قضايا

حاتم حميد محسن: إشكالية التكنلوجيا.. كيف يمكن التعامل معها بحكمة؟

تصف الممثلة الكوميدية البريطانية البارزة ايدي ايزارت Eddie Izzard موقفين متضادين من التكنلوجيا: الخوف من التكنلوجيا، والمتعة فيها . اولئك الذين يخشون التكنلوجيا مترددون ومتخبطون وقلقون من ان التكنلوجيا ستؤدي الى نهاية العالم. اما اولئك المتفائلون الفرحون بالتكنلوجيا توضح الكوميدية هذه البهجة بالتالي:

"عندما أحصل على ماكنة جديدة، انا أظن ان هذه الماكنة سوف توفر لي حياتي، سوف لن أعمل مرة اخرى" .. وأول شيء تعمله انت لو حصلت على تكنلوجيا المرح هو انك تحصل على طريقة الاستعمال ثم تلقي بها من الشباك". احدى التحديات الأخلاقية الحالية الكبيرة ستكون ايجاد شيء ما بين هذين النوعين من  التكنلوجيا. نحتاج ان نجد شيئا من "الحكمة التكنلوجية". ذلك يتطلب ان ندعوا عدد كبير من الناس ليعملوا مجتمعين كي يرسموا بالضبط ما ستكون عليه هذه الحكمة التكنلوجية . لحسن الحظ  ان الكثير من مختلف الأكاديميين والمنظمات كانوا يعملون من أجل الوصول الى صيغ لتلك الحكمة .

موضوعات الجدل

تتركز معظم الحجج حول التكنلوجيا حول ثلاث أفكار رئيسية:

1- غلبة التكنلوجيا:

التكنلوجيا اما انها سوف تنقذ العالم بالانتصار على تحدياتنا الكبرى او انها سوف تتغلب علينا. مثال على هذا هو النقاش حول أنظمة اسلحة الروبوتات الفتاكة .

2- تأثيرات التكنلوجيا:

التكنلوجيا  اما ستحررنا للتركيز على ما يهم او انها تصرف انتباهنا عما يهمنا. الأمثلة السلبية تظهر في كل حلقة من السلسلة التلفزيونية (المرآة السوداء). اما الصيغ الأكثر تفاؤلا يمكن العثور عليها في النقاشات حول "التأثير الأخلاقي الموجّه" ethical nudging(1).

3- توسيع نطاق الأعمال:

في التكنلوجيا نحن اما سنكون قادرين على عمل أشياء عظيمة بسرعة، وبكفاءة وبنطاق واسع او سنكون قادرين على القيام  بأشياء مرعبة ومدمرة . معايير النقاش طُرحت ولا أحد يبدو يتزحزح عن موقفه و آرائه. لكن هذا الطريق المسدود ذاته يولّد تحديات أخلاقية. الفرص عظيمة جدا لتجاهل التكنلوجيا، لكن المخاطر عالية جدا للسماح لها لتستمر بلا قيود.

أهمية فهم التكنلوجيا

في مسرحية ايزارد كوميدي، يقود الجهل والحماقة اولئك الذين يخافون من التكنلوجيا. من الملفت انه يؤثر بنفس الطريقة على فريق التكنلوجيا الممتعة. لا أحد من الفريقين فهم التكنلوجيا. هنا يجب ان تبدأ الحكمة التكنلوجية: فهم ماهية التكنلوجيا وكيف تعمل. فلاسفة التكنلوجيا مثل مارتن هايدجر و جاك ايلول والبرت بورجمان جادلوا بان التكنلوجيا تعكس طريقة متميزة في النظر الى العالم الذي حولنا. انها تميل لإختزال العالم لسلسلة من المشاكل التكنلوجية للحل ومجموعة متنوعة من الأشياء لغرض استعمالها وقياسها وخزنها والتحكم بها.

وفق هذا الفهم، تكون التكنلوجيا ليست قيمة محايدة. انها تشجعنا للبحث عن السيطرة وتقييم كفاءة وفاعلية الإعتبارات الاخرى، واختزال كل شيء الى وحدة قياس. هناك أمثلة لامتناهية لإثبات هذه المسألة. التكنلوجيا اون لاين تتحدى قيم الصحافة التقليدية في تفضيل السرعة والوصول. تطبيقات اللقاءات والمواعيد تحوّل شركائنا الرومانسيين الى سلعة وتحاول تحرير المواعيد من مخاطر الرفض او النجاح اللامرغوب. الإباحيات التي يتم انشاؤها بالكومبيوتر تسمح لجعل المشاهير المفضلين لديك يفعلون ما تريد. العملية لا تحتاج الى الموافقة، ولا تحتاج ايضا لتُعرف. اذا كانت هذه القيم  وراء التكنلوجيا، ومهما كانت مريحة وممتعة فهل سنكون سعداء بها ؟ اذا لم نكن كذلك، ماذا يجب ان نفعل تجاهها؟

التركيز على الوسائل

رغم ان الخوف من التكنلوجيا والمرح بها يشكلان قطبين تكنلوجيين متضادين، لكنهما يشتركان بخيط أخلاقي مشترك وهو التركيز على المخرجات. كل جانب يقر بان التكنلوجيا الأخلاقية تقود الى تغيير ايجابي في العالم (او على الاقل،لا تخلق مزيدا من المشاكل). هما لايتفقان حول ما اذا كانت التكنلوجيا هي في النهاية قوة للخير ام الشر. لكن التركيز على المخرجات يحجب عنا بُعدا آخر للاخلاق التكنلوجية وهو الوسائل التي تُنجز بواسطتها تلك المخرجات. العديد من الناس يفكرون في العمليات التكنلوجية وتأثيراتها الاخلاقية، لكنهم عادة يركزون عليها لأنها أدّت الى مخرجات سيئة. النقاش يصبح ساحة حرب اخرى يجري فيها الحديث حول المخرجات.

فمثلا، نقاش حول خوارزمية كومباس التي كانت موضوعا لتحقيقات فريق بروبوليكا الشهيرة (وهي غرفة اخبار غير ربحية في امريكا تمارس صحافة استقصائية لأجل المصلحة العامة) ركز على حقيقة انها مالت لإنتاج نتائج متحيزة عنصريا، حيث يتنبأ نظام الخوارزمية ان السود يشكلون خطرا من حيث العودة الى الجريمة. المهم ايضا، ان نفهم كيف تعمل كومباس، حتى لو لم تكن المخرجات واضحة الإشكالية. لنتصور اننا عرفنا ان خوارزمية مثل كومباس كانت فعالة بنسبة 100% في التنبؤ باحتمالية عودة الجاني الى إرتكاب الجريمة، وان السبب في كونها دقيقة جدا هو لأن بياناتها كانت شاملة، حيث تضمنت كل جزء من الإتصالات الخاصة للجاني في العشر سنوات الأخيرة. بما في ذلك كل رسالة نصية،رسائل الفيسبوك،ايميلات، اتصال هاتفي،عرض صفحة ويب .هذه البيانات مكّنت من التنبؤ الدقيق بإعادة ارتكاب الجريمة.

لايزال هناك سبب لمعارضة هذه التكنلوجيا، وهو انها حققت نتائج جيدة ولكن بطريقة تجاهلت مبادئ الناس المشتركة حول الخصوصية والحرية المدنية. وهنا تصبح الفلسفة المتحفزة  فقط بالمخرجات مشكلة حقيقية.

الانسان اولاً

يُحتمل ان تكون التكنلوجيا  جزءا من الحل في معظم التحديات الاخلاقية التي تواجه العالم. أحدى وظائف التكنلوجيا هي توسيع وتضخيم النشاط الانساني. هذا يعني ان الانسان يحتاج ليرتّب بيته الخاص قبل ان تصبح التكنلوجيا مفيدة له. نحتاج لجعل العمليات التكنلوجية ملائمة. كذلك نحتاج لتغيير معيارنا لما يُعتبر تكنلوجيا "ممتازة" بعيدا عن منطق السرعة والفاعلية والسيطرة. اذا لم نقم بذلك، فان التكنلوجيا يّحتمل ان تصبح التحدي الاخلاقي الكبير لنا. ومن المثير للقلق جدا، اننا حينذاك، نكون قد تنازلنا عن الكثير من السلطة للآلات لكي نكون قادرين على فعل أي شيء حيال ذلك.

*** 

حاتم حميد محسن 

................................

The conversation,March18,2018،

الجزء الرابع من مقال حول التحديات الاخلاقية الحالية التي تواجه العالم، شارك فيه عدد من الفلاسفة والمختصين استجابة لدعوة المجلة لهم لتشخيص ومعالجة تلك التحديات، الأجزاء الاولى من المقال نُشرت في صحيفة المثقف بدءاً من 25 نوفمبر 2023.

الهوامش

(1) يشير هذا المفهوم حسب (Thaler and Sunstein,2008) الى أي مظهر يغير سلوك الناس بطريقة يمكن التنبؤ بها بدون منع أي خيار، وبتعبير آخر هو التغيير المتعمد بالطرق التي تبرز وتتأطر بها الخيارات في محاولة للتنبؤ بتوجّه اولئك الافراد في اتجاه معين. مثال على ذلك الصور المخيفة التي توضع على علب السكائر لتقليل استهلاك الدخان من خلال استجابات عاطفية. كذلك علامات الطرق يمكنها ان تقلل من حوادث المرور في أشكال متعددة.

في المثقف اليوم