قضايا

حمزة بلحاج صالح: قوة الحقيقة والعقل عند فريديرك نيتشه

جاء منذ سنوات في منشور صاحبة صفحة على الإفتراضي جزائرية وطالبة دكتوراه تعكس حال الفلسفة في الجامعة الجزائرية إن لم اقل العربية والإسلامية ما يلي:

تقاس قوة العقل بقدرته على تحمل الحقيقة !

فردريك نيتشه .

فكانت إشاراتي في تعليقي كما يلي:

العقل كأداة والية اشتغال تتعلق بشق إجرائي تقني وميكانيكي بل حتى برمج-عصبي لا تنفصل وظيفته عن العقل كمحتوى (و هو التقسيم الذي اعتمده الجابري في اعماله ومشروعه " نقد العقل" توظيفا لتقسيمات لالاند في معجمه وقاموسه)..

 وهنا وجب استحضار كلام "لالاند" العقل المكون بكسر الواو مع الشدة والعقل المكون بفتح الواو مع الشدة ...

فالأول يتعلق بالمحتوى أي العقل كسبا وتثاقفا ومعرفة وتحصيلا اي في جزء منه " العقل العالم " والعقل المرتبط بالكسب الاجتماعي لتتحدد طبيعة العقل بالنسبة لقوته..

 ليس فحسب تحمل الحقيقة بل تمثلها ومناقضتها عندما تتأسس على بنيان مهترئ ومضطرب وأسس عقلية في ظاهرها وغير سليمة في جوهرها...

 ولا أحسب نيتشه أخذ بالحسبان موضوع الحقيقة وإلتباساتها وتشوهاتها بعد تناولها من جهة النوع اي انواع الحقائق وأيضا الحقيقة وعلاقتها بالواقع وهل الحقائق قارة وثابتة أم متحركة ومتغيرة وكيف ولماذا  ...

هل العقل الذي يعنيه نيتشه عقل مادي عدمي أم عقل مثالي هيجلي طبعا وهو بنفيه المطلق لا يؤمن بالعقل اللاهوتي...

لا تنفصل الحقائق تمثلا وتجريدا عقليا ونظريا ومفهوميا وحتى واقعا عن وظيفة وبنية العقل وعن الإبيستيمي-المناخ والنظام المعرفي الذي تأسس فيه العقل ونهل منه  ومنحه أي تفاعل معه  ...

إن الذين يعتبرون نيتشه قلب طاولة القيم وقلب النسق وقطع مع النظم المعرفية السابقة ومنح للفلسفة مهمة اخرى للأسف هم جلهم في عالمنا العربي الإسلامي خاصة والعالم الغربي أيضا ببغاوات النقل والإنتحال والإنتظام في القطيع والسرب لا أجدهم اكثر من أنهم أساؤوا فهم نيتشه في سياق سيرورة وبنية المنظومة المعرفية والفلسفية الغربية ونسقها...

إنه لا يمثل قطيعة مع النظام الذي انقلب عليه ظاهرا وقد ارتبط به " حقيقة " و" واقعا" من حيث بناء مفاهيمه وقاموسه الإصطلاحي وجهازه المفهومي على أنقاضه...

إنهم فئة غالبة منتظمة تكرر المتن الغربي للفلسفة بلا إضافة وتحليل ونقد لأن كسبها محدود وتسكنها لغة التمجيد والإنبهار ولا تمارس فعل التفلسف بل فعل التلخيص والإقتباس وشبه " الشرح " المنتظم ولا تعجب أن ينتطم معهم سرب من الذين يتحدثون عن الأصالة والفلسفة العربية الإسلامية أذناب من الباحثين عن موقع في الفضاء العام  خوفا من الإقصاء وإغضاب دجالي الفلسفة والمزيفين من أصحاب منابر التفلسف الحصري وشيوخ صكوك الغفران للفلسفة في عالمنا العربي الاسلامي...

إنهم الوجلون الخوافون من الاخر وبضاعته بسبب بضاعتهم المزجاة البائسة وعقلهم المدمر ونزوعهم الى الإنخراط في التيار العام وكسب مرضاته...

يمجدون ويقدسون القراءات الغربية الشائعة لنيتشه وما أقل الناقد فيهم وبينهم وفي الغرب المتفلسف نقدا جذريا للفهم الشائع والطاغي طغيانا بنسقه المهيمن والقالب لمفاهيم النص النيتشوي والفهوم الغالبة ليقف على كساد بضاعته وهشاشة مرتكزاته  وإنتظاماته الوديعة القابضة على نصف وربع الحقيقة بدل قلبه وتفكيك ما يسمى قطائعه ...

أو بلغة أخرى إن معارضة التيار العام لفهم النص النيتشوي او نصوص غيره من المنجز الغربي مكلفة وباهظة الكلفة ومربكة باعتبارها أولا تجعل ما تعود " جمهور " القراء والمشتغلين على نصه من متون مختلفة وكثيرة حفظا وترديدا متهافتة ومتساقطة أمام كل نزعة منهجية تقطع مع سطوة وطغيان واستلاب النسق الفهمي السائد...

اي أنهم اتخذوا نيتشه " قدس الأقداس " ومنجزه " ثورة الثورات" مرجعا على أساس نقضه للمفاهيم الحداثية الفلسفية وقيمها الناظمة فقام بقلبها كما يقولون وعلى أنقاضها مع التحفظ قام نيتشه كما يزعمون بتأسيس أدوات ان كانت له أدوات حقا فتحت غطاء الكتابة الشذرية واللانسقية ضلل نيتشه قراء الغرب والشرق من الحدثاويين والاسلامويين مع تحفظي على هذه النعوت التي دعت اليها الضرورة ...

كما يطرح موضوع تحديد المفهوم ما العقل عند نيتشه هل هو كل العقل واللوغوس الغربي والمادي بكل طيفه بما فيه العقل الكانطي مثلا والديكارتي الشكي والهيجلي ..الخ كما سبقت إشارتي ...

إنهم تركوا نصوص نيتشه ومنجزه واشتغلوا بنيتشه الصنم ونيتشه حقيقة الحقائق وقوة القوة وعدم العدميات  ..

اشتغلوا بالعجل فعبدوه واشرئبت أعناقهم لا ترى في الأعلى سوى العجل أو نيتشه الإله بدل الإله الذي قتله نيتشه...

و دعك من القراءات التبريرية ومزاعم البعض التي تصف لك نيتشه خطأ بأنه غير عدمي ولم يفهمه " بسطاء التفلسف والغرباء عليه " بأنه كان يعني بالدين المسيحية الزائغة وانه لا يعني موت الإله إلا  في ذلك السياق ولا يستطيع مناقشة أطاريحه إلا فلتات مثله وأنه  فلتة فلسفية  بل منهم من ألبسه " قبعة إسلامية " وجعل من ذكره من طرف مالك بن نبي ما يؤكد انه صاحب نزوع تبجيلي للإسلام...

و أنه لم ينتظم بل قطع قطائع فلسفية وهي في منطلقها كانت فللولوجية العمق لغوية الأساس وفي جذورها انتظامات " أبيقورية " وبعدها " شوبنهاورية " تتحرك في فضاء الموروث نفسه يغذيها بعض الجنون والفصام النيتشوي لتصفها صفا وترتبها العقول المقلدة المستقبلة والمنبهرة والملتهمة والمستلبة كأنها الفرادة والعبقرية إنبهارا لا حفرا وفهما وتأويلا وأيضا فهما سياقيا...

إنها السلفية والماضوية والتقليدية الغربية الحداثية والما بعد حداثية التي تتمنع على السؤال الفلسفي النقدي العربي الغائب فاكتفوا بترديد متنها واتخاذها عجلا وصاحبها صاحب العجل ...

نيتشه ينادي بأفول الأصنام وهم يبدعون في تقديسها وعبادتها...

" رحم الله نيتشه " ورحم الله التفلسف العميق المتحرر من هيمنات الأنساق وثقلها ومن الإنبهارات الفجة في عالمنا العربي الإسلامي ولا نستثني الغرب ...

***

حمزة بلحاج صالح

في المثقف اليوم