قضايا

علي عمرون: المخطوطات الجزائرية في الفلسفة والعلوم.. الكنز المفقود والمسروق

مدخل عام

التراث روح الأمة وذاكرتها وعنوان شخصيتها وعلامة حياتها فإنما الأمم تقاس عبقريتها بحماية تراثها فإن هي تنكرت لتراثها او عجزت عن حمايته فإنها ولا شك تكون قد انتقلت الى عداد الأموات

ومن المؤسف والمؤلم حقا  أن هذا الميراث الضخم من فلسفة وعلم وأدب وفن، وآثار و معمار، وتراث فلكلوري واجتماعي واقتصادي وهذا التراث الفكري الموجود في المخطوطات الذي خلفه لنا الأجداد، لا يجد العناية الكافية التي ينبغي أن نوجهها إليه في الوقت الحاضر، فميدان الاهتمام بالمخطوطات والباحثين العربية وتحقيق النصوص القديمة، لا يغري سوى فئة قليلة جداً من الدارسين، لأن العمل في هذا الميدان ربما لا يتيح لأصحابه ما تتيحه المجالات الأخرى من الصيت والشهرة، كما أن العمل في إحياء التراث ليس عملاً هيناً يسيراً، بل هو عمل شاق مرهق، تحف به صعاب لا تكاد تحصى (1) وعلى الرغم من ان  الدستور الجزائري في المادة 76 قد نص على ان  :" الحق في الثقافة مضمون وانه لكل شخص الحق في الثقافة بشكل متسا ٍو مع الآخرين وان الدولة تحمي التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي، وتعمل على الحفاظ عليه" الا ان واقع الحال لايتطابق مع ما قيل ويقال ضمن الدوائر التي تتكلم باسم الثقافة . لاسيما ونحن نرى ظاهرة الإهمـال، إهمـال المخطوطات وهي ظاهرة متعددة الأسباب ومختلفة باختلاف الدول العربية ومنها الجزائر، فهـي على العموم ظاهرة ملموسة. وهي إما إهمال من صاحب المخطوطة. أو إهمال في طريقة حفظ المخطوطة، أو تقصير من الدولة ومؤسساتها في غرس قيم الاعتزاز بالتراث عموما والمخطوطات على وجه التخصيص وحمايتها. فواقع المخطوطات في مؤسساتنا الثقافية أو المكتبات وهذا باعتراف اهل الاختصاص غالبا ما تنعدم فيها الفهرسة، وتقل فيها العناية بالمخطوطات، وكثيرا ما تكون عرضة للتمزق أو الإتلاف. (2)

من المفهوم الى الاشكال

يقول الأستاذ الدكتور / محمود فهمي حجازي:" المخطوطات كلمة بسيطة لكنها بالغة التعقيد، لأنه لا يوجد تخصص اسمه مخطوطات، بل هنـاك مجموعـة: تخصصات كالترميم والحفظ والخطوط والفهرسة والتحقيق، والتكشيف ذي الصلة بالتحقيق أو قد ينفصل عنه ثم التاريخ الثقافي. ولذلك هذه الأشياء أكثر تعقيداً مـن أن توصف بكلمة واحدة. إنها علم المخطوطات" وقد عرف المعجم الوسيط المخطوط بانه المكتوب بخط اليد أي انه كتاب لم يطبع بعد فهو لايزال بخط كاتبه او مستنسخ وكلمة المخطوط هي ترجمة لكلمة Manuscrit الفرنسية التي ظهرت الطباعة في مقابل كلمة مطبوع أما في اللغة انجليزية فيسمى Manuscript التي تعني في قاموس Colliers Dictionary الكتاب أو الوثيقة المكتوبة باليد، أو بالآلة الكاتبة، وخاصة قبل عصر الطباعة.وعلم صناعة المخطوطات باعتباره علما :عرفه أحمد شوقي بنين: (هو علم يبحث في تاريخ المكتبات وفي مصادر المخطوطات وفي الفهرسة وفي الوقفيات والتملكات وفي النساخة والمنسوخات وفي الجوانب المادية للمخطوط وفي كل ما هو خارج عن النص (Ex-libris). *ونحن من خلال هذا العمل الذي يغلب عليه الطابع الوصفي نسعى لاقتحام هذه الإشكالية التي اشارنا اليها في منطوق مقالنا من خلال التساؤلات التالية :

- ما واقع المخطوطات الجزائرية وما مصير ما هو مفقود منها؟

-هل نمتلك المعرفة الصحيحة والدراية اللازمة للمحافظة عليها؟ هل في عصر العولمة والكوكبة وثـورة الاتصـالات نمتلك القدرة على تأكيد هويتنا الثقافية والدفاع عن ميراثنا الحضاري واستراد ما سلب منا من مخطوطات؟ هل نمتلك كفاية الارتقاء الى ما يسمى علم المخطوطات؟ هل وفرنا الوسائل المادية والبشرية اللازمة للنهوض بالمخطوطات التي بين أيدينا وتسهيل الوصول اليها والاشتغال عليها تحليلا ونقدا؟ ما مدى قدرة مراكز المخطوطات في الجزائر على المحافظة على هذه المخطوطات وحمايتها؟

- وهل نحن نؤمن حقا بجدوى البحث عن هذا الكنز المفقود ونمتلك الإرادة الكافية للقيام بمهمة استرجاعه؟

هوية الجزائر الثقافية

يجب ان نعترف اننا سنعتمد في مقالنا هذا بشكل كبير على ما ذهب اليه الدكتور أبو القاسم سعد الله في مؤلفه الضخم تاريخ الجزائر الثقافي كفرش لموضوعنا ومادة تاريخية نؤسس عليها استنتاجاتنا فقد أشار رحمه الله الى انه كان هناك رصيد كبير من المكتبات قبل مجيء العثمانيين. فقد كانت تلمسان... عاصمة علمية مزدهرة بلغت فيها صناعة الكتاب، تأليفا ونسخا وجمعا، درجة عالية. وكذلك كانت بجاية وقسنطينة، بل إن إحدى الزوايا في مدينة وهران خلال القرن (15 م) كانت تضم مجموعة من الكتب العلمية والآلات الجهادية، فقد روى ابن صعد في (النجم الثاقب) أن زاوية إبراهيم التازي بوهران كانت تحتوي على الخزائن المملوءة بالكتب العلمية وآلات الجهاد وابن صعد التلمساني هو من علماء الجزائر البارزين عاش في القرن التاسع الهجري وترك جملة من المؤلفات منها مخطوط المناقب الذي تناول فيه عددا كبيرا من رجال التصوف، وروى التمغروطي في أواخر القرن العاشر:"  أن مدينة الجزائر كانت كثيرة الكتب وأنه لا يضاهيها بلد في ذلك من بلدان إفريقية، ولا سيما كتب الأندلس. وهذه هي عبارته :" والكتب فيها -مدينة الجزائر- أوجد من غيرها من بلاد إفريقية، وتوجد فيها كتب الأندلس كثيرا" وقد ذكر أيضا شارل فيرو الذي كتب عن المؤسسات الدينية في قسنطينة وعن العائلات الكبيرة بها، إن بعض هذه المؤسسات والعائلات كانت تحتفظ بمخازن من المخطوطات في حالة جيدة، وأن في هذه المخطوطات نوادر تعتبر فذة في موضوعها. وضرب على ذلك مثلا بمكتبة شيخ الإسلام بقسنطينة (عائلة الفكون) التي قال عنها إنها كانت غنية لا بالكتب الخاصة بالجزائر فقط، بل حتى بالكتب المتعلقة بالبلاد الإسلامية المجاورة ولقد كانت عائلة الفكون قد فازت بخطة إمارة ركب الحج منذ سنة 1638م ثم بوظيفة شيخ البلد في القرن الثامن عشر واستمرت في ورثتهم حتى سقوط المدينة في يد المحتلين الفرنسيين بل إلى غاية 1838. وقد روى العياشي في القرن الحادي عشر ) أنه شاهد بتكورارن (؟) بأعماق الصحراء مكتبة غنية يملكها الشيخ محمد بن إسماعيل وكانت تبلغ ألفا وخمسمائة كتاب) (3)

وفي سنة 1892 كتب المستشرق فانيان كلمة مؤثرة عن ضياع ما تبقى من مكتبة شيخ الإسلام الفكون، وروى كيف تفرقت وضاعت، وأن أحد الدائنين باعها بالمزاد العلني بطريقة وزن الورق القديم، وأن كيساً مليئاً بالكتب الثمينة قد يبع بثلاثين فرتكاً مما تضاءل عند مخطوطاتها ليصل إلى  2000کتاب

ولم يتبقى من أغنى مكتبة شرقية في الجزائر خلال العهد الاستعماري سوء 220 مخطوطة بعد الاستقلال وهي محفوظة بالمكتبة الوطنية الجزائرية حيث قام الباحث السنغالي حسن قوارزو بإحصائهاو فهرستها سن 1966 .

على أن الكثرة الغالية من المخطوطات الجزائرية تقلت إلى فرنسا عنوة يعد مصادرتها من قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر ابتداء من سن 1830م. والذي يرجع إلى مقدمة فهرس فانيان وهو أول قهر من مطبوع للمخطوطات الشرقية من عربية وتركية وفارسية محفوظة بالمكتبة الوطنية في الجزائر يجن أرقاما وأسماء لمخطوطات ضاعت من المكتبة، فقد ذكر من بين الوثائق الضائعة نحو 200 مجلد من بنتها سجلات القرارات الكايات والمئات من العقود والرسائل والوثائق الإدارية. وكما حدث الاعتداء على المكتبة الوطنية حدث أيضا على مكتبة جامعة الجزائر، وقد ثبت لأحد العلماء الجزائريين العاملين في حقل المكتبات والمخطوطات العربية خلافا لما شاع بعد الاستقلال أن مخطوطات مكتبة الجزائر لم تحرق مع غيرها من الكتب المطبوعة يوم احترقت المكتبة الجامعية في 7 جوان سن 1962 1962  حيث تم اتلاف و حرق أكثر من 400 ألف وثيقة و كتاب من مجموع 600 ألف، من طرف المنظمة الإرهابية: منظمة الجيش السري الفرنسية (OAS). كما تعرضت مكتبات المساجد وخزانات الزوايا والتكايا أكثر من غيرها للنهب والسرقة. وقد اتخذ هذا السطو أحيانا صيغة رسمية كما وقع لكتاب (العين) لعيد الرحمن بن خلدون الذي نقل من المكتبة الوطنية الجزائرية إلى المكتبة الأهلية في باريس.(4)

وقد شاعت حركة النسخ والاستنساخ في الجزائر حتى أنه كان لها اختصاصيون مشهورون. ومن شروطها جودة الخط وحسن اختيار الورق واتقان صناعة الوراقة والسرعة والمهارة في التوثيق والدقة في العمل وصحة النظر. وقد اشتهرت قسنطينة ببعض النساخ والخطاطين حتى قارنهم بعض الكتاب بابن مقلة في حسن الخط. ومن هؤلاء أبو عبد الله بن العطار الذي كان من أسرة شهيرة تولت الوظائف الرسمية في العهد العثماني. وقد عرف العطار بجودة الخط وربما اشتهر به على ابن مقلة الذي وضع أسس الخط العربي. وكان يقصده الخاص والعام في الوثائق والعقود. وكذلك اشتهر الشيخ إبراهيم الحركاتي. فقد كان مدرسا بالمهنة، ولكنه اشتهر أيضا بالنساخة وحسن الخط حتى أصبح مشهودا له بذلك.

وتشير المصادر إلى أنه كان بالجزائر خلال العهد العثماني بعض المشتغلين بصناعة الكتب عموما من وراقة وتجليد ونسخ وخط ونحو ذلك. فقد جاء في (منشور الهداية) أن الطالب محمد النقاوسي كان سمسارا في الكتب في قسنطينة وفي تلمسان اشتهر علي بن تجيرست بالاشتغال بالوراقة، كما كان يسمع الحديث في الجامع الكبير هناك. وروى ابن حمادوش عن نفسه أنه كان يشتغل بالكتب بيعا وتجليدا ونسخا في مدينة الجزائر وأنه كان يملك دكانا لهذا الغرض قبالة الجامع الكبير. وكان  في الجزائر سوق يدعى سوق الوراقين، ولعله هو سوق القيصرية الذي ذكر حمدان خوجة في (المرآة)أنه كان مخصصا لبيع الكتب وأن النساخين كانوا فيه بكثرة.

ولكن، أين ذهب كل هذا الكم الهائل من مخطوطات التراث؟

يقدر عدد المخطوطات العربية الموجودة في العالم بنحو مليوني مخطوط على أقل تقدير ويقدره الدكتور أبو السعود إبراهيم : بنحو ثلاثة ملايين مخطوط وفقاً لآخر إحصائية قامت بها هيئة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة .وما امتلكته الجزائر عبر تاريخها الثقافي يقدر بمئات الالاف على اقل تقدير.

فأين ذهب كل هذا التراث الضخم؟

أين هي مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي تحدث عنها الرحالة والباحثون المسلمون؟ وأين مكتبات مساجد تلمسان وقسنطينة ومعسكر والبليدة والمدية وبجاية وعنابة ومازونة الخ؟ وأين الكتب التي حبسها صالح باي على مدرسته في قسنطينة، ومحمد الكبير على مدرسته في معسكر؟ لقد ضاعت وتبعثرت، ولم تعد تذكر في حوليات التاريخ. فعندما أراد ابن أبي شنب أوائل هذا القرن أن يصف ما بقي في الجامع الكبير بالعاصمة لم يذكر منها سوى بضع عشرات و في مكتبة شانتييه بفرنسا بعض بقايا مكتبة الأمير عبد القادر، أهداها الدوق دومال D'Aumale إلى بلدية هذه المدينة. وكان دومال هو قائد الجيش الذي استولى على الزمالة. ولكن ما (أهداه) دومال ليس سوى جزء ضئيل من مكتبة الأمير. وابن باقي المكتبات؟

ويضيف الدكتور أبو القاسم سعد الله في حديثه عن التاريخ الثقافي للجزائر انه اثناء البحث عن الزمالة كان الفرنسيون يستدلون عليها بأوراق الكتب والوثائق التي كانت تذروها الرياح وترمي بها في الأشجار. وكان بيربروجر وغيره صرحاء جدا حين أكدوا، وهم يحسبون أن التاريخ قد طوى تماما ولن يكشف عن أسراره، أن الضباط كانوا يشعلون غلايينهم بأوراق الوثائق في قصبة الجزائر سنة 1830، وأن الجنود كانوا يحسبون كل كتابة عربية قرآنا، فكانوا يحرقون الأوراق وما هي إلا وثائق ثمينة. ومع ذلك يتحدث الفرنسيون طويلا عن حرق العرب المسلمين لمكتبة الاسكندرية وينسون أنفسهم.

لقد اخذوا  معهم كل الوثائق والارشيف الذي جمعوه خلال حكمهم في الجزائر. وهو على ما قيل أطنان من الوثائق، والكثير منها مصنف، ولكن بقي أيضا الكثير غير مصنف ولا مفهرس. وهكذا حرموا الجزائريين إلى الآن من تراثهم الوطني، فالجزائري الذي يريد أن يبحث في حادثة أو شخصية أو ظاهرة اقتصادية أو مدينة من المدن ... عليه أن يحج إلى فرنسا وأن يقطع البحر لعله يحصل على معلومات عن أمر يتعلق ببلاده وجرى في بلاده، وربما قيل له ماذا تريد منه، وقد لا يبيحون له الاطلاع عليه أصلا رغم مرور الأجل الشرعي عليه.

لقد لعب الاستعمار دوراً خطيراً في تبديد الجزء الأكبر من التراث، ويتعجب المطلع على الكتب التي عنيت بحصر التراث وذكر أسماء المخطوطات من تلك الأعداد الهائلة التي نصت عليها، والتي ليس لها نظير في أية حضارة من حضارات العالم، ومنذ عصر التدوين.

ومن أسباب ضيع المخطوطات الإهمال والنهب والوباء. فقد روي أن الحاج أحمد قدورة وكيل ومفتي الجامع الكبير بالعاصمة كان مهملا لمكتبة الجامع، مما سمح لبعض العلماء بأخذ الكتب منها إلى بيوتهم وبيع بعضها خارج الجزائر. وقد تحدث ابن المفتي الذي وصف طابع وحياة العلماء خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر أنهم وجدوا عند الشيخ محمد بن ميمون، بعد وفاته، أكثر من أربعين كتابا من مكتبة الجامع الكبير. كما أخبر أنهم وجدوا عند الشيخ الطاهر بن الماروني عددا من الكتب التي أخذها من هذه المكتبة. وعند وفاة ابن الماروني أخذ ابنه الكتب إلى تونس وباعها وقبض ثمنها هناك. كما أخذ الشيخ عبد القادر بن الشويهت وعبد الرحمن المرتضى وابنه وغيرهم كمية أخرى من مكتبة الجامع. وهكذا تفرقت مكتبة الجامع الكبير نتيجة الإهمال وضعف الضمير.

ولعل أقسى تجربة مرت بها المكتبات هي التي عرفتها من الاحتلال الفرنسي وما رافقه من حروب وما نتج عنه من تخريب ومن هجرة كبار العلماء والأغنياء إلى الخارج مع بعض كتبهم ووثائقهم. وقد روى الفرنسيون أنفسهم قصصا مثيرة عما وقع لمكتبات قسنطينة ومعسكر وتلمسان وغيرها. والذي يطلع على تقارير بيروبروجر وديسلان المعاصرين للاحتلال ثم كتابات شارل فيرو ولالوي وأضرابهما يصاب بالاندهاش والصدمة والأسف. كما أن الذي يعرف ما وقع لمكتبة الأمير عبد القادر أثناء حادثة الزمالة لا يستغرب ما وقع لمكتبة الشيخ حمودة الفكون وباش تارزي في قسنطينة، ثم ما وقع لمكتبات الجامع الكبير وغيره من المساجد في هذه المدينة وفي معسكر وتلمسان وبجاية والعاصمة وعنابة، ومكتبات الزوايا ثم المكتبات العائلية في مختلف أنحاء القطر. وقد نفي المفتي ابن العنابي، من العاصمة فحمل معه بعض كتبه إلى مصر، وهي لا تزال إلى الآن تحمل ختمه وخطه. كما هاجر الشيخ الصديق بن يحيى من نواحي قسنطينة إلى تونس ومعه كل الوثائق التاريخية.

أما الكتب التي أرسلها الجنود الفرنسيون هدية إلى مكتباتهم المحلية في فرنسا فلا حصر لها .وبعد حوالي خمسين سنة من الاحتلال وجد السيد فانيان بقايا مكتبة الشيخ الفكون، التي كان يضرب بها المثل في الكثرة والتنوع والصيانة، تباع كما قال بطريقة مؤسفة وهي طريقة ميزان الورق القديم، وذلك حين اضطر بعض المدانين من العائلة إلى بيع كمية ضخمة من الكتب بثلاثين فرنكا فقط.

وفي سنة 1836 م كتب ادريان بيروبروجر إلى صديقه وأستاذه شامبليون فيجياك يخبره عن مغامرته في تلمسان ومعسكر لجمع المخطوطات العربية. فقال إنه تنكر في زي عسكري ورافق الحملة إلى معسكر لأنه قد سمع أن في تلمسان ومعسكر مكتبات تحتوي على مخطوطات (كثيرة جدا، بعضها عظيم الأهمية)، كما أخبره أنه قد جمع عددا كبيرا من المخطوطات (الشرقية) من معسكر وعاد بها إلى مدينة الجزائر في صندوق حمله على ظهر جمل. وفي الطريق مات له الجمل وضاعت الكتب ولم يحمل منها إلا ما رآه نادرا جدا واستطاع حمله على حصانه.

أما حظه في تلمسان فقد كان أحسن، حسب تعبيره. فقد جمع منها ومن ضواحيها (أكثر من مائتي مخطوط في مختلف الموضوعات كما كان حسن الحظ أيضا في حملها إلى مدينة الجزائر إذ استطاع نقلها في سفينة بخارية من وهران. ومما يؤسف له أن هذا التراث الجم الغفير، تفرق في جميع انحاء العالم، نتيجة الكثير من العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي مر بها الوطن العربي، وما تعرضت له الأمة العربية من هجمات استعمارية ومحن فكرية وثقافية، وقد كان للبعثات التبشيرية والتجارية والسياحية والرحالة والغزاة المستعمرين، الأثر الكبير في جمع ما تضمه بلادنا من نفائس المخطوطات ونوادرها. وتهريبها إلى الخارج، بحيث أصبحت مكتباتهم ومتاحفهم تزخر بآلاف المخطوطات.

- ولكن ما هو حال ما بقي من المخطوطات في الجزائر؟

العقبات التي تواجه المشتغلين بفهرست المخطوطات.

يشير الدكتور عبد الكريم العوفي في كتابه صناعة فهرسة المخطوطات في الجزائر (من 1431م إلـى 1830)، الى ان العمل في حقل المخطوطات، ولاسيما فهرسة المخطوط من أصعب الأعمـال، وذلك لما يمتاز به عن غيره من خصوصيات، في نواح عديدة يعرفها، الخبراء في هذا المجال. والمفهرس يحتاج إلى ثقافة واسعة، وإحاطة بشتى فنـون المعرفة الإنسانية، ومهارات خاصة؛ مستندا الى الأستاذ محمد عصام الشنطي في قوله " بضاعة فهرسة المخطوطات العربية، بضـاعة نـادرة وصـعبة،تحتاج إلى شغف، وأناة، وصبر، وثقافة تراثية واسعة وخبرة تراثية طويلة"  وقد حدد الدكتور عبد الكريم العوفي عشرة عقبات :

1- ليس في الجزائر عامة ثقافة تراثية -ولاسيما في الوسط التعليمي - تشـعر الناس بالقيمة العلمية والحضارية للمخطوطات، على اختلاف المجالات المعرفيـة التي تحملها، والمشتغلون في هذا الحقل عندنا ينعتون بأصحاب الكتب الصـفراء، وبالسلفيين . 02*  كما هو الحال في البلاد العربية عامة أن العـاملين فـي حقـل المخطوطات والفهرسة هم أساتذة اللغة العربية وآدابها، وقلة أخرى من أساتــذة التاريخ، وغياب أساتذة المجالات الأخرى عن الميدان 03*  انعدام كلي لمركز يعنى بإحيـاء التراث ؛ تعريفـا، وصـيانة، وحفظـا، وفهرسة، وتحقيقا، ودراسة، ونشرا، وهذا جانب سلبي أثر على تراث البلاد عامة، 4 - كثرة المخطوطات وتوزعها في المراكز المختلفة(عامة وخاصـة)، وفـى أنحاء متفرقة من البلاد، مما صعب مهمة الباحثين في الوصول إليها بسـرعة، إذ تبعد مسافات طويلة تزيد عن (1500) كلم في المتوسط العام، وقد أصبح التنقل في العقود الأخيرة صعبا، ثم أن الباحث يقوم بمجهودات شخصية، ونـادرا مـا يلقـى دعـما مـن الجهات الرسمية المسؤولة 05* من العوائق التي تعترض الباحث صد مالكي المخطوطات مـن يقصـدهم وعدم تمكينهم من الاطلاع على المخطوطات، خوفا على موروثهم -كما يعتقدون - فالكثير يجهل القيمة الخطيرة للمخطوط في نقل العلم، وتنوير العقول 07* أغلب الفهارس التي أعـدها الطلبة بإشراف أساتـذة متخصصين، اشتكوا من انعدام الخبرة لديهم في التعامل مـع المخطوطات، وهـذا الأمـر لا يخـص الطلبة، بل هو عام .فقد ذكر الطلبة أنهم يبقون أسابيع في فك رموز بعض المخطوطـات لصـعوبة قراءة الخط المغربي والأندلسي وكذلك الح، ال بالنسبة لتحديد موضوع المخطـوط، فهم يجدون صعوبة في التمييز بين علم وآخر لفقر معلوماتهم، كما تطرح مشـكلة، المجاميع وتحديد عنوان المخطوط واسم المؤل، ف ؛ إذ الطالب يصعب عليه التمييز بين الاسم واللقب والكنية والنسبة إلى الجد أو البلد أو الحرفة. وقل ذلك عن تحديـد، نوع الورق والتجليد وتحديد تاريخ النسخ 07* لما كانت أغلب المخطوطات-باستثناء مخطوطات المكتبة الوطن غيـرمعالجة فإن المفهرسين يجدون صعوبة كبيرة في قراءة بعض المخطوطات التي لم تفتح أوراقها منذ مئات السنين، فهناك عوائق صحية تحول دون رغبـة المفهـرس والباحث عامة . 08* عدم تشجيع الجهات المسؤولة العاملين في هذا الحقل، يعد عامل تثبيط للعزائم09* خلو المكتبات العامة والخاصة من الفهارس المنجزة للمخطوطات العربية فـي المراكز العلمية، في العالم العربي، وفى بعض البلدان الأوربيـة، التـي تمكـنهم مـن الوقوف على النسخ الأخرى للمخطوطات الموصوفة، وكذلك المصادر والمراجع التـي تساعد على إعداد مداخل المؤلفين والعناوين، باستثناء المكتبة الوطنية10* عدم طبع الفهارس المنجزة في المكتبة الوطنيـة، وفـى غيرهـا مـن الأماكن أمر محير، لأن بقاءها في أماكنها دون أن يستفيد منها البـاحثون خـارج، الجزائر كأنها غير موجودة، كما أن المفهرس في الجزائر يحتاج إليها فيما ينجزه . من فهارس وهذه واحدة أيضا من الصعوبات التي يلقاها المفهرسون.

كيف السبيل الى تجاوز هذه العوائق؟

وللتغلب على بعض هذه العقبات أقترح عبد الكريم العوفي الآتي :

1-  دعوة الجهات الرسمية في الدولة إلى إشاعة الثقافة التراثيـة بـين عامـة الناس وخاصتهم، وذلك عن طريق وسائل الإعـلام المختلفـة، وإقامـة نـدوات وملتقيات فكرية حول المخطوطات في المراكز المختلفة، ودعوة الخبراء من معهد المخطوطات (الهيئة المشتركة لخدمة التراث)، أو من مؤسسات أخرى لها خبرات، في هذا الحقل ليقدموا خلاصة تجربتهم في الموضوعات المعالجة .

2- إنشاء مركز لإحياء التراث على غرار ما هو الحال في عدد من البلـدان العربية وتقام فيه دورات تدريبية، حول الفهرسة والترميم والحفظ والتحقيق وهذا هو السبيل الأمثل لتكوين الإطارات المدربة على الفهرسة العلمية الدقيقة وهو مـا . تفعله بعض البلدان العربية.

3- دعوة مالكي المخطوطات في المراكز المختلفة إلى تقديم العون للبـاحثين، قصد الكشف عن كنوز المعرفة التي تحتفظ بها مكتبـاتهم وزوايـاهم لفهرسـتها، وتمكين الباحثين من الانتفاع بها.

4- ضرورة طبع الفهارس المنجزة على اختلاف أنواعها، وتوزيعهـا علـى المراكز العلمية المعنية بالتراث في البلدان العربية والإسلامية، وكذلك في البلـدان  الغربية وذلك في إطار التبادل العلمي، لأن ذلك يكون مـدعاة لجلـب الفهـارس المنجزة في تلك البلاد .

5- إعادة تجميع وترتيب الفهارس المنجزة وطبعهـا فـي أجزاء وتوزيعها على المكتبات الوطنية ومراكز البحث في الجامعـات للاسـتفادة منها وكذلك الحال بالنسبة لفهارس المخطوطات الإباضية في غرداية .

6- المرجو من المكتبة الوطنية ووزارة الثقافة والاتصال العمل علـى تجميـع هذا التراث المتفرق هنا وهناك، وتوفير وسائل صيانته وحفظه في أمـاكن لائقـة، حتى تضمن له أداء وظيفته.

7- إدخال مادة علم المخطوطات في مناهج التعليم بمعاهـد علـم المكتبـات، ليتعرف الطلبة على قضايا المخطوطات، وإذا أمكن إنشاء دبلوم في الفهرسة .

8- القيام بمسح شامل لأهم المراكز التي تحتفظ بالمخطوطات، ومحاولة جلب وسائل علاجها في مرحلة أولية، في انتظار مرحلة الفهرسة .

9- استخدام الوسائل التيكنولوجية الحديثة في الفهرسة، كالحاسوب والأقـراص، المليزرة والماسح الضوئي . وغيرها، نيتوالأنتر، والهارديسك.

***

................

الهوامش

1- يمكن العودة الى ملف مجلة الفيصل حول التراث العدد36

02- فهرسة مخطوطات المكتبة الوطنية الجزائرية في أعمال المستشرقين الفرنسين، صورية متاجر

جامعة سيدي بلعباس.

* علم صناعة المخطوطات اطلالة على مفهومه وموضوعاته الأستاذ داودي خليفة.

3- انظر تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الخامس، أبو القاسم سعد الله

4- فهرسة مخطوطات المكتبة الوطنية الجزائرية في أعمال المستشرقين الفرنسين، صورية متاجر

جامعة سيدي بلعباس.

5- صناعة فهرسة المخطوطات في الجزائر (من 1431م إلـى 1830)، لصاحبه أ د عبد الكريم العوفي. وهو أسـتاذ فـي جامعـة باتنـة، وجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، متخص في علم التّحقيق.

في المثقف اليوم