قضايا

د. مؤيد عبد صوينت: الشيعة ودلالات التركيب

تعتمد فكرة التأطير الدلالي للتوصيفات السوسيو-سياسية على ما تقدمّه اللسانيات من بناءٍ تركيبي للولوج إلى الحقل السياسي العام، لتتخذَ منه تنظيراً وممارسة وأفعال منجزة من دون الالتفات إلى الجذر التوصيفي الذي تمّ ترحيله من حقل اللسانيات إلى الفضاء العام المرتبط بالسياسة والتوصيفات الاجتماعية على نحو وثيق . تقوم اللسانيات بالنسبة للعلوم الاجتماعية بدور الواهب العام، من هنا، يمثّل هذا التداخل – فيما أرى - بين اللساني والمعرفي مدخلاً لإعادة توصيف الشيعة لذاتهم واختيار توصيف هوياتي مُحدّد تترسخ عن طريقه معالم الصورة المستقبلية لما يريده الشيعة وما يصبون إليه من أهداف وغايات. اجترحت لحظة 2003 مساراً حراً أتاح بزوغ أسئلة وجب على الذات الشيعية أن تواجهها بعد عقودٍ من الكبت والقهر وفرض الصمت المريع، يقعْ في مقدمتها كيفيّة التوصيف الجماعاتي الذي تحمله الذات الشيعية وتؤمن به، تتيح اللسانيات وتراكيبها الدلالية ثلاثة توصيفات للوقوف على الفهم الذي يتغيأ الشيعة في العراق أن يكون معبّرا عنهم وهي على النحو التالي:

1- الشيعة العراقيون.

2- الشيعة في العراق.

 3- العراقيون الشيعة .

يختزن التوصيف الأول إعلاء المذهبي على الوطني، مع استدعاء ذاكرة انقسامية على شكل موجات متتابعة بوصفها الدافعية الأكثر تأثيراً في مجمل السياسات والخيارات التي يتبنّاها الشيعة، وهو توصيفٌ يقوم أساساً على مبدأ التنافي والتعريف بالنقيض الديني، ومع صراع الإثنيّات والتمزق الذي يلفّ المنطقة برمتها، أتاح هذا التوصيف تخفيف ضغط الانتماء الوطني لصالح الهوية الفرعية التي شهدت محاولة للمحوِ بلا هوادة، ليتحول المذهبي بمنظوره الضيق المسار الوحيد الذي يحمي الشيعة فضلاً عن كونه وظيفة يتمكن الشيعة من خلاله تقديم أنفسهم مكونا أبويا لبقية المكونات بسبب الغالبية الديموغرافية بما تختزنه (الأبوية) من حمولات دلالية في التاريخ العربي والاسلامي على طول الخط. ولعلّ التأثير الأكثر حضوراً يتمثل في علاقة المتن التي تربطهم بالشيعة غير العراقيين والهامش الذي يربطهم بغير الشيعة في العراق .

أما التوصيف الثاني (الشيعة في العراق) فيستضمر دلالياً النظر إلى الشيعة كجسدٍ واحد في كل البلدان، مما يستدعي تهميش المكان لصالح التوصيف الهوياتي، ليتحول الوطن من متن المواطنة الى هامشٍ للمكان، وتتكئ الهوية آنذاك على سرديات جماعية تُعلي من شأن العقيدة بوصفها ضديدة للوطنية ومنافية لها، ساعد على ذلك فشل الاندماج الوطني في العراق وتصاعد سياسة المحاور التي أخفت طموحاتها السياسية في دول الإقليم تحت عباءة المذهب والطائفة من قبل جميع الدول المتصارعة، ويصبح جذر التعريف للشيعة في العراق هو بروز السردية التاريخية بكل حمولاتها الانقسامية وتعدد تأويلاتها على حساب المتحقق الفعلي في عوالم الهويات الوطنية ومحاولة تجذيرها في ضوء واقع ملتهب.

أطلقت لحظة ما بعد 2003 الإشكالية الكبرى المتمثلة في البناء التركيبي – الدلالي الثالث: (العراقيون الشيعة)، هذه الإشكالية التي طرحت نفسها بشكلٍ ضاغط على طبيعة العلاقة بين العراقيين الشيعة وسائر الجماعات الشيعية في العالم، فقد كان هناك توقٌ شديد لأن  يجترح العراقيون الشيعة نموذجهم الخاص بوصفه نموذجاً يُحتذى من قبل دول الإقليم وما تضمّه من هويات فرعية وديموغرافيات متعددة، سواء على صعيد العلاقة مع إيران أو مع الدول العربية، مع فرصة تاريخية لشيعة العراق لاختيار توصيفهم الهوياتي والوطني بكونهم جزءاً مِنْ أو جزءاً في، وهذا التوصيف يُعلي من شأن الوطني على المذهبي، ويجعل التسابق لتقديم المثال الشيعي مقدّماً على الذاكرة الانقسامية التي تُهيمن على العراق وعلى المنطقة برمتها، ليجري التناغم بين الوطني والمذهبي وفق ضوابط ذاتية محدّدة غير قابلة لقبليات المصادرة والنفي، مع إمكان وجود طموحٍ رائد ينظر إلى الشيعة بوصفهم رهاناً لبناء دولة وطنية في ضوء الولادات المتعسرة التي هيمنت على العراق منذ نشوء العراق الحديث بوصفه دولة وطنية ضمن فضاءات التعريف السائدة، غير أنّ الشيعة في العراق حتى هذه اللحظة لم يختاروا التوصيف التركيبي- الدلالي الذي يسيرون عليه، فمازالوا غارقين في دوّامة البحث عن توصيفٍ لذاتهم في عالمٍ يتسارع من حولهم، ومن غير أنْ ينتظر أحدا.

****

د. مؤيد عبد صوينت

 

في المثقف اليوم