تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

علي عمرون: في الذكرى المئوية التاسعة لوفاته

أبو حامد الغزالي البحر المغدق والمغرق

(شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر)... أبو بكر بن العربي

***

فرش اشكالي

الفكرة الباطلة لا يمكن ان تحارب الا بفكرة صحيحة وواضحة وظلام الجهل لا ينكشف الا بانبلاج فجر نور العلم وسوءة الظلم لا تستتر الا بثوب العدل وأصح الأفكار هو بناء دولة الحق والعدل التي تأخذ بعلوم السماء والارض " فالحَقُّ أَبْلَجُ والبَاطِلُ لَجْلَجٌ "هذه الحكمة أدركها أبو حامد الغزالي فربط في مشروعه النقدي التنويري التحرري بين سلطة الحاكم وسلطان الدين فالدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. حفزه تكليف الخليفة المستظهر بالله على الرد على الباطنية ومعتقداتهم الفاسدة التي كان يتغذى منها الفساد السياسي في دولة الخلافة. لاسيما عقيدة الولاء المطلق للولي سواء القائم بأمور الدين او الدنيا. لقد تتبع بالبحث والتقصي اراء فلاسفة اليونان والإسلام وفهم مقاصدهم واثبت بالحجة والبيان مرتكزا على المنطق كمعيار وميزان  تهافت أفكارهم لاسيما الفلسفة المشائية.طلب العلم فطلبه العلم وانتخبه لمهمة احياء علوم الدين في عصر اطفئ فيه العوام بجهلهم والمبتدعة بمكرهم انوار الشريعة ومشكاة الحكمة وسراجها المنير واحرق فيه الساسة بظلمهم  واستبدادهم كتب المنطق والفلسفة عصر عجز فيه الكثير من الفقهاء عن المطالبة بدولة العدل واسكتهم الخوف والجلوس الى موائد السلطان عن قول حقيقة ان العدل اساس الملك فأفتى بعضهم بان الفلسفة شر وانها  جهالات وأكثرها لا يفيد الا تشكيكا ورأيا ركيكا  وانه من تمنطق تزندق، ثقافة أسست لنشر الجهل وتقديسه بين العوام  في عصر الفتن والمحن عصر ارتقى فيه  الغزالي من شواهد  الحس الى منطق العقل ومن الشك الى اليقين ومن التفسير الى التأويل  وانتهى الى  الارتماء في احضان القلب طالبا الخلاص رحلة طويلة وشاقة  كشفت عن محنته في ظاهرها وباطنها.

ولكن لماذا الحديث عن محنة الغزالي اليوم؟ وهل استطاع الغزالي أن يخرج من بطون الفلاسفة بعد أن دخل فيها؟ وهل يمكن القول ان الغزالي كما يقول محمد ثابت الفندي فيلسوف ديني؟ وهل كان لأزمات الطفولة والترسبات النفسية تأثير في انقلابه الروحي وميله الى التصوف؟ وكيف نفهم علاقة الغزالي بالسياسة؟

لاشك ان  إعادة استحضار شخصية الغزالي في القرن الواحد والعشرين هي محاولة جادة  للتفكير في الزوايا المظلمة والمسكوت عنها في شخصيته وفلسفته، فالغزالي عاش في عصر الفتن والمحن عصر التكالب على السلطة السياسية عصر الاغتيالات والاستبداد والخوف وكان عليه ان يختار فاختار الحرية، لقد كان الغزالي بحق غزالا غزل ثوب الحقيقة بخيوط الشك فحولها الى يقين كان طوسي المولد وطاووسا يمشي فوق الأرض و الطاووس هو رمز الكرامة والجمال والحياة الخالدة وقدرته الى ابصار الحقيقة اسطورة تكرر ذكرها في الفلكلور الصيني والمسيحي وسكنت روح الغزالي  ولاعجب في ذلك فقد كانت طوس مدينة العلماء والادباء. لقد كان قدر الغزالي ان يعيش ألم اليتم صغيرا وألم الشك وغربة العقل طوال حياته وشخصيته التي تبدو للبعض مفهومة وواضحة هي في حقيقتها اشد تعقيدا فذو العقل يشقى في النعيم بعقله لذلك كان لزاما الحفر والنبش في زواياها الخفية لنستمد من فلسفته قبسا من نور نهتدي به في عصر اليتم السياسي والثقافي.

الغزالي مفرد بصيغة الجمع

الغزالي مفرد بصيغة الجمع ورجل بعدة رجال بل هو أمة فهو الفقيه والاصولي الموسوعي المجدد وهو المتكلم والفيلسوف والصوفي الذي استند الى شواهد العقل واستدلالات المنطق في بيان قصور الفلسفة على بلوغ الحقيقة التي أبصرها بأنوار القلب فللقلب أمور لا يدركها العقل. اذا نظرت اليه في طفولته وشبابه رأيت فيه الطفل اليتيم والشاب المتعطش لإدراك الحقائق بفطرته و التلميذ الذي تفوق على استاذه الجويني طلب العلم في صغره بنية مواجهة قسوة الحياة واكراهات الدنيا في بعدها المادي فطلبه العلم لإحياء الدين والدنيا فكان بحق حجة الاسلام وهناك في طوس في قرية غزالة ابصر النور عام 450 هجري الموافق ل 1058 ميلادي  في بيت  له بالمغمور ولا المذكور عند العامة من الناس فأبوه كان غزالا للصوف ورجلا شريفا عفيفا يأكل هو واسرته من عمل يديه  ورغم عوزه وضيق الحال وقلة المال الا انه كان يؤثر العلماء  على نفسه وعياله ويهب الى مساعدة ومجالسة  من تعلق قلبه بهم وهم رجال الصوفية هناك على بابهم دعي الله ان يهبه قلبا صافيا وولدا من صلبه يفقه الناس في امور دينهم ودنياهم فرزقه الله بأحمد ومحمد وسخر له صديقا بعد وفاته  اوفى بما أتؤمن عليه وغرس في نفس الطفلين  حب القران وحسن الاصغاء لمجالس الذكر فشحن روحهما بالرغبة المتقدة و الارادة القوية للسير في طريق العلم وكان ذكاء أحمد وقوة ذاكرته وسرعة بديهته وخياله الخصب وصفاء قلبه ونقاء سريرته وجمال خلقه وحسن خلقه مسببات  لارتقاء الشاب في مسالك العلماء والصالحين وزاده الله بسطة في العلم ونورا على نور و هنالك في نيسابور كان اللقاء مع استاذه الاشعري المعتقد المتكلم بلسان الحال والمقال  الفقيه العلامة الجويني الذي ادرك بفراسته نبوغ تلميذه فغرس فيه حب الدين فكان الغزالي اشعريا قلبا وقالبا لازم دروسه في المدرسة النظامية وتحول الى مدرس فيه لاحقا وفي بغداد هنالك ذاع صيته فجمع بين خير الدنيا والدين  حيث كانت له حاشية وحشم واقترب من مجالس السلطان وتقاطع مع رجال السياسة وسرعان ما احترق بنارها وهنا بدأت محنته.

تأثير العوامل الخارجية والداخلية في محنة الغزالي

محنة الغزالي لا يمكن فهمها الا من خلال عواملها ومسببتها الداخلية والخارجية والمقصود بالعوامل الخارجية المحيط الثقافي والساسي والاجتماعي آنذاك في القرن الخامس الهجري وقد تحدثنا عن بعض ملامحه في محنة ابن النحوي لقد كان الصراع على اشدته حول من يتولى مقاليد الحكم في دولة الإسلام المترامية الاطراف في ظل سلطة ضعيفة مثلها الخلافة العباسي لاسيما مع تزايد النفوذ التركي في جيش الخلافة وقد اشار سابقا الفارابي الى خطورة هذا الامر بعد ما اباح قادة العسكر لأنفسهم اقتطاع الاراضي وفرض المكوس ضعف الخلافة العباسية قابله تزايد قوة واطماع الدولة السلجوقية في انتزاع لقب خليفة المسلمين بداية من تزويج بنت السلطان السلجوقي ملك شاه من الخليفة العباسي ووصولا الى اطماع بركاروق ورغبة الحسن بن الصباح امير قلعقة ألموت او ما يسمى عش العقاب وزعيم فرقة الحشاشين والذي لقب نفسه بالامام صاحب مفتاح الجنة في الانتصار لشهواته ونشر الفكر الإسماعيلي النزاري  وعلى مستوى العقائد كان الصراع مستمرا ومتجددا بين الشيعة والسنة بمختلف فروعهما رغم تراجع سلطة المعتزلة وبروز فرقة الاشاعرة لم تقف الفلسفة في القرن الخامس الهجري عند الخاصة، بل امتدت إلى العامة لانتشار المذاهب الكبرى وتعارضها، فكان هناك رافضة وحنابلة، شيعة وأهل سنة، معتزلة وأشاعرة، فلاسفة وعلماء. ويكفى أن نشير إلى بعض وجوه معبرة، ففى هذا القرن عاش أبو عبدالله البغدادي الشيعي (413 هـ)، والقاضى عبد الجبار شيخ المعتزلة (415 هـ)، وأبو على ابن سينا شيخ الفلاسفة (428 هـ)، وابن الهيثم الرياضي والطبيعي المشهور (430 هـ)، وابن حزم حجة الأندلس (456 هـ)، وأبو إسحاق الإسفراييني (418 هـ)، والجوينى (478هـ) من كبار الأشاعرة، والحسن بن صباح (485 هـ) زعيم الباطنية ولم يكن الوضع السياسي مستقرا  في بلاد المغرب فالصراع بين الدولة الحمادية والمرابطية لم يتوقف والهجمات الصليبية حولت الاندلس الى دويلات فسقطت طليطلة ودخل جيش المرابطين الى الاندلس ثم. اسقطت دعوى ابن تومرت وعبد المؤمن بن علي دولة المرابطين لتظهر على المشهد السياس دولة الموحدين ولم يكن الغزالي بمعزل عن هذا التوتر فقد اقحم نفسه فساهم في تحطيم دولة وبناء دولة اخرى اما على الصعيد الثقافي فيمكن القول ان الغزالي وجد نفسه في بيئة ثقافية مزدهرة بامتياز سواء تعلق الامر بالثقافة العلمية فقد وجد امامه تراثا علميا ضخما في الرياضيات والطب وعلم الفلك....وكانت شخصيات  ابن الهيثم وابن سينا وعمر الخيام وابن عربي ....معروفة ومؤثرة في المشهد الثقافي بل كانت قريبة من عصره مشهد سيطرة عليه الفقهاء الذين افتى بعضاهم بحرف كتاب الاحياء مما ولد في نفس الغزالي حزنا هما وارث في قلبه مرضا تجلت من خلاله محنته. اما العوامل الداخلية فلها علاقة بشخصية الغزالي الذي كان صادقا مع نفسه إضافة الى رقة قلبه ورجاحة عقله وقد امتثل القول المأثور حاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا وكان بطبعه متمكنا من النقد ميلا الى الشك وهو القائل في ميزان العمل: (إن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر: ومن لم يبصر بقى في العمى، والحيرة والضلال، ولا خلاص للإنسان إلا في الاستقلال، وتمثل بهذا البيت:

خذ ما تراه، ودع شيئاً سمعت به**** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

مرض الغزالي بين الذهان والكنظ أو الغنظ

يقول عبد الرحمن بدوي:" فمنذ أن بدأ يقرأ كتب الفلسفة، ونحن نفترض أن ذلك كان في حدود سنة 484هجري  وهو فى الرابعة والثلاثين، تغير مجرى تفكيره وحدثت له بعد ذلك  أزمة روحية كان من نتائجها أن شك في اعتقاداته الموروثة. وهذا الشك كان أول دافع له إلى النظر العقلى الحر" ومرض الغزالي والذي تسبب في محنته هو مرض نفسي بالأساس صنفه البعض ضمن دائرة امراض الذهان و شعوره بالمرض دام ستة أشهر، من رجب إلى ذي القعدة من سنة 488 هـ حيث  لسانه اعتقل عن الكلام و فقد شهوة الطعام وفي أوائل هذا المرض، أو فى الأحوال الخفيفة منه، تضعف الذاكرة ويتشتت الفكر، ويفقد المريض لذة الاهتمام بأمور الدنيا إذ لا يرى لها قيمة لأنها تكون عنده، في حالته تلك، أموراً عارضة زائلة. ثم هو يأبى بذل الجهد ويتخوف من حمل التبعة. ويرافق ذلك كله حال من الحزن ومن الشقاء البادى ؛ ثم تلح على المريض ذكريات الماضى وتتجسم له الأخطاء اليسيرة، وتتبدى له أحواله الحاضرة كثيرة السوء فيقنط من كل تحسن آني أو مقبل ويستولى عليه قلق شديد. ويكون المريض في هذه الحاله بطىء التفكير ثم يعجز عن معالجة الموضوعات جملة، بينما يستمر تأمله في أحواله الشخصية ناشطاً فتتوارد عليه الخواطر المؤلمة بلا انقطاع، ثم إنه يجبن عن الجزم في الأمور التي تعرض له. وكذلك يقل كلام المريض وتندر مخاطبته للآخرين، ولكنه يظل في العادة ميالا إلى سرد حكاية حاله بالتفصيل على الآخرين. وترى المريض تنتابه الأفكار السود لكثرة ما يحاسب نفسه على ضعف طبيعته البشرية.

وقد وصف حالته في كتابه المنقذ من الضلال قائلا:" فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعى الآخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفى هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لسانى، حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً، تطييباً لقلوب المختلفة إلى، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقدة في اللسان، حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم، ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لى ثريد، ولا تنهضم لى لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم فى العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج. ثم لما أحسست بعجزى، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء، الذي لا حيلة له، فأجابى الذى يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي، الإعراض عن الجاه، والمال، والأولاد، والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج. إلى مكة وأنا أريد فى نفسى سفر الشام، حذار أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب في المقام بالشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على  عزمی ألا أعاودها أبداً.-1-

ويتضح من النبش والحفر في كتب الذين تحدثوا عن الغزالي  أنه أقام مختلياً بالشام قريباً من سنتين؛ ولكن هذه المراجع لا تبين  كم أقام في بيت المقدس، ولا كم أقام في الحجاز، ولا كم أقام في طوس بعد العودة إليها، ولكنه أجمل كل ذلك وقدره بعشر سنوات، غير أنه في موضع آخر  يقدر هذه المدة بإحدى عشرة سنة. وقد وصف هذه الرحلة في كتابه المنقذ من الضلال:"  ففارقت بغداد ثم دخلت الشام، وأقمت بها قريباً من سنتين ؛ لا شغل لى إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من علم الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ؛ أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسى.. ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأقفل بابها على نفسي ثم تحركت في داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه فسرت إلى الحجاز.ثم جذبني الهم ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضاً، حرصاً على الخلوة وتصفية القلب للذكر، وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لى الحال إلا في أوقات متفرقة،لكني مع ذلك لا أقطع طمعى فيها فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها ودمت على ذلك مقدار عشر سنين  "

عبقرية الغزالي

لقد كان الغزالى نموذجاً للمثقف الملتزم رغم التجارب النفسية والفكرية التي عاناها. وتكفي العودة الى كتابه المنقذ من الضلال للوقوف على محطاتها ومستوياتها. و آخر لفظ فاه الإمام الغزالي به كما يروى ابن كثير لما سأله بعض اتباعه أن يوصيه هو قوله: (عليك بالإخلاص،، ولم يزل يكررها حتى مات)

عالج أمهات القضايا الفلسفية التي شغلت كبار المفكرين والفلاسفة من قبله ومن بعده ووقف منها موقفاً نقديا مجدداً. لقد تأمل طبيعة المعرفة الإنسانية وأدرك نسبية قدرة الحواس والعقل في الوصول إلى الحقيقة وتحليله  لفكرتى الزمان والمكان يقترب كثيرا من نظرة كانط الفلسفية  فقد ربط بينهما في تلازم والحضور قائلا: « كما ان البعد المكاني تابع للجسم، فالبعد الزماني تابع للحركة، فإنه امتداد الحركة، كما ان ذاك امتداد اقطار الجسم فلا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى « قبل و بعد، وبين البعد المكاني الذي تنقسم العبارة عنه عند الاضافة الى فوق وتحت » ومعنى ذلك ان الزمان والمكان هما علاقة بين الاجسام، أو بالأحرى هما علاقة بين تصوراتنا. وهما صورتان قبلیتان سابقتان للتجربة نستعين بها على إدراك العالم الخارجي. على ان أهم مسألة فلسفية تعرض لها الغزالي هي مشكلة السببية. فهو يقول: «إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً، وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا ؛ بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات احدهما متضمن لاثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس على ضرورة وجود احدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الآخر ؛ مثل: الري، والشرب، والشيع، والأكل، والشفاء، وشرب الدواء وهلم جرا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب، والنجوم،، والصناعات، والحرف. وان اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه: « وإلى جانب القضايا الفلسفية الكبرى بحث كثيراً من الاعتبارات المنطقية والنفسية والتربوية والخلقية والاجتماعية وحسن الخلق عنده يعود الى اكتمال الحكمة واعتدال الشهوة  وكونها للعقل والشرع مطيعة  وكتبه المتعددة الكثيرة ينبوع ثري للباحث عن وجهات النظر هذه فى تاريخ الفكر الإنساني هذا الشك المنهجي الذي دعا إليه الغزالى إنما كان ثمرة مطالعاته لكتب الفلسفة. وبلغ هذا الشك أوجه حوالى سنة 484 هـ. هنالك أحس بأنه لن يستطيع المضى في هذا الشك، لأن طبيعته تميل إلى اليقين، ولأنه بعد دفاعه المجيد عن الإسلام السني ضد الباطنية بكتابيه و (المستظهرى) و (حجة الحق): حتى أصبح حجة الإسلام، قد صار لزاماً عليه أن يؤدى دوره الجديد الذي. أحس بأنه دوره ورسالته، أعنى الدفاع عن الإسلام، لا دفاع المتكلم أو الفقيه، بل دفاع المشارك في الفلسفة ثم  اتجه إلى البحث عن ملكة أخرى للمعرفة غير العقل الذي عليه اعتمد الفلاسفة فكان ذلك سبباً لتهافتهم، وأخيراً وجد هذه الملكة في الكشف والذوق عند الصوفية، مما كان سبباً في بدء مرحلة ثالثة وأخيرة في حياته ابتداء من سنة 488 هـ، هى مرحلة التصوف.

احراق كتاب الاحياء

مع تولي علي بن يوسف بن تاشفين مقاليد الحكم خلفاً لأبيه، لم تستمر العلاقة الوطيدة التي كانت بين الغزالي ورأس دولة المرابطين، وكان سبب التوتر كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين"، والذي بلغ من الصيت والشهرة مبلغاً عظيماً، حتى تناسخه العامة والخاصة.-2-

وصل كتاب "الإحياء" إلى الأندلس والمغرب سنة 503 هـ، وفي ذلك العهد، كان الفقهاء في دولة المرابطين قد تبوأوا مكانة رفيعة، وساهموا في رسم الإطار السياسي للدولة، وكانوا شركاء في أمور الإدارة والحرب والحكم، الأمر الذي أهّلهم لتصدر الهرم الاجتماعي في المجتمع الأندلسي والمغربي، وتجاوزوا مرتبة المرجع والمستشار التشريعي ليصبحوا كما عبّر المؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي: "أمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، فانصرفت وجوه الناس إليهم وكثرت أموالهم واتسعت مكاسبهم".

اشتد الجدل بين مؤيد ومعارض لكتاب الغزالي، وقامت من أجله معارك استمرت أيضاً بعد موت الغزالي. كان المعارضين الأكثر عدداً والأقوى نفوذاً، فشنوا حملة شعواء على "الإحياء" بسبب ما أبداه الغزالي من تذمر للفقهاء وانتقاصه منهم، إذ فضل تسميتهم بعلماء الدنيا، كما عدّ مرتبة الفقيه أقل من مرتبة المتصوف، إضافة إلى اتهامه الفقهاء بالاهتمام بفروع الشريعة دون الأصول، وأيضاً ما حواه الكتاب من أحاديث ضعيفة وموضوعة، وكذلك انتصار كاتبه لآراء المتكلمين من مذهب الأشاعرة. ولذلك، اعتبر فقهاء المرابطين أن الكتاب يحمل أفكاراً دخيلة على منهجهم ومجتمعهم الذي كان "سلفي العقيدة"، فقد كان المذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة، فأهل المغرب والأندلس مالكية الأصول والفروع، ومالكية في العقائد والحكم والعبادات، حسب ما يوضح محمد المنتصر، في دراسته عن الغزالي والمغرب.

يعدّ المؤرخ ابن القطان حادث إحراق كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" سبباً لسقوط دولة المرابطين، إذ علّق على هذا الحادث بالقول: "كان إحراق هؤلاء الجهلة لهذا الكتاب العظيم الذي ما ألف مثله سبباً لزوال ملكهم، واستئصال شأفتهم على يد هذا الأمير العزيز القائم بالحق"

ويأتي القاضي أبي القاسم بن حمدين كواحد من أهم الفقهاء في بلاد المغرب والأندلس ممَّن تصدّوا لكتاب "الإحياء"، فما إنْ وقع الكتاب بيده، وقرأه حتى ثارت ثائرته، ورفع الأمر إلى علي بن يوسف بن تاشفين، ومن المعروف أن دولة المرابطين دولة فقهاء، نشأت ابتداءً على أساس دعوة الفقيه عبد الله بن ياسين، وبالتالي كان الأمير لا يخرج عن رأيهم في الأحكام وسياسية الدولة. وحين اجتمع ابن تاشفين مع الفقهاء، اقنعوه بوجوب حرق كتاب "الإحياء"، وأفتوه بأنه لا تجوز قراءته بحال، ومع كون معارضة البعض للحرق، مثل الفقيه أبو الفضل النحوي، والذي قال لهم: "وددت أني لم أنظر في عمري غير كتاب الإحياء"، إلا أن المعارضين كانوا أقلية، وبالتالي غلب ابن حمدين ومَن رأى رأيه، وأثاروا معهم العامة وطلبة العلم، فما كان لعلي بن تاشفين إلا أن يستجيب لرأي الأكثرية.

وكتب علي بن تاشفين إلى أقطار مملكته بمنع تداول كتاب "الإحياء"، ومصادرة كل النسخ التي بيعت، والتفتيش عنه في المكتبات العامة والخاصة، وأخذ الأيمان المغلظة من الناس بأنهم لا يملكون نسخاً منه. وبعد أن جمعت نسخ الكتاب، أمر علي بن تاشفين بقرار رسمي وبفتوى فقيه قرطبة ابن حمدين، بأن توضع في صحون مساجد الأندلس والمغرب، ليصب الزيت عليها، ثم توقد فيها النيران، فتحرق على مرأى أعيان الناس وعامتهم. ويروي ابن القطان المراكشي، في كتابه "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان"، أن هذا الحادث وقع في أول عام 503 هـ.

وتوالى بعدها إحراق كتاب "الإحياء" في سائر بلاد الأندلس والمغرب، وإنزال أشد العقوبات بمَن وُجد عنده نسخة منه، من سفك دمه والاستيلاء على ماله، واشتد الأمر بذلك، بحسب الرواية التي أوردها المؤرخ عبد الواحد المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب". كما أن حملة الحرب على كتاب "الإحياء" لم تقتصر على عهد الأمير علي بن يوسف، بل امتدت كذلك إلي ابنه تاشفين بن علي، والذي بعث برسالة إلى أهل بلنسية، جاء فيها: "ومتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة وفقكم الله كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على مَن يتهم بكتمانها"، بحسب ما أورده محمد عبد الله عنان في كتابه عن عصر المرابطين والموحدين. وجدير بالملاحظة أن معارضة كتاب "الإحياء" لم تقتصر على المرابطين وأهل المغرب فقط.

هل تهجم الغزالي على الفلسفة المشائية يخرجه من دائرة الفلسفة؟

يجيب محمد ثابت الفندي على هذا التساؤل بان الغزالي فيلسوف من أكثر من جهة:

فمن جهة أولى كان الباعث الأساسي لكتاباته الغزيرة التي شن في بعضها حروباً في جبهات متعددة كجهات الفقهاء والباطنية والفلاسفة والمتكلمين وبسط في بعضها الآخر وجهات نظره التى ارتضاها ودافع عنها، كان ذلك الباعث الأساسي مشكلة فلسفية من الدرجة الأولى في النوع وفى الأهمية ألا وهي مشكلة اليقين الذى لا يتزعزع والذى يميز المعرفة الحقة. لقد تطلع الغزالي دائماً إلى اليقين الذي لا يقبل الشك فيما وراء كل الحقائق التي قدمتها إليه علوم عصره. وهذا ما صاغه الغزالى فى (المنقذ من الضلال » في عبارة تذكرنا بالقاعدة الأولى من قواعد المنهج عند الفيلسوف رينيه ديكارت فيقول الغزالي: (إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور). أما الوجه الثاني الذي يجعل من الغزالي فيلسوفاً فهو أن الحقيقة التي تتميز بذلك اليقين إنما هي عنده الحقيقة الصوفية، دون غيرها من أنواع الحقائق: إنه قبل بذلك معياراً للحقيقة كما قبل الفلاسفة عبر القرون معايير أخرى  أما الوجه الثالث الذى يجعل منه فيلسوفاً للدين الإسلامي بالذات فهو الموضوعات التي تناولها الغزالي والآراء التي أبداها بشأنها إنما هي من صميم ما يسمى عند الفلاسفة  بفلسفة الدين. يقول فرجيليوس فيرم Vergilius Ferm في تعريف فلسفة الدين: (إن فلسفة الدين بحث في موضوع الدين من الناحية الفلسفية.. ومن مسائلها طبيعة الدين ووظيفته وقيمته)

ويضيف الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الواقع أن موقف الغزالى من الفلسفة يدعو إلى كثير من التساؤل: أفيلسوف هو حقاً ؟ وإن كان فما فلسفته؟ وما أثرها؟ ولم حمل على الفلاسفة كل هذه الحملة؟.

وعندى أنه كان لا بد له أن يتفلسف، وأن يتفلسف في عمق وسعة. كان لا بد أن يتفلسف لأن الفلسفة في عهده كانت جزءاً من الثقافة الكاملة، فلا يستكمل الدارس ثقافته إلا إن ألم بقسط منها ؛ ذلك لأنه أضحى للمسلمين فلسفة يسرت مواردها، وتعددت كتبها. وإذا كانوا قد عنوا بالنقل عن غيرهم خلال القرنين الثانى والثالث الهجري، فإنهم بدءوا منذ القرن الرابع يفلسفون بأنفسهم ولأنفسهم، وكونوا مدرسة فلسفية على رأسها الفارابي وابن سينا. وكان لا بد للغزالى أن يتفلسف أيضاً، لأنه شغف بالدراسات الكلامية في سن مبكرة، وتتلمذ لإمام الحرمين نحو ثمان سنوات، وهو شيخ الأشاعرة في عصره. وقد سبق للمعتزلة أن فلسفوا علم الكلام، وأضحى في أيديهم أول فلسفة إلهية فى الإسلام.  ويضيف عبد الرحمن بدوي وهكذا نرى الغزالى قد تأثر في هذه الموضوعات الثلاثة على الأقل بالفلسفة اليونانية تأثراً ظاهراً قوياً فى المرحلة الأخيرة من حياته، تلك المرحلة التي بدأت في سنة 488 هجري وفيها أظهر انصرافه عن الفلسفة وكفره بالفلاسفة: والواقع أنه يقى - رغم كل ما بذله في بطون الفلاسفة ولم يقدر أن يخرج منها كما قال أبو بكر ابن العربي وما تظاهر به من طعن في الفلسفة، لم يكن يقصد به الطعن إلا في الظاهر، ابتغاء التقريب بينها وبين الدين حتى يستطيع أن يجعل الفلسفة مقبولة في رحاب الدين السني.

***

علي عمرون - أستاذ مادة الفلسفة

.....................

الهوامش

1- كتاب المنقذ من الضلال.

2- انظر مقال من دعم غزوهم ممالك الأندلس إلى الدعاء عليهم... علاقة أبو حامد الغزالي بالمرابطين.

3- مهرجان الغزالي في دمشق مارس 1961 اعمال ملتقى الذكرى المئوية لميلاد أبو حامد الغزالي.

في المثقف اليوم