قضايا

محمد بوفلاقة: الاحتفاء باليوم العالمي للُّغة العربيّة

18 ديسمبر

العربيَّة لُغة الشِّعر والفنون

اختارت منظمة هيئة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو»، أن يكون الاحتفال باليوم العالمي للُّغة العربيّة18ديسمبر، عام: (2023م)، تحت عنوان: «العربيّة: لُغة الشِّعر والفنون»، ولا ريب في أن انتقاء هذا العنوان له دلالات متنوِّعة ومُختلفة؛ فقد احتلّ الفكر الشعري في الثقافة العربيّة مكانة مرموقة، وحظي بعناية فائقة؛ إذ أسهم في تراكُم المعرفة، وكما وُصف من لدن القدماء؛ فهو علم العرب الذي ليس لهم علم غيره، والحقّ أن الشعر يتميّز من مجموع الفنون الراقية والجميلة، بضرورة انطلاقه من مضامين فكريّة ظاهرة في صريح العبارة، وإنه ليتهيأ للمنشئ أن يؤلِّف من مواد اللُّغة كلاماً هادفاً خالياً من كل نفحة شعريّة، ولكن لا يتهيأ له بحال أن يؤلف كلاماً شعرياً من دون مضمون فكريٍّ إلى حدّ ما معقول على عكس ما يتهيأ للفنان في الموسيقى أو التمثيل(1).

ولعلّ اللّغة العربيّة أن تكون من أغنى اللّغات بالإيقاع الذي يجعلها لغةً شعريّة بالطّبيعة، ولغة شاعرة؛ كونها بُنيّت على نسق الشعر، وقد يُفهم من هذا القول كذلك، إنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وفي هذا الصدد نستحضر ما ذكرته المستشرقة الألمانية(زيغريد هونكه) بأن العرب شعب من الشعراء، في كتابها المعروف: «شمس العرب تسطع على الغرب»، وقد خصصت الفصل الخامس من كتابها للحديث عن هذا الموضوع،  وقد اكتسبت اللّغة العربيّة اسمها من الإعراب أو العُروبة أو العُروبية؛ أي الفصاحة والوُضوح والبيان، ويمنحها الإيقاع قدرة عجيبة على إنتاج العناصر الصّوتيّة؛ فإذا شِعْرُها لا يختلف كثيرا عن نثرها الرّفيع. بل ربما وجد الأديب المتمكّن، والكاتب المتضلّع من العربيّة، صعوبةً كبيرةَ في الإفْلات من مجموعات الإيقاعات التي تنثال بها عليه كالمطر الهاتن، وتتهادى من حوله كالعرائس(2).

ومهما يكن من سبب النظم؛ فإنه يكاد يقع الإجماع على أن العرب أقوى الأمم شاعريّة، وأقدرهم على الإبداع في الشعر الغنائي، ويدل على ذلك عدد الشعراء، وضروب الشعر، وكثرة الأنواع الشعريّة العربيّة، وهناك العديد من الأسباب التي أسهمت في ازدياد شاعريّة العرب؛ ومنها أن العربي يتسم بنفس حساسة وشعور راق وأريحية وأنفة، وهو سريع الطرب، وسريع الغضب، وفيه بديهة وارتجال، ومن كان هذا شأنه سرعان ما يجيش صدره بجملة من المعاني التي يلفظها لسانه، ولذلك كان النصيب الأوفر، والحظ الأكبر من الشعر العربي للشعر الغنائي والشعر الموسيقي؛ الذي يُعبّرون به عن إحساسهم ويُصورون به مشاعرهم، ويصفون بإسهاب شعورهم، وقد أرجعه العديد من العلماء إلى أحد أربعة فواعل: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغلبة، كما يرجعُ سببُ شاعريّة العرب؛ إلى أن لغتهم شعريّة نظراً لما فيها من أساليب الكناية والاستعارة ودقة التعبير وكثرة المُترادفات؛ مما يُسهِّل وجود القافية، فالعربي من أنطق الأمم، ولغته من أوسع اللُّغات ولفظها أدل من سائر الألفاظ، ومن بين الأسباب التي أدت إلى زيادة شاعريّة العرب؛ صفاء جوِّهم وتفرغهم للتأمُّل في الطبيعة، إذ أن الذين يعيشون في الجو الصافي تكون أذهانهم صافية(3)، ولاسيما إذا كانوا أهل خيال وتصوُّر مثل العرب، فيرقى الصفاء بإبداعهم الشّعريّ.

لقد كانت البادية العربيّة منبع الشِّعر، تثير أخيِلة العرب وتغذيها وتُحرك ألسنتهم؛ واتسمت لغتهم بالسعة والدقة، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بالحياة في البادية، وقد تميّزت تلك الأخيلة بالحُرية والاستقلال، حيث إن الإنسان العربي ينعم بمنظر الأراضي الشاسعة والمُترامية والمُمتدة أمامه كالبساط، فيجيش صدره بالشعر وينساب على لسانه عذباً سلسبيلا، نظراً لما اتصفوا به من ذكاء حاد؛ فإننا نلفي في شعرهم اللمحات الخاطفة والإشارات البعيدة، بيد أن العديد من الدارسين لاحظوا أن ذكاءهم لم يكن خلاقاً ولا مبتكراً؛ إذ أنهم يتفننون في القول دون أن يبتكروا معاني جديدة، حيث إنه خيالهم ظل لصيقاً بالصحراء، فلا يُحلق بهم في عوالم جديدة تُوحي لهم بدلالات جديدة، والحقيقة أن يتأمل خلفيات صورهم الشعريّة، ويسعى إلى الغوص في دقائق خلجاتهم النفسيّة التي هزت مشاعر الشعراء، فإنه يجدها متأثرة بشكل كبير بطباعهم وأخلاقهم أولاً، ثم تأتي بالدرجة الثانية بيئتهم الطبيعية والاجتماعية؛ وهذا الأمر أرجعه بعض العلماء إلى سلامة فطرتهم، كما اتسموا بذلاقة اللِّسان، وفصاحة النطق، وكانوا لا ينظرون إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وإن تأملوا الشيء الواحد، فإنهم يقفون فيه على مواطن خاصة قد تثير إعجابهم، وهذا ما دفع بعض النقاد إلى القول إنه سبب عجزهم عن الإتيان بالقصائد القصصية المطولة والملاحم(4).

وقد أشارت جملة من المصادر العربية إلى مُبالغة العرب في الاحتفاء بالشعر والشعراء، ومن ذلك ما ذكره ابن رشيق القيرواني في: «العمدة»: «كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائلُ فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم»(5).

إن الشاعر موضع اهتمام كبير من لدن القبيلة، وهذا ما أشار إليه مجموعة كبيرة من المؤرخين؛ وقد اختصروا موضع الاهتمام في موضوعين رفعا من قيمة الشاعر في الحياة الجاهلية، وهما: الفخر والهجاء، فمن خلال الفخر يرفع مجد القبيلة، وهو ما تتمناه أي قبيلة في مجتمع كثر فيه التفاخر، وفي الموضوع الثاني يُنافح عن مجد القبيلة السامق، ويسعى إلى المُحافظة عليه، ويرمي إلى تعزيز انتشاره بين القبائل من خلال شعره، وقد وُصف الشاعر بأنه لسان الجماعة؛ الذي يُذيع فضائل القبيلة، عن طريق مهاجمة العدو، ومدح الصديق، ويبدو أنَّ أوّلَ ما قيل مِنْ الشّعر الجاهلي المقطّعات من أبيات قليلة يقولها الشاعر في مناسبة ما، قال ابن سلاَّم : «لم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حادثة» .  وقال ابن قتيبة : » لم يكن لأوائل الشعراء إلاَّ الأبيات يقولها الرجل عند حدوث الحاجة « . وذكر كلٌّ من ابن سلام وابن قتيبة والسجستاني بعضَ هذا الشّعر لهؤلاء الشعراء الجاهليين الأوائل.

والحقيقة أن القسم الأوفر من الشعر العربي القديم قد ضاع بعوامل مختلفة؛ ومن بينها ترك تدوينه، ويُضاف إلى هذا الأمر تشاغل الناس عن روايته بالدين والفتوحات الإسلامية، والإجماع يقع على أن أوّل الشعر العربي الرجز(6)؛ الذي يعد من أقدم الأشكال الشعريّة، فقد كان أصلاً للقصيد، وعايشه، بيد أن القصيد قد تطور بسرعة ليكتسب لغة ثقافية تخلصت في أغلب الأحيان من الخصائص اللهجية المحلية والبدوية الموروثة عن قبائل شبه الجزيرة العربية؛ فساير بذلك التحوُّلات اللُّغويّة في المراكز الحضرية الجديدة، ويقول الباحث إبراهيم أنيس عن الأراجيز: » ويحتمل أن الأراجيز كانت في الجاهلية تشتمل على صفات اللهجات العربية من كشكشة وعنعنة وعجعجة، كان فيها كل الصفات الصوتية التي فرقت بين لهجات العرب. كانت تُمثل أدب القبيلة لا أدب العرب جميعاً، يستمتع بها المرء في قبيلته ولا يكاد يستسيغ غيرها من أراجيز في القبائل الأخرى؛ فالأراجيز في العصر الجاهلي كانت تُمثل الآداب الشعبية المحلية أبدع تمثيل، وتُصور حياة القبيلة وأصحاب اللهجة الواحدة خير تصوير، ولو قد رويت لنا تلك الأراجيز الجاهلية، لحدثتنا عن كثير من حياة القبائل الاجتماعية، ولوضحت لنا تلك الروايات المبتورة المتناثرة عن اللهجات القديمة»(7).

وانطلاقاً من أن البادية بيئة الشِّعر الجاهلي؛ فقد كان الشعر مرآة للحياة البدوية، يدور حول الجمل والطلل، ومع تسجيل نبوغ عدد من الشعراء في المدن، إلا أن فحول الشعر كانوا كلهم من أهل الوَبر(سكان الخيام: البدو)، ولم يتم الاعتراف من لدن علماء الشعر في ذلك الزمن بتقدم شاعر قروي(مدني) على شعراء البادية، وبما أن الابتداء على هذا النحو؛ فمن الطبيعي أن نرى خصائص الشعر الجاهلي تدور حول البادية وما فيها، باستثناء بعض الألوان من الحضر التي عرضت في شعر شعراء ذهبوا إلى بلاطات فارس والعراق والشام، كما لاحظنا في قصائد الأعشى والنابغة، والحقيقة أن من يقرأ شعرهم، ويتأمل لغتهم، يستخرج منها جملة من الخصائص المعنوية؛ مثل الصدق حيث إن الشاعر يُعبِّر عمَّا يشعر به حقيقة مما يختلج في نفسه، ولا يتكلف في إيراده، وذلك بصرف النظر عمّا إذا كانت الحوادث التي يذكرها قد وقعت أم لم تقع، أو كان مُبالغاً فيها، فليس من الضروري مثلاً أن يكون قول عمرو بن كلثوم:

مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا  وَماءُ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا

صحيحاً، ولكن المهم بالنسبة إلى القارئ أنه كان يشعر هذا الشعور فاتسم بيته بالصدق في التعبير عن شعوره هو (8).

وقد تساءل العديد من المؤرخين والباحثين كيف بدأ العرب ينظمون الشعر؟

ويبدو أن الشعر والغناء من أصل واحد لدى جميع الأمم، وقد وُضع من أجل إنشاده والتغني به، والعرب يقولون: «انشد شعراً»، ولعل العرب قد تميّزوا بالتغني بشعرهم، وعن أصل وزن الشعر، يقول جورجي زيدان (9) : «والغالب في اعتقادنا أن الوزن مأخوذ في الأصل من توقيع سير الجمال في الصحراء، وتقطيعه يوافق وقع خطاها. ويؤيد ذلك أن الرجز أول ما استعمله العرب لسوق الجمال وهو الحُداء في اصطلاحهم، وكأنه وضع لهذا الغرض لأن العربي يقضي أكثر أوقاته في معاشرة جمله أو ناقته».

***

الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنّابة، الجزائر

.................

الهوامش:

(1) محمد الهادي الطرابلسي: خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية،تونس،1981م،ص: 10.

(2) عبد الملك مرتاض: نظرية القراءة: تأسيسات للنظرية العامة للقراءة الأدبية، منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2023م، ص: 363.

(3) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللُّغة العربية، المجلد الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 02، 1978م، ص: 61.

(4) آسيا الهاشمي البلغيتي التلمساني: وصف الراحلة في الشعر الجاهلي، منشورات دار نشر المعرفة للنشر والتوزيع، الرباط المغرب الأقصى،1428 ه/2007م، ص: 11.

(5) ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، منشورات دار الجيل للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1974م، ص: 65.

(6) عُمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 01، منشورات دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 06، أيلول-سبتمبر1992م، ص: 74.

(7) إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر، ص: 130.

(8) عُمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 01، ص: 76 وما بعدها.

(9) جورجي زيدان: تاريخ آداب اللُّغة العربية، المجلد الأول، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 02، 1978م، ص: 59.

 

في المثقف اليوم