، فليس كل الموروث نافع وليس كل المستحدث ضار، ومن ثم ينبغي على المجدد الاجتهاد في فحص كل هذا وذلك .

وهنا يعلن عصمت نصار أنه في هذا وذلك متأثر بخطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار القائم على تحرير العقل من قيد التقليد، وتنقية الأذهان من الفكر الموروث الذي لا أساس له في الأصول الشرعية وهذا لن يتأتى في العملية التعليمية إلا بالتربية الصحيحة بمنأى عن التعصب والعوائد السيئة، والبحث على طلب العلم، وترغيب القلوب في رضاء الخالق وترهيبها مما يغضبه، هذا بالإضافة إلى الرجوع بالدين إلى نقاءه وسذاجته الأولى ؛ أي قبل الفتن وظهور البدع وانقسام الأمة إلى شيع وأحزاب، وذلك لاستنباط الأحكام من القرآن وصحيح السنة، لتيسير عمل المجتهدين للوقوف على مقاصد الشرع .

وعليه يصبح التجديد عند عصمت نصار هو السير على هدي خطاب محمد عبده ومن قبله حسن العطار من خلال العمل على إزالة ما طرأ على الأصول والكليات والقسمات الأساسية في الشريعة الإسلامية مما يتعارض مع روحها ومقاصدها للكشف عن نقاء هذه الأصول وإعادتها بالتعقل والاجتهاد لتفعل فعلها في مستحدثات الأمور، وما جد ويستجد في واقع الحياة .

ومن ثم يكون التجديد في  نظر عصمت نصار هو القدرة على الانتقاء والتقويم، فالمجدد هو المصلح الواعي، والحكيم الفطن، والمجاهد الذي لا يكل عن فك القيود المعطلة للأفكار الحرة التي تسعى لانتقاء النافع والمعين على نهوض مجتمعه وتقدم... ( وللحديث بقية)..

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

في المثقف اليوم