قضايا

محمد بنيعيش: واقع نسب الطفل بين التحليلات المادية والمعاهدات الدولية

أولا: مشكلة الإثبات بيت الأدوات وإسقاط الذات

إذا كان موضوع القيافة قد أصبح شبه مفقود في عصرنا لردع الشبهات التي تثار وهما حول بعض الأنساب فإنه-كما يقال-قد توصل العلم الحديث إلى نوع من الإثبات الذي يصل الوالد بولده على مستوى الشبه الوراثي المأخوذ من الحامض النووي للخلية، أو قد يوظف موضوع الفصائل الدموية في هذا المجال ولكن في باب نفي النسب لا إثباته، بحيث "يوجد عدد كبير من فصائل الدم الوراثية بجانب فصائل (أ ب و) بالإضافة إلى عدد آخر لا بأس به من البروتينات الوراثية على سطح وبداخل خلايا الدم الحمراء والبيضاء وفي كثير من إفرازات الجسم كالبصاق والمني، ويمكن حاليا تشخيص المئات من هذه العوامل الوراثية لغرض تحديد هوية صاحبها، وفي ذلك فائدة كبيرة في حالات القتل والاغتصاب، ففحص عينة صغيرة من الدم يمكن أن تساعد كثيرا في تشخيص الجاني .

فلقد أصبحت الطرق الوراثية تلعب دورا مهما ومتعاظما في البحث عن الجناة والمجرمين وإدانتهم حيث توفر أدلة علمية دقيقة وملموسة لا تعتمد على الحدس أو التخمين، فبلغت في يومنا هذا من الدقة بحيث يمكن التأكد من النتائج بدرجة كالتي بلغتها بصمات الأصابع، وتعتمد المحاكم في الفصل بالأبوة على فحوص الدم إلا أن المعلومات تستخدم في معظم الأحيان بيان عدم صحة ادعاء الأبوة أكثر من محاولة إثباتها".

إذ أن الحاملين للفصائل المتشابهة كثيرون ولا يمكن إحصاؤهم، ومن ثم فلا يمكن إثبات البنوة بمجرد وجود الفصيل المحتمل لدى الطفل الناتج عن وطء رجل لامرأة ؛سواء أكان هذا الوطء شرعيا أم غيره . فالناتج يكون بحسب الشخصين وفصائلهما كمعطيين للفصيل المحتمل عند الولد كقاعدة عادية.

بهذا فتكون الأم هي التي لا يمكن نفي الولد عنها لأنه خرج من بطنها، أما الرجل الذي كان سبب حملها فهو إما أن يكون الشخص الحقيقي في إنتاج هذا الحمل وإما أن لا يكون، وذلك لوجود نفس الفصيل لدى الرجل محل الإثبات عند أشخاص آخرين غيره؛ فلا يتبين حينئذ هل هو نفس الرجل صاحب الحمل أم غيره، لكن في حالة النفي فإنه إذا لم يوجد فصيل الطفل المحتمل والمتناسل من رجل وامرأة معينين بفصائلهما، فلا تثبت بنوته ضرورة، لأن فصيل الطفل غير ممكنة من الفصيلتين المحددتين لرجل وامرأة.

المثال على هذا: إذا كان للرجل فصيلة "ب" Bوللمرأة فصيلة "ب" B فإن الفصيلة المحتملة للطفل هي:وO، ب.إذن فالفصيلة المستحيلة للطفل هي:أ، أب.فيكون وجود هذه الأخيرة لديه نافيا لأبوة الرجل الذي يحمل فصيلة بA.

غير أنه توجد فصيلة قد لا يستساغ معها تحقيق هذا الإلغاء وهي اجتماع فصيلتي: أ، ب. والتي يحتمل معها وجود فصيلة:و، أ، ب، أب.ومن ثم فلا توجد فصيلة مستحيلة لدى الطفل في هذه الحالة، ولا يمكن نفي الأبوة بسبب هذه الفصيلة، فتبقى الأمور في مسألة الفصائل مجرد احتمال واستئناس في باب الإلحاق سواء كان الأمر مجرد إلحاق نسلي خلقي محض أو إلحاق نسبي شرعي كما سنرى شروطه و ظروفه في حينه، إضافة إلى هذا ما يمكن أن يقع من أخطاء تقنية في التحاليل المخبرية من إمكان وضع مصل خاص بهذا الفصيلة في تحليل فصيلة أخرى، فتكون النتيجة غير صحيحة بسبب خطأ إنساني قصدا وبغير قصد ، إذ المحلل أو الطبيب قد لا يتمتع بشروط العدالة الشرعية كما هو الأمر في باب القيافة و الشهادة كما سبق وبينا بإيجاز.

ثانيا: المعاهدات الدولية لا تسقط الأحكام الشرعية ولا السلامة الغريزية

فطرح هذا الموضوع في باب الولادة والنسب كنا نتوخى منه التنبيه على أن مسألة العلاقة النسلية والنسَبية الأسرية لدى الإنسان ليست مجرد علاقة مادية أو اجتماعية تواضعية محضة، وإنما هي ذات جذور عقدية وروحية وأخلاقية لابد من مراعاتها عند التشريع والتوظيف العملي للحقوق والواجبات .

كما أن المعاهدات الدولية المؤسسة على مجرد الرؤية المادية والتواضعية العلمانية للعلاقة بين الجنسين -ودون مراعاة التشريع الديني في ضبطها -لا يمكن لها أن تعطي الحل الأمثل لمشاكل البشرية وأزماتها الأسرية والنفسية والاجتماعية، وخاصة حينما تتذرع في صياغة قوانينها بالاعتماد على التقدم التقني أو الطبي الوراثي وما إلى ذلك.

إن المشكلة ليست في المادة أو ألآلة التقنية والمعطيات العلمية البحتة وإنما هي منحصرة في المتحكم بهذه المادة والموجه لها بحسب هواه، وأي هوى وانفلات وخسف فكري أسوأ من أن يتداول مما يسمى بالزواج المثلي والتناقش حول قانونيته في البرلمانات، لغاية أن أقرته بعض المحاكم بالولايات المتحدة الأمريكية والأوروبية والذي بمقتضاه قد يصبح قانونا ساري المفعول في كل أنحاء البلاد حسب قانونهم الفاسد.

فأي هوى وخسف مثل أن يصبح الجهر بالشذوذ الجنسي النسوي مادة إعلامية مهمة في مؤتمرات دولية كما حدث في مؤتمر بكين مثلا، إضافة إلى إقرار الإجهاض بضرورة وغير ضرورة مما يهدر معه حق الطفل والمرأة والرجل في النسب والوجود معا.

إنه الهوِيَّ في غياهب الظلمات والفساد، وإهدار النسل والأنساب ومعها الوجود الإنساني وكرامته عموما :"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون" "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين" .

من هنا فإن أهم ما يمكن تسجيله في التعديل الذي ركز عليه في مدونة الأسرة المغربية و ذلك من خلال خطاب الملك محمد السادس أمام مجلس النواب بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية السابعة يوم 13شعبان 1424 الموافق10اكتوبر2003، هو النقطتين الثامنة والتاسعة المتضمنتين لمسألتين مترابطتين ومتناسبتين مع الموضوع الذي نحن بصدد دراسته وهما "الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولة التي صادق عليها المغرب ..."و"حماية حق الطفل في النسب في حالة عدم توثيق عقد الزواج لأسباب قاهرة، باعتماد المحكمة البينات المقدمة في شأن إثبات البنوة..." .

بحيث أن هذا الحق يمثل لب القضية في المشكلات الأسرية ونتائج اختلالها أو انضباطها، مما تنضوي تحته تفرعا كل العناصر الأخرى إما قبلا أو تبعا سواء تعلق الأمر بسن الزواج أو الولاية والمساواة والتعدد والطلاق والتطليق والمواريث وغيرها ...

من هنا فالمعاهدات الدولية إما أن تكون متناسبة مع مقتضيات العدالة ومفهوم النسب الشرعي الذي يخضع له كل البشر في تأسيسه الأسري أصالة -كما سنرى -وإما أن تكون غير متناسبة .

فالمناسبة يمكنها أن تصبح ملزمة شرعا إذا كانت مبنية على مبادئ العدالة والإنصاف واعتبار الشعور المشترك بين البشر بدون عنصرية عرقية أو جنسية، وبذلك فيكون توقيع المعاهدات بمثاب الموافقة على حلف الفضول الذي أيده النبي صلى الله عليه وسلم وأقر به بعد الإسلام، لأنه كان مبنيا على حفظ الحقوق ورد المظالم والوقوف في وجه الظالم و التناصر لمصلحة المظلوم والمعدوم، كما يروى عنه في ذلك قوله "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، لو دعيت به في الإسلام لأجبت" .

أما غير المناسبة فإنها ستكون غير مقبولة ولا ملزمة شرعا أو عقلا وكذلك واقعا، لأنها تتنافى مع مقتضيات الإنسانية في مبدأ التوالد وارتباط الأصل بالفرع وتحديد الهوية وبالتالي ضمان الحقوق في كنف أسرة منضبطة ومتآلفة، لا في حضن ملاجئ وتكريس شيوعية المرأة الأطفال وإهدار نسبهم كما يصبو إليه المفسدون و الإباحيون وخاصة لدى الغربيين!

إذ عدم احترام النسبة بين الأب وابنه وأمه قد يؤدي إلى إهدار لحقوقه، وإهدار حقوقه يؤدي إلى إهدار حقوق أمه وإهدار حقوق أمه يؤدي إلى إهدار حقوق أبيه، فتكون المهدرات دائرية المسلك وعائدة بوبالها على الجميع، وبالتالي يضيع الأصل والفرع، وتندثر القيم الأسرية المبنية على التآلف والمحبة والغيرة والمساكنة والرحمة.

فهذا ما كانت ترنو إلى تحقيقه الجمهورية الوهمية الأفلاطونية المسماة غلطا بالجمهورية الفاضلة وهو ما تصبو إليه أيضا الصهيونية العالمية والماسونية والامبريالية الغربية وعلى رأسها الطاغية الأمريكية صاحبة الزعامة فيما تسميه بالنظام العالمي الجديد، والذي في حقيقته: انتكاسة إنسانية نحو الفوضى والإفلاس البشري العام بذريعة حقوق المرأة والطفل والإنسان وكذا الحيوان. نعرض لبعض من قوانين الجمهورية المذكورة ومدى تقاربها مع ما يطرح من حلول وترويج في الإعلام المعاصر لا تزيد الإنسانية إلا قربا من رعب مرض السيدا وسرعة انتشاره بدل الحد من خطورته!!

يقول أفلاطون في محاوراته:

"فإن كنت مشرعا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم ثم تجمع بين هؤلاء و أولئك فيكون للجنسين معا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئا لنفسه ويعيشون سويا!"

صورة هذا التعايش يحددها القانون التالي :"إنها تتعلق بالقانون الذي يترتب على القانون الحالي وعلى القوانين السابقة عليه .-وما هو ؟...هو أن نساء محاربينا يجب أن يكن مشاعا للجميع، فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه منهم، وليكن الأطفال أيضا مشاعا، بحيث لا يعرف الأب ابنه ولا الابن أباه...".

فهذا التعايش والشيوع بفساده يتأسس على فساد آخر وهو البناء الاجتماعي والأسري العنصري كما يقول: " من الضروري تبعا للمبادئ التي أقررناها أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضعف نطاق ممكن ولابد من تربية الأطفال الأولين الآخرين إن كنا نود أن تحتفظ للقطيع بأصالته، ومن الناحية الأخرى فعلى الحكام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء كي يتجنبوا على قدر استطاعتهم كالخلاف داخل قطيع الحراس" .

أخيرا فيكون مصير الأطفال هو: "أما الأطفال فعندما يولدون يعهد بهم إلى هيئة تتولى شؤونهم، فتكون إما من رجال أو من نساء وإما من الجنسين معا مادامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء ".

فهذه النصوص لا تحتاج إلى تعليق وإنما جوابها هو قول الله تعالى "ولو اتبع الحق أهواءهم لفدت السموات والأرض ومن فيهن". "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " "وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم""قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون " .

فلنبحث عن الطيب ومسلكه عند أهل الحق من الأنبياء والرسل الذين أسسوا النسب الإنساني وحموا حقوقه من الطفولة إلى الكهولة.

***

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة

وجدة، المملكة المغربية

في المثقف اليوم