قضايا

سهام جبار: عودة الشفاهية وشؤون ثقافية أخرى

بدءاً أودّ القول أن الشأن الثقافي العام عربياً وعالمياً لعام 2023 قد تأثر بشدة بالأحداث الدامية في فلسطين الحبيبة وضراوة العدوان عليها. ان العالم كله ليشهد لحظة قاسية في سياق القضية الفلسطينية فرْقت المواقف والرؤى الثقافية منها الى موقفين حادّين بين مؤيّد ومندّدٍ مما يعمق المأساوية والفداحة التي تتخذها آلام هذا الشعب البطل المناهض والمتجدد كعنقاء لن يفلح أيما عدوان في كسرها أو ازهاق روحها الباسلة. ومما يشهده الشأن الثقافي هو التماهي مع كل من الموقفين الآنفي الذكر بتأثر بالأطراف السياسية العربية كما هو متعارف عليه.

ولوسائل الميديا وقنوات الانترنيت عام 2023 أثرٌ كبير في ابراز ردود أفعال جماهيرية مع أو ضدّ ازاء مواقف ثقافية تم فيها الثناء أو الانتقاد لاحراج المناوئين أو المستغرقين في السعي الى المنافع والغنائم (كالذي حدث من جهة في الثناء على مسرحي مصري وانتقاد بل ذمّ لمسرحي مصري آخر).

ان هيمنة الوسائل الرقمية ما زال هائلاً ومهيمناً على الكتاب مهما كان نوعه في العالم وفي نطاق العالم العربي أيضاً بل أكثر على نحو كارثي بما يشبه الوقوع في الفخ، فخ شبكة العنكبوت الانترنيتية ولقد أثّر ذلك بعمق في الطابع الثقافي للمنتوج الأدبي في اتجاهاتٍ عدّة. فمن ذلك مثلاً يمكنني القول أننا نشهد عودة الشفاهية والخوض فيما قيل ويقال لا فيما يُكتب ويؤسسُ لفكر، وبروز نجوم التيك توك واليوتيوب وسائر وسائل الميديا ونشر الكلام السطحي الذي لا يحمل في مضمونه أو شكله أية قيم ثقافية ولا ينتجها بالطبع. ولقد اصطبغ الكتاب الأدبي العربي بالمرور السريع عبر هذه الوسائل فليس له أي وزن غير الترويج والانتشار السريع المنطفئ من دون تأثير واضح.

 مازال الأدباء يطبعون مؤلفاتهم بأنفسهم من دون مراجعة مؤسساتية قائمة على أسس ثقافية رصينة، ما من رصد رادع للأخطاء في هذه المؤلفات مما يزيد من فسحة الاستسهال والافساد الثقافي. مازال أدباء الشفاهية اليوم ممن تكرسهم المحافل والمهرجانات نجوم هذا النمط في الانتشار بكل اندفاع وجسارة. أخطاء هذا النشر مكرسة حتى في العناوين الكبيرة والمقدمات والملخصات في الأغلفة من دون أية محاولة لاستدراك الخطأ أو تصويبه. نحن في حاجةٍ ماسة لعمل مؤسسات ثقافية مخلصة وأصيلة للعمل من أجل الثقافة لا لسواها.

لقد صار لكلٍ الحق من ناحية في الافتاء بأحكامٍ أدبية ونقدية جاهزة ومعلنة بنقاط حاسمةٍ جازمة من دون اجراء التطبيقات النقدية أو البحثية والأدلة والبراهين الموضوعية المناسبة لمعالجة النصوص الأدبية وتوجيه الرأي العام بمصداقية وبناء وعي لدى الأجيال الجديدة. لقد ازداد دأبُ النقاد الانطباعيين في الادلاء بالأحكام غير المنضبطة الى منهج نقدي أو معرفة دالّة.

هناك، بالطبع، نقد عالمي للحظة الثقافية التي يعيش في مدارها العالم عبر النت ووسائله، هذا النقد يمثل أساساً لفهم الاختلال الثقافي السائد وتفسيره من تشييء للانسان، وتشتّت للقيم، ورداءة للابداع. هناك مفردات أصبحت مكرّسة في التعليقات السريعة من نحو ذمّ (نظام التفاهة) وتكرار الاستشهاد بأقوال لامبرتو ايكو وسواه في ذمّ الحمقى الذين صار لهم الحقّ في الكلام. وأنا أقول في سياق الأدب العربي ذمّ الحمقى الذين صار لهم الحق في التأليف! وصار من هؤلاء شعراء ثم أصبح من هؤلاء الشعراء روائيون ونقاد وهلمّ جرا..

يمكننا بضمير مرتاح جداً القاء الكثرة الكاثرة مما دبّجه هؤلاء "الأدباء" في سلال القمامة والتخلّص من هذا المنتوج بقلّة وعيه ومعرفته بل بجهله والعودة الى كلاسيكيات الابداع العربي للنجاة حقاً من كوارث هذه المرحلة!

كثرة المهرجانات الاستعراضية ال Show والسير على سجادٍ أحمر لسدّ شهوات النجوم السطحيين في أكثر من محفل جعل الهوة كبيرة بين المثقف بكل مظاهر وجوده والمتلقي. نحن نشهد مهرجاناتٍ سينمائيةً من هذا النوع، ومعارض كتبٍ بنجوم ليست لهم علاقة بالكتاب وثرثرة اعلامية وضجيج لا يهم القارئ العربي ولا يسعى الى جذبه بل لوضع الطبقة الفنية والأدبية في سياق مبرر.

وأضيف هنا أن هناك منصات رقمية عربية تسعى الى نشر الأدب التافه وتروّج له، كالذي حدث مثلاً من اعلان عن أفضل شاعرة في العراق لعام 2023 وتقديم وجوه ملفقة ومجمّلة بالقوة وبالفعل بقوة التجارة التي تروّج لها. ومثل هذه الجهات تحيط بها الريبة والغايات المبطّنة سياسياً وثقافياً ويحيط بها الجهل والتصنّع القميء. كذلك تشجيع الكتابات غير المتقنة بوصفها وليدة التعبير عن الجميع فالكل من حقه أن يكون أديباً حتى ان كان غير متمكن من أدوات الكتابة والابداع.

وهناك جهات أخرى ترفع من شأن الأدب الشعبي وترسخه لجعله وريثاً بل ابناً شرعياً للأدب العربي القائم على الثقافة والفكر. وغير ذلك كثير!

حقيقةً أجد الهجاء آخر معاقل الأدب الرصين الذي اغتالته قوى الجهل والتخلف والادّعاء.

ولو أردتُ تذكر فعالية ثقافية فيمكنني التمثل بتظاهرة رياضية حدث فيها الجذب للمتلقي من عرض صور ونماذج قديمة من حضارات العراق كالذي حدث في حفل افتتاح كأس الخليج العربي لكرة القدم في البصرة، اذ قُدِّم فيه خطاب ثقافي تاريخي بانورامي عريق ومصوّر على نحو بديع، لهذا أذكره هنا بوصفه قد قدّم طقساً ثقافياً لم تقّدمه فعاليات أخرى يُفترضُ أنها ثقافية.

وقبل قليل قرأتُ عن استقطاب أدبي لقضية فلسطين في معرض كتاب بالجزائر. وهناك تجمّعات في مصر والعراق واليمن وسوريا قد ندّدتْ بعدوان الاحتلال وألقيت فيها الخطابات والأناشيد!

لعل الأعوام القادمة أكثر اشراقاً ولنأمل في اطار ذلك بمعجزات تُحسّن الواقع العربي عامةً لا الثقافي فحسب!

***

د. سهام جبار

في المثقف اليوم