قضايا

مريم لطفي: ولمن خاف مقام ربّهِ جنتان.. الخوف والخشيّة في القرآن الكريم

(والذينَ يَصلون ماأمرَ الله بهِ أن يُوصل ويَخشون ربّهم وَيخافون سوء العذاب) الرعد21

يُعرف الخوف على إنه اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف وهو إجهاد القلب بانتظار ماهو مكروه، وهو عاطفة إنسانية طبيعية وقوية وتأتي كاستجابة حيوية عاطفية عالية وكرد فعل لأمر ما استدعى وجود خطر أو تهديد.

والخوف موضوع البحث هو الخوف من الله الذي يحمل المؤمن على ترك المعاصي، فهو خوف مقترن بحب، فمثلا أنا أحب والدي وأخافُ من زعلهِ، لذا فهذا الخوف يجعلني أبتعد عن كل مامن شأنه أن يُغضب أبي، وهو الحال نفسه فأنا أحب الله وأخاف من غضبه هذا الخوف الذي يجعلني أبتعد عن كل مايُغضبه جلّ وعلا، فهو إذن خوف مقترن بحب وليس خوفا لاجل الخوف، فهذا النوع من الخوف لاتؤدي فلسفته إلى أنجاز بل هو خوف لاطائل منه سوى إقناع المرء لنفسه بإنّه أدى فريضة معينة ليجتنب العقاب وهذا مانسميه بلغتنا الدارجة (إسقاط فرض) .

وقد ورد الخوف بالقرآن الكريم في عدة مواضع وجاء بمعانٍ مختلفة فهناك جملة من الالفاظ تدل على حالة نفسية تعتري الانسان جرّاء سلوك إيجابي أو سلبي، ومن يتبحّر في كلام الله يجد إن الخوف قد ورد بمعناه اللغوي وألفاظه التي تدل كل واحدة منه على حالة معينة، وإن كان بينها قاسما مشتركا إلا إنها تحمل بعض الفروق الدلالية التي يقتضيها السياق القرآني، ونحن في بحثنا هذا إنما أردنا تسليط الضوء على بعض معاني الخوف كما جاءت في القران الكريم، ولعل أبرزها لفظ الخوف بذاته، ولفظ الخشيّة، فاللفظان ليسا مترادفين بل كل لفظ إختص بمعنىً مستقل وسنتناوله بشئ من التفصيل:

أولا (الخوف): وهو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده (الأمن) كما إن الرجاء توقع محبوب عن أمارة مظنونة ومعلومة قال تعالى (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) الاسراء57

ففي هذه الاية ورد الخوف كرجاء لبلوغ الرحمة وهذا الخوف إنما يقوّم به الله من شذَّ وابتعد عن السراط، فهو تخويف للحث على التحرز، قال تعالى (ذلك يخوّف الله به عباده) الزمر 16

فالخوف إذن لفظ واسع الطيف يحتمل الكثير من المعاني والدلالات التي بعضها يأخذ صفته المجازية فيما يأخذ البعض الاخر صفته الوضعية، وتحت بند الخوف تأتي عدة معان وإن ضمنت المعنى نفسه لكنها أخذت مناح شتى مثل:

- الحذر: وهو احتراز عن مخيف، يقال حذر وحذرا وحذرته وحذار: أي: إحذر وهذا اللفظ ورد في القرآن في سبعة عشر موضعا جاء أكثرها بصيغة الفعل كقوله تعالى (ويحذركم الله نفسه) عمران 28

- الرعب: وهو الانقطاع من امتلاء الخوف، فيقال رعبته رعبا فهو رعب وهو شدة الخوف والفزع، وقد ورد هذا اللفظ في خمسة مواضع كقوله تعالى (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) آل عمران 151.

- الرهبة: يقال رهبت الشئ رهبا ورهبة وهي مخافة مع تحرز واظطراب ، وقد ورد هذا اللفظ في ثمانية مواضع منها خمسة بصيغة الاسم وثلاثة بصيغة الفعل كقوله تعالى (هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) الأعراف 154

- الروع: ويقال أصابه الروع (القلب) ورعته وروعته، وريع فلان أي فزع والاروع الذي يروع بحسنه كأنه يفزع، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بقوله تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) 74

- الفرق: وهو الفزع وشدة الخوف، فيقال فرق فلان إذا جزع واشتد خوفه، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بصيغة الفعل وذلك بقوله سبحانه بوصف المنافقين (ولكنهم قوم يفرقون) أي يخافون التوبة 56

- الفزع: وهو انقباض ونفار يعتري الانسان من الشئ المخيف، وهو من جنس الجزع، والفزع مفاجأة الخوف عن حدزأو هجوم أو عارة أو ماشابه ذلك، وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه وقد ورد في القران الكريم في ستة مواضع (لايحزنهم الفزع الأكبر) الأنبياء 103

- الهلع: وهذا اللفظ أسوء واشد من الجزع، ولم يرد إلا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى (إن الانسان خلق هلوعا) المعارج19

- الوجل: وهو استشعار الخوف والتهيّب منه، فيقال وجل يوجل وجلا أي خاف وفزع كقوله تعالى (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الحج 35

- الوجف: وهو الاضطراب، ووجف القلب أي حفق ووجف فلان أي سقط من الخوف فهو واجف، وقد ورد هذا اللفظ في القران إالا مرة واحدة (قلوب يومئذ واجفة) النازعات 8

- الرهبة: وهي انصباب الى وجهة الهرب، وقد تكون هناك علاقة بين الرهب والهرب فصاحبها يهرب لتوقع العقوبة، ومن علامتها حركة القلب انقباضا وانبساطا (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحرٍ عظيم) الأعراف 116

وبعد أن تعرفنا الى الفاظ ومعاني الخوف نأتي اللى لفظ آخر وهو موضوع البحث (الخشية) فما هي الخشيّة؟

إن المعنى الوضعي ل (خشي) هو الخوف فالخشية هي الخوف الذي يشوبه تعظيم وعلم ومعرفة ولذلك خصّ به الله العلماء والعارفين (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فالانسان لايتخلّق بالخشية إلا إذا كان عالما، فالعالم يعلم جيدا قدرات الله سبحانه وتعالى في إدارة الكون، وتفرده بالوحدانية دليل عرفان وامتنان المؤمن حقّا، ولذا نجد أغلب العلماء يتحلون بالايمان والخشية لان الثمرة من العلم الحق هي خشية الله جل وعلا والاقرار بربوبيته، وترتبط الخشية في الكثير من السياقات القرآنية بالتذكر والاعتبار باعتبارها أجمل ميزات الانسان، والتذكير نوعان:

 1- تذكير بمالم يُعرف تفصيله، بل جاء بالفطرة فقد فطر الله الناس على حب الخير ونبذ الشر، فمن جميل التذكير أن يذكرالخير في المأمور به وينهى عن الشر (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات 55

2- تذكير بما هو معلوم، لكن انسحبت عليه الغفلة والذهول فاستوجب التذكير والتكرار ليرسخ في العقول (فذكّر إن نفعت الذكرى سيذّكّر من يخشى ويتجنبها الاشقى) الاعلى9

وهذاالنوع من التذكير إنما يخصّ به الله من اعتمر قلبه بالايمان وحب الله فاستوجب المتابعة من الله جلّ وعلا بذاته ليذكره من خلال آياته القرانية الكريمة، أمامن ليس لديه أدنى استعداد لقبول التذكير، فهذا لاتنفع الذكرى معه، فمثله كمثل الأرض البور التي لاتُحسن الانبات!

إن التبحر في البيان القرآني يأخذنا إلى آفاقا أكثر رحابة وأغنى معنى وأدق تفصيلا، و لابد لكل منا أن يتفقه في الدين ليعرف مايحلّ له ومايحرّم، إن كان أكلا، شربا، لبسا، تصرفا، معاملة أو اعتقادا، وقد روي عن نبي الله عيسى بن مريم صلاة الله عليه وتسليمه إنّه امتدح أمة محمد فقال (علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء) فلم يقل من العبادة أنبياء لكثرة التهجّد، بل قال من الفقه وهذا مانحتاج إليه بالضبط التفقه بالدين (ليتَفقَهوا في الدّين وليُنذروا قَومهم إذا رَجعوا إليهم لعلهم يَحذرونَ) التوبة 122

وإذا تأملنا الآية القرآنية الرائعة (ولمن خافَ مقام ربهِ جنتان)

وقد تعددت الروايات في سبب نزولها، لكن مايهمنا في البحث هو التفسير، فلماذا ذُكر الخوف وليس الخشيّة في هذه الاية الكريمة؟

والحقيقة فبما أن الخشيّة تخص العارفين والراسخين بالعلم، فالخوف هنا جاء ليشمل العامة من الناس العارف وغير العارف، وهذا المفهوم الشمولي للخوف إنما يخص عموم الناس، والخوف إذا عظم واشتد أوجب على الخائف إداء الفرائض، والالتزام بتعاليم الله، وترك المعاصي، والمسارعة الى كل خير ولهذا يكون الفوز والمكافأة جنتان، ومن يدعي إن الافراط بالخوف يأخذ إتجاها آخرا فقد كذب وهذا النوع من الاعتقاد سنده ضعيف وباطنه أوضح من ظاهره وهو التشكيك المغرض والضلالة المبينة والخوف من مقام الله يكون على نوعين:

أولا: الخوف الاعتقادي وهو الخوف الذي قصدته الاية (ولمن خاف مقام ربّه جنتان) فهو خوف التعظيم لله تعالى، والخوف من الوقوف والقيام بين يديه سبحانه جلّ وعلا وهذا ماتجسد في لفظ (مقام) والذي يأتي من القيام بين يدي الله جلّ وعلا، ويسمى هذا الخوف (خوف السرّ) لانه يمثل حالة الاختلاء بين العبد وربّه، وهو الخوف الذي يجعل العبد أوابا إلى الله عند وقوع الشدائد (وزكريّا إذ نادى ربّه رب لاتذرني فردا وأنتَ خير الوارثين) الانبياء89

وتحتمل كلمة (مقام) معنين إثنين في الاية الكريمة:

أولهما يتمثل بمقام الله سبحانه وتعالى في نفس المؤمن ودرجة إيمانه

وثانيهما: يتمثل بمقام المؤمن بين يدي الله جلّ وعلا يوم القيامة عند الحساب وكلا المعنيين يضفي نورانية على الاخر.

ثانيا: خوف الوعيد وهو الخوف من عقاب الله يوم القيامة، قال تعالى (ويخافون يوما كان شرّه مستطيرا) الانسان 7وهو أعظم أنواع الخوف واقواها تهيبا .

وكلا الخوفين يتجسدان في قول الله جلّ وعلا (ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) ابراهيم14 فهذان النوعان من الخوف محمودين إذا لم يؤديا إلى القنوط واليأس، لان هذا الخوف دافعا للإنسان للعمل الصالح وجهاد النفس والابتعاد عن نواهي الله، قال تعالى (وأما من خاف مقام ربّهِ ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى) النازعات 40فشرط خوف الله كما بينتها هذه الايات الكريمة هو مخالفة هوى النفس ليكون المصيربعد ذلك جنة المأوى.

ولعل من أسباب الخوف من الله مايلي:

- الخوف من عذاب القب

- الخوف من الناروأهوال يوم القيامة

- الخوف من سكرات الموت

- الخوف من الحرمان من الجنّة

- الخوف من ظلم الانسان لاخيه الانسان

- الخوف من التقصير في ‘داء العبادات

- الخوف من الانجرار وراء ملذات الدنيا

- الخوف من الانشغال عن عبادة الله

- الخوف من زوال النعم

- الخوف من نكث العهود

- الخوف من الموت قبل التوبة

ولذا فإن الخوف من الله بمفهومه العام والخاص إنما يجعل الانسان محددا في تصرفاته وسلوكياته عارفا حدوده الدينية والدنيوية، فتتهذب جوارحه ويستكين قلبه، ويفارقه الحقد والحسد والرياء والنفاق من خلال استيعابه لعاقبة الأمور، ويظهر الخوف من الله جليا في كل جوارح الانسان مثل

- اللسان، بابتعاده عن الكذب والسب واللعن والنميمة.

- القلب، بتطهيره من البغضاء والعداوة والشر والحقد والحسد والكراهية

- الاكل، من خلال اختياره للحلال الطيب

- البصر، من خلال غض البصر وعدم النظر الى ماحرم الله.

- الاقدام، من خلال إختيار الطريق الصحيح وعدم المضي في المعاصي وهذا يدخل تحت بند جهاد النفس، فالعاصي تسوقه قدماه الى المعصية سوقا وكأنما سُلبت إرادته.

اليدين، وهي الابتعاد عن المال الحرام، كأكل مال اليتيم، ومال الغصب، والربا، والمال المسروق، والرشوة، والاختلاس، والسحت بكل أنواعه.

وهكذا نصل الى حقيقة مفادها إن الخوف والخشية من الله من أجمل الفضائل لأن رأس الحكمة مخافة الله، وهي من أجمل منازل القلب المفعم بالايمان والرضا، والخوف المحمود هو ماحل بين الانسان ومحارم الله فالخوف والخشيّة من الفضائل والاثار الإيجابية التي تأتي أ’كلها مرتين مرة بالاستقامة الدنيوية والأخرى بالسعادة الأبدية في رياض الجنان (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّه ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 112

***

مريم لطفي الالوسي

 

في المثقف اليوم