قضايا

خالد اليماني: سوانح فلسفية (3)

‏في عصر اللهث وراء المال، وتحت قبضة النظام الرأسمالي الذي ابتلع تفاصيل الحياة المعاصرة على كل الأصعدة، أصبحت أبسط الأدوات التي تميز الإنسان عن غيره من الموجودات من: وجدان وعقل وحدس، غير قابلة للتشغيل، خصوصًا في المدينة، وهو النموذج الأكثر انتشارًا وهيمنة في العالم اليوم، أي أن على المرء أن يعيش في كوخ حتى يستعيد ملكاته العقلية الخالصة، وإحساسه الصافي، والانتباه الغير موجّه.

الأصوات تتعالى في كل مكان، لم تعد هناك حُرمة للهدوء والسكينة كما كان من قبل، عند الإنسان القديم، الذي عاش طبيعة الحياة وكان جزءًا حقيقيًا منها؛ أما حياة اليوم، فيصعب فيها تذكر من نحن، ولماذا نحن هنا، الهدف الأوضح لدينا جميعًا هو: الاستهلاك والعمل، ثم العمل والاستهلاك!

وهذه الوتيرة المحمومة، سرقت من ناحية السلام العقلي والنفسي لدى الفرد والمجتمع، ومن ناحية، هي لعنة الرأسمالية، التي جعلت كل تمظهرات الحياة الإنسانية من أجل المال وزيادته، ثم الزيادة عليه! حتى باتت السكينة والهدوء والاستقرار الاجتماعي النفسي من ترف العيش، ولا يتذوقه إلا الأمراء والملوك والأغنياء، وأصحاب رؤوس الأموال طبعًا، الذين بدورهم يعيدون تسويقها كخدمة تُشترى! وبذلك هم خلقوا الاختلالات غير الضرورية التي ندفع ثمنها، ثم نُجبر على دفع أثمان أخرى لحلها.

عندما يكون صوت الضجيج يندفع من كل صوب، هذا يبعث في الإنسان رغبة في الخروج من التفكير في وصف ذلك إزعاجًا، إلى وراء الظاهرة متأملًا، وكأن كل هذه الأصوات العالية سمفونية، رغم عدم اتزانها وفوضويتها، تبقى تدفع المرء للتأمُّل أولاً في العالم الذي وقّعنا أن نعيشه، وثانيًا، إمكانية العيش فيه، وثالثًا وأخيرًا، ما مدى قدرة الإنسان على فهم العالم عندما تكون كل مظاهره تخدم أغراضًا رأسمالية، ومن لا يستطيع المشاركة، تأكله المفترسات!

وعليه، لا سبيل للسكينة اليوم ولم تعد خيارًا متاحًا. على المتأمل أن يتكيف ويتأقلم ويتعود على أن يبدع التفكير في الأسواق، والملاهي بكل أشكالها، وفي الأحياء المزعجة بأصوات المواعظ، ونذكر أنفسنا دائمًا، طالما لا خيار آخر لدينا: أن أكثر الأماكن ضجيجًا في العالم تبعث على أكبر قدر من التأمُّل.

***

خالد اليماني

في المثقف اليوم