قضايا

مراد غريبي: ما بعد مالك بن نبي.. قصة مثقف (1)

مفتتح: مع مطلع كل سنة جديدة ونهاية شهر أكتوبر من كل سنة ميلادية نستذكر شخصية فكرية وثقافية أثرت في العديد من المعطيات الثقافية العربية والإسلامية، وتركت بصمتها في ذاكرة الثقافة العربية والإسلامية من طبنجة إلى جاكرتا، مثقف فكره نال قسطا كبيرا من التفكر والتأمل، ومحاضراته جابت ربوع العالم من الجزائر إلى تونس وباريس والقاهرة ودمشق وبيروت وبكين وطوكيو، لم يتوقف عن دق أجراس الوعي ويرفع الصوت عاليا من أجل النباهة الثقافية والوعي الحضاري، إنه المفكر المهندس المرحوم مالك بن نبي، هذا المثقف الثائر على الاستعمار وقابليته والمنادي بالاتحاد والوحدة والتعاون والتحرر من كل قيود الامبريالية، المفكر الذي كشف مكامن الضمور الحضاري في النفس والإجتماع العربية والإسلامية، إنه ابن الجزائر البار الذي ترك تاريخا مفعما بالعقلانية والحكمة والنباهة لمنحيات النهضة وشروطها، سنحاول في رحاب هذه السلسلة من المقالات الوقوف على أهم حيثيات نظريته الثقافية ورؤاه ومطارحاته حول الثقافة والحضارة والتربية والتاريخ والأخلاق، مع الوقوف عند بعض المنعطفات الهامة في حياته الفكرية والثقافية والتي حاولت تشويه صورته والتقليل من مشاريعه النقدية والإصلاحية، حيث نركز أساسا على رسم معالم تأسيسه الفكري والثقافي ومشواره الثقافي الممتد لقرابة خمسة عقود من الزمن...

مالك بن نبي المثقف

عرف فكر مالك بن نبي -رحمه الله -اهتماما كبيرا في العقدين الأخيرين، وشهدت صفحات الجامعات ودور النشر ومواقع الشبكة العنكبوتية العديد من الدراسات والمؤلفات والكتابات حول فلسفة الحضارة ونظريات الثقافة والحضارة والتربية عند مالك بن نبي، ونالت كتب مالك بن نبي إقبالا عظيما في معارض الكتب عبر العالم العربي والإسلامي وهناك من ذهب لمحاولة مقاربة فكر بن نبي مع مفكرين آخرين ضمن المجال العربي والإسلامي أو خارجه، فكانت مرحلة حافلة باكتشاف هذا المفكر الفريد في جغرافية العرب والمسلمين، كما كان هناك جدل حول أفكاره التجديدية وآرائه النقدية وثورته الثقافية في عصر الفكر القومي والمخاض الأصولي ضمن مهب المعركة العربية ضد المستعمر الغربي، وفي سياق كل هذه الموجة الجديدة من مكاشفة فكر مالك بن نبي تلك،هناك أسئلة مهمة، تطرح على كل من يعبر بدراسة فكر مالك بن نبي: ماذا عن مالك بن نبي المثقف؟

أصناف التعامل مع فكر بن نبي:

قد يبدو السؤال السابق للوهلة الأولى إما عجيبا أو عاديا، لكن بلحاظ كل النظرات الثقافية من طنجة إلى جاكرتا بخصوص فكر مالك بن نبي نقف على ثلاث متعاملين:

1. أولئك الذين يستغرقون في التبجيل والاطناب في عرض سطحي لافكاره الحية دون استلهام لما وراء ذلك الفكر من منهج ورؤية ومشروع وتطلع

2. أولئك الذين يستصغرون اجتهادات مالك بن نبي وتضحياته ومواقفه وآرائه التنويرية التجديدية لحاجة تاريخية في أنفسهم عطلت إرادة العبور من الفردانية إلى الشخصانية في ذواتهم والعجيب انه اغلبهم متدينون متناسين الآية من سورة فصلت..

3. أولئك الذين درسوا مالك بن نبي بروح علمية موضوعية منفتحة على تفاصيل مشروعه زمكانيا وثقافيا وانثروبولوجيا فلم يبخسوا مالك بن نبي حقه بل شكلوا جسرا للتواصل بين جيل بن نبي والزمن العربي والإسلامي المعاصر بمنهج نقدي إبداعي لا يركن عند السطح بل يغوص في الاعماق ويتجه نحو الآفاق، مؤمنا بأن التجديد تراكمي بين الأجيال لا مكان للقطيعة الكلية أو الأحادية الفكرية والتسقيط فيه، هؤولاء هم من عانقوا فكر بن نبي للنهضة وليس الخمول أو الاستهزاء..

كيف ننظر لآثار مالك بن نبي؟

الثقافة في نتاج مالك بن نبي تحتل المساحة الأكبر والمفهوم الأبرز، لكن ما وراء الثقافة بإشكالياتها ومشكلاتها ونظريتها وعلاقتها بالحضارة ومفهومها الجدلي كان هناك تجديد الرشد الاجتماعي، لأن المتفحص لمسيرة مالك بن نبي الثقافية منذ ثلاثينات القرن الماضي ولآخر يوم من حياته يكتشف أن الرجل لم يتوان لحظة عن إرشاد من حوله بمعاملات الوعي الثقافي للفرد والمجتمع..

وهنا أتساءل: متى ننظر لمالك بن نبي واقرانه من المجددين نظرة تليق بمستويات التضحية والإجتهاد والإبداع التي صنعوها في واقعهم ولاتزال تستقطب أولي الألباب؟

إن النظرة التي صورها عبد الوهاب حمودة رحمه الله ورشيد بن عيسى وعبد العزيز حمودة ومولود عويمر وأسعد السحمراني وزكي الميلاد وعبد الجبار الرفاعي وصائب عبد الحميد وغيرهم الكثير ممن لا تحضرني أسماؤهم الآن، تمثل قفزة نوعية في استدعاء مرحلة الروح من جديد لدى جيل الأمة العربية والإسلامية المعاصر..

يفهم من أغلب القراءات المعمقة لفكر مالك بن نبي، أن الثورة الثقافية المعلنة من مالك بن نبي على التخلف بشتى تمثلاته، لم تكن ثورة إلتقاطية أو انتقامية، ولا ثورة بسيطة أو مصلحية ضيقة، ولكنها كانت ثورة عقلانية بسلاح العلم والمعرفة والحكمة، التقت ضمنها العلوم والقانون والتاريخ والفلسفة والأدب والفقه المقارن ومقارنة الأديان والفنون والسياسة -بمفهومها الخالص من الدجل والسحر- والإقتصاد والتربية والسوسيولوحيا والإستراتيجية وما هنالك من معارف استثمرها في بحثه لمشكلات الثقافة الكبرى. ولازلت هذه الثورة مستمرة إلى يومنا هذا، الأمر الذي يدفعنا نحو تعميق النظر والفحص والتحليل لرؤى ومطارحات مالك بن نبي الثورية الثقافية..

حتى لا نبخس بن نبي تضحياته

لكن هناك من المفكرين من وجد في أبحاث مالك بن نبي ما يدفع نحو الانقلاب عليها، وذلك بعد أن بالغ البعض في التبجيل وسطحية النظر وعدم اقتحام النسق الخاص الذي يقصد به المفكر السعودي زكي الميلاد (ما بعد مالك بن نبي)، مما دفع بفكر مالك بن نبي إلى ذروة التحنيط بدل التواصل والإبداع، هذه الوضعية أغضبت بشدة شيخ من أمثال غازي التوبة الذي اتجه نحو قلب فكر مالك بن نبي من التبجيل إلى التسقيط لنظرية الحضارة عند مالك بن نبي، متبنيا الجدلية السلفية في مقابل الجدلية الفلسفية، ومنحازا لنظرية صراع المفاهيم في مقابل نظرية صراع الأفكار عند مالك بن نبي (يمكن العودة إلى كتابه الفكر الإسلامي المعاصر ص77، دار القلم 1977،)...

خلاصة الأمر: إن التنوع حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع الحقائق، بما يؤدي إلى استثمار هذا التنوع في سياق إثراء الوعي الثقافي ورسم معالم التطلع الحضاري وتعميق خيار اكتشاف ما بعد مالك بن نبي دون أن نبخس مالك بن نبي وغيره من رواد الثقافة والوعي والنهضة في عالمنا العربي مآثرهم وأفكارهم ونضالهم وتاريخهم الحافل بالانجازات المهمة حتى اللحظة الراهنة...

(يتبع)

***

مراد غريبي - كاتب وباحث / الجزائر

 

في المثقف اليوم