قراءة في كتاب

كتاب فلسفة المستقبل العراقي للدكتور الاستاذ ميثم الجنابي

والثاني (العراق ورهان المستقبل) والثالث (العراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل). ويبلغ عدد صفحات الكتاب ككل 1300 صفحة من القطع الكبير.

 

مقدمة الكتاب

إن توحيد هذه الكتب الثلاثة في كتاب واحد يعكس مسار الأحداث التاريخية الهائلة التي رافقت الاحتلال الأمريكي للعراق وسقوط الدكتاتورية الصدامية. فكلاهما وجهان لظاهرة واحدة، ألا وهي افتقاد العراق أو تفريغه من تاريخه الذاتي الخاص.

فقد كانت المرحلة السابقة للغزو الأمريكي للعراق سبيكة خربة من توتاليتارية متخلفة ودكتاتورية "متطورة" أدت إلى جعل العراق شرنقة ميتة أو كيان مغلق لا احتمال فيه لغير تكرار الزمن واجترار ما فيه. من هنا كانت الأشياء والأحداث وكل ما يمكنه الحدوث "معلوما" مسبقا. ذلك يعني أن العراق بلا مستقبل. وقد برزت هذه الظاهرة بجلاء بعد سقوط الدكتاتورية بلحظات! لقد وقف العراق عاريا أمام العالم. وكشف عن انه مجرد جوزة جوفاء منخورة لا لب فيها!

إن هذه النتيجة المخزية، والمهانة الوطنية والقومية التي تعرض لها العراق بفعل الاحتلال كشفا عن أنه كيان بلا معاصرة، وانه مجرد زمن بلا تاريخ. كما كشف عن أن الرهان عليه مهمة المستقبل، وأن حقيقة المشاريع المحتملة لإنقاذه من هذا المأزق التاريخي ينبغي استمدادها من المستقبل.

2336-maythamولم تكن هذه الفكرة مجرد انعكاس مباشر أو رد فعل وجداني وعقلي على ما جرى من أحداث، بقدر ما انها كانت تتراكم في مجرى تأمل تاريخ العراق الحديث والمعاصر. إذ لم يكن سقوط الدكتاتورية سوى الحالة المشابهة لانهيار جدار السجن "الأبدي" في صحراء الموت. عندها تتبين للهاربين، بأن للحياة آفاق وامداء غير متناهية. وهي الحالة التي يمكنها أن تثير بقدر واحد شعور التيه والرغبة الجامحة بالهروب والركض إلى ما لا نهاية. وقد شعر العراقيون بهذه الحالة عندما أخذوا وهم في أفراحهم الهائجة واللاعقلانية يكسرون وينهبون كل ما يقع تحت أياديهم وأعينهم. لكنهم تحسسوا بسرعة مذهلة وأدركوا، شأن كل هارب من سجون "محصنة" بان "اللانهاية" في النفس، وأنها تفترض نهاية يقف عندها المرء من اجل تأمل الماضي والتفكر بالمستقبل.

لقد كانت فكرة كتابي الأول والثاني والثالث، التي أعيد جمعها وتقديمها تحت عنوان جامع (فلسفة المستقبل العراقي) تسير ضمن سياق تحليل هذه الظاهرة، بوصفها جزء من ذاكرة المستقبل! فقد كشف سقوط الدكتاتورية عن أن العراق بلا معاصرة. وهو الباعث الدفين وراء وضعي كتاب (العراق ومعاصرة المستقبل)، وتبين في مجرى الإحداث العاصفة للسنتين الأوليتين من أن المهمة الكبرى القائمة أمام العراق تقوم في وضع كل رهاناته على المستقبل، من هنا جاء كتاب (العراق ورهان المستقبل)، بينما كشفت السنوات اللاحقة عن أن قضية المعاصرة ورهان المستقبل هي قضية البديل الشامل ووعي الذات القومي التاريخي الثقافي، من هنا كتاب (العراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل). بعبارة أخرى، لقد تبين بان العراق ماض وزمن فقط. وأنها الإشكالية الأعقد بالنسبة لآفاق البدائل. من هنا ضرورة التأسيس الفلسفي لكل إشكاليات الماضي والحاضر المتعلقة بالفرد والجماعة والأمة والدولة والثقافة من وجهة نظر المستقبل. من هنا اختياري لعنوان (فلسفة المستقبل العراقي).

إن العراق بحاجة إلى فلسفة تؤسس لمشروع مستقبلي ينطلق من فكرة الاحتمال العقلاني المتنوع. فقد كان سقوط الديكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية يحتوي في أعماقه على فكرة انتهاء واحدية "الاحتمال". من هنا فان التحول العاصف في العراق لا يقوم في انتهاء مرحلة "الجمهورية الثالثة" فحسب، بل وظهور تنوع الاحتمالات العديدة لتطوره اللاحق. مما جعل من فكرة الاحتمال عنصرا جوهريا في تحديد ماهية المستقبل، أي مستقبل الصراع حول كل الأفكار والبدائل المتعلقة بالفرد والجماعة والأمة والسلطة والدولة والثقافة، باختصار تجاه كل شيء. لاسيما وانه الاحتمال الأكثر ضرورة. وهي إحدى المفارقات المغرية في محاولات العراق المتعثرة لمعاصرة المستقبل. وذلك لأن تحول الاحتمال إلى ضرورة يحتوي بحد ذاته على تناقض منطقي، لكنه تناقض شكلي يتمتع بقدر هائل من الحيوية العملية، بسبب التقاء كل من استقراء التاريخ السياسي للدولة واستنباط البدائل الضرورية فيه، حول جوهرية المرجعيات المتسامية بالنسبة للبدائل العقلانية. ويتمحور هذا الالتقاء الآن حول الصراع الدامي والدرامي بين الماضي والمستقبل. بمعنى التناقض الفعلي بين ما تحتويه فكرة الاحتمال من تعدد غير متناه ولكنه محكوم بالضرورة بالسير أما بطريق الدكتاتورية (الزمن) وإما بطريق الشرعية (التاريخ).

فالمشاريع على قدر الهموم. والهموم على قدر ما يختزنه الفرد والجماعة والأمة من تجارب تاريخية ورؤية مستقبلية. وقد تكون هي إحدى البديهيات الغامضة حالما تسود الحالة التي ادعوها بسيادة الزمن، أي عندما يكف التاريخ عن الحركة ويصبح الاجترار اللذة الوحيدة التي يمكن سماعها ورؤيتها وتحسسها في العبارة الميتة والتجارب الفارغة وانعدام المعاناة الحرة للإبداع. مع ما يترتب عليه من موت بطيء وتمويت علني ومستتر للروح والجسد. وقد تكون هي الحالة التي ميزت العراق في مجرى العقود الخربة للزمن الراديكالي الذي امتطى سفينته الخربة القبطان الأرعن للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. 

فقد كشف تاريخ التوتاليتارية والدكتاتورية عن ظاهرة معقدة، لعل مفارقتها الكبرى تقوم في أنها استطاعت عزل الزمن عن التاريخ، ومن ثم تجريد زمن وجود الأشياء والناس والأفعال من تاريخها. وفي هذا يكمن سرّ انهيارهما السريع وهروبهما المريع، ليكشفا عن حقيقة تقول بان التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية زمن بلا تاريخ.

وبغض النظر عن أن تقرير هذه الحالة ورفعها إلى مصاف البديهة السياسية هي المقدمة الضرورية لتأسيس فكرة المستقبل، إلا أنها لا تستنفذه. بل يمكننا القول، بأنها مجرد المقدمة الأولية التي تفتح آفاق الاحتمالات المتنوعة بالنسبة لإرساء أسس البديل الواقعي والعقلاني الإنساني. انه بديل بلا ضفاف ولا نهاية. ويستحيل إرساء أسس هذه البدائل دون تجاوز مرحلة الانتقال العراقية، باعتبارها إحدى اشد المراحل "قذارة" في دروب البحث عن بدائل عقلانية.

فكون الحياة لا تخلو من بديهيات أمر جلي للعيان، لكنه لا يقلل من كونها الميدان الأشد تعقيدا للحكم المنطقي المباشر. وأشد ما تبرز هذه المفارقة الذهنية والواقعية في مراحل الانتقال العاصفة والصراع الدامي. فهي المراحل التي اشد ما تحتاج فيها الدولة والأمة إلى "مرجعية" تعصمها من الغرق في طوفان الغرائز وتأثير البنية التقليدية للوجود والوعي. لكنها في الوقت نفسه هي مرحلة الزمن العابر في محاولات المجتمع والدولة والأمة صنع تاريخ الثبات بوصفه طبقات وحلقات التراكم العقلاني للمؤسسات والفكر والإبداع الحر.

فالمرحلة الانتقالية هي مؤشر على وجود "خراب". لكنه خراب متباين ومختلف. فخراب التخلف لا يشبه في شيء خراب التقدم. وذلك لأن لكل منهما ديناميكيته الخاصة في الموقف من المستقبل. وهي القضية الجوهرية التي يمكن من خلالها رؤية الآفاق والبدائل. إذ لا بدائل في "ديناميكية" خراب التخلف والانحطاط، لأنه مجرد اجترار للزمن. أما "خراب" البدائل فهو ديناميكية التاريخ والإبداع الحر، أي المستقبل. من هنا مرارة المجهول فيه، وذلك لأنه جزء من صراع لم يحسم ولم تتحدد ملامحه بوضوح بعد. ومهمة الفلسفة السياسية تقوم في تذوق مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار المكثفتين في مرحلة الانتقال من اجل رؤية الآفاق الفعلية لعملية الخروج من مرحلة الانتقال.

للعراق مرحلته الانتقالية الخاصة! وهي مرحلة الانتقال من زمن الخراب إلى تاريخ البدائل. من هنا عنفوانها الشديد وهمجيتها التي تبدو بلا حدود. وذلك بسبب طبيعة الصراع بين قوى الخراب والانحطاط التي حكمت وجوده في غضون أربعة عقود من دكتاتورية هشمت بنيته المادية والروحية، وبين قوى أفسدها أو كسر عمودها الفقري زمن الانحطاط والغربة والاغتراب. مما يجعل من مرحلة الانتقال العراقية شبيهة بطوفان نوح. العصمة فيها لمن هو قادر على جمع ولملمة ما في العراق من وحدة للمتضادات. من هنا تعقيدها الكبير، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار تنافر قواها الاجتماعية والسياسية وتغلغل منظومة العداء الدفين في الروح والجسد العراقيين، وتحلل فكرة الدولة والسلطة والقومية والوطنية، وانحطاط المجتمع والثقافة والنخبة. الأمر الذي أدى إلى أن يصبح "التحرير" احتلالا، والاحتلال أسلوبا "للوحدة الوطنية". وهي المفارقة الكبرى لمرحلة الانتقال العراقية. بمعنى فقدان فكرة المرجعية على مستوى الدولة والمجتمع والنخب والثقافة السياسية بشكل خاص. والخروج من هذه المرحلة يفترض رؤية آفاقها انطلاقا مما فيها، بوصفه الأسلوب الوحيد للرؤية الإستراتيجية القادرة على انتشال العراق من أزمته الشاملة.

فعندما نستعيد السرقة اليهودية القديمة لأساطير العراق الأقدم، فإننا سنكتشف في نوح وطوفان العالم، أسطورة الطوفان السومرية. ويعادل هذا الإدراك من حيث رمزيته مهمة اكتشاف زمن الانحطاط والبحث عن تاريخ بديل. إذ تفترض هذه المهمة الرجوع إلى النفس والبحث عن وحدة المتضادات فيها من اجل بديل ينفيها بمعايير المستقبل. إذ لا يمكن للجبل الموهوم أيا كان شكله ومظهره واسمه أن يستعيض عن عروة النفس العراقية ومرجعياتها الكبرى. بمعنى إن العروة الوحيدة التي تحتوي في أعماقها على وحدة الممكن والواقع هي منظومة المبادئ المرجعية العملية الجامعة للأفراد والجماعات والدولة. فهي العقدة الكبرى للمرحلة الانتقالية وإستراتيجية البدائل. وذلك لان معاناة العراق الكبرى تقوم في فقدانه لمرجعية الأفكار الكبرى ووحدتها النظرية والعملية المنظومة.

فالفكرة الكبرى هي الفكرة العامة والمجردة، ومن ثم فهي الأكثر قدرة على احتواء الجميع. ومن الصعب توقع وصول أي كان إلى إدراك حقيقة الأفكار الكبرى للمستقبل العراقي دون إدراك حدوده الذاتية، أي عجزه الذاتي عن تنفيذ وتجسيد شعاراته الخاصة دون الأخذ بنظر الاعتبار حدود المساومة العقلانية مع الآخرين. وهو الثمن الباهظ ولحد ما غير العقلاني الذي ينبغي أن يدفعه العراق وقواه الاجتماعية من اجل بلوغ هذه البديهة السياسية. بمعنى صرف كمية هائلة من الجهود والطاقة والزمن من اجل الرجوع إلى مسار التاريخ الطبيعي لتطور الدولة والمجتمع والثقافة بوصفهم كيانا واحدا ومنظومة حية. ويستحيل تحقيق ذلك دون تراكم وعي الذات التاريخي على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمع والثقافة، بمعنى تغير وتبدل نمط الوجود الاجتماعي والسياسي والثقافي. ومن الممكن الإقرار بحصوله حالما تتحول تجارب الأمة وقواها السياسية ونخبها الاجتماعية والفكرية إلى بديهيات نظرية وعملية.

لقد خرج العراق في بداية القرن العشرين من تحت الانتداب البريطاني، وها هو يخرج في بداية القرن الحادي والعشرين من الاحتلال الأمريكي للحصول على سيادته "الكاملة". فبعد كل مائة عام يظهر له من يجدد له "دين" الاستقلال مرة و"دين" الديمقراطية مرة أخرى مع بقاء السيادة الحقيقة مبتورة أو منقوصة أو مشوهة أو مهدورة. وفي جميع الحالات يبدو هؤلاء "الغرباء" "محررين" و"مصلحين". وهي "رسالة" لها غرابتها وقيمتها التاريخية. فقد حرر الإنكليز العراق فعلا من شبح العثمانية الثقيل، كما حرر الأمريكيون العراق من همجية الدكتاتورية الصدامية. وأعطى ويعطي كل منهما "السيادة" للعراق. وما زال العراق بين السيادة الأولى والثانية يراوح في نفس المكان. إذ لا يعني الحصول على "السيادة الكاملة" الآن سوى بدايته من "الصفر" في تحسس وإدراك وتحقيق معنى كونه سيد نفسه ومستعدا للاتصاف بصفة السؤدد. وهي حالة فعلية لا تزويق فيها. فقد استعبدت الدكتاتورية الصدامية العراق، وجعلت منه عبدا ذليلا وكسرت إرادته بطريقة ليس لها مثيل في تاريخه العريق. وكشفت عن إمكانية إزالته من الوجود! وبرهنت على أن احتمال اشتقاق اسمه من العرق ليست ضمانة لعدم اقتلاعه من جذوره الفعلية.

وهو واقع اقرب إلى المفارقة التعسة، التي تعطي لفكرة الوجود والمستقبل مغزاها المتميز وتجعل منها إشكالية متعددة المستويات بالنسبة للعراق وقواه السياسية والاجتماعية والفكرية. كما يجعل منها إشكالية متعددة الأوجه. والقضية لا تقوم فقط في ماهية ومستوى الوجود والمستقبل اللذين يتمتع بهما العراق في تاريخه المعاصر، بل وبحقيقة هذا الوجود والمستقبل بعد قرن من الزمن.

فإذا كان التاريخ لا يعرف "قانونا صارما"، فإنه قادر دوما على البرهنة بأن الخروج على الحكمة السياسية يؤدي بالضرورة إلى الجحيم. وليس هناك من جحيم بالمعنى التاريخي والسياسي والأخلاقي أقسى من جحيم الانحطاط الشامل مع ما يترتب عليه من حتمية صعود مختلف أشكال الصراع والحروب الهمجية. إذ لا ثبات حي مبدع في الروح والجسد الفردي والاجتماعي والدولتي مع الانحطاط، باستثناء ديمومة الموت البطيء. والبديل الممكن والوحيد هنا هو الاجتهاد العقلي الحر بمعايير المستقبل.

إن حقيقة البدائل المستقبلية الكبرى ينبغي استمدادها من المستقبل. وهو أفق لا علاقة للقوى الأجنبية به إلا بالقدر الذي يستجيب لمصالحها الآنية والبعيدة المدى. بمعنى أن الحوافز الدفينة محكومة بتاريخ خاص. والمشروع الأمريكي محكوم بالتاريخ الأمريكي ومصالحه ومرجعياته. والشيء نفسه يمكن قوله عن المشروع العراقي. وفشل المشروع الأمريكي في العراق هو النتاج الطبيعي لهذا الاختلاف والتباين. كما انه يبرهن على جملة حقائق كبرى، وهي أن نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة، وأنه مرهون باستشراف المستقبل الذاتي للأمة، وأنه يفترض المعاناة من اجله، وأن أجمل وأفضل المشاريع الأجنبية تبقى غريبة من حيث المقدمات والنتائج، كما أن المشاريع الأجنبية لا يمكنها التوفيق بين رؤيتها الخاصة ورؤية الآخرين، وبالأخص في ظل اختلافات جوهرية في التاريخ الثقافي والسياسي والتطور العام، وأن المشاريع الأجنبية هي إما أملاءات وهو الأتعس، وإما سياسة المصالح الضيقة وهي الأكثر تخريبا، وأخيرا، أن المشاريع الأجنبية هي مؤشر على خراب ذاتي، ودليل على اختلال في توازن القوى. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها.

فقد كان صعود المشروع الأمريكي وهبوطه في العراق دليلا على صعود وسقوط التوتاليتارية والراديكالية، ومؤشرا على خلل القوى السياسية جميعا وتاريخا الذاتي. وبالتالي، فإن إدراك هذه الحقائق الكبرى يفترض تحويلها إلى بديهيات سياسية من اجل أن تتكامل القوى الاجتماعية والسياسية والفكرية بمعايير الرؤية الوطنية وتحقيق مصالحها من خلال مصالح العراق بوصفه صراعا من اجل المستقبل. الأمر الذي يفترض المساهمة العقلانية والواقعية من اجل إفشال المشروع الأمريكي في العراق، بشرط أن يكون البديل ليس رجوعا إلى الوراء وليس ممالأة للقوى السلفية ولا انسياقا وراء مختلف أشكال التجزئة المتخلفة من طائفية وعرقية وجهوية، بل بديلا واقعيا وعقلانيا ومستقبليا. وذلك لأن حقيقة المستقبل بالنسبة للعراق مقرونة بالإجماع المتنامي في كل مكونات ومنظومات وجوده على فكرة الاحتمال في البدائل، بمعنى الانهماك في التخطيط المتنوع والمختلف لهوية المستقبل. وليس هذا بدوره سوى الاجتهاد والجهاد الدائم من اجل تحقيق إستراتيجية بناء الهوية العراقية، والدولة العراقية، والثقافة العراقية، والمجتمع العراقي. ولا يمكن تحقيق هذا المشروع بين ليلة وضحاها. لاسيما وأنه ليس جزء من تصورات الأحزاب وأيديولوجياتها، بقدر ما أنه المكون التاريخي لتطور المجتمع والبنية الاقتصادية ونظام الدولة السياسي والثقافة العامة والخاصة. وبالتالي، فهو المشروع الأكبر للعملية التاريخية المعقدة التي يتوقف مسارها وسرعتها على طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية وقواها المحركة والفاعلة. إن مكوناتها موجودة! وتحتاج إلى نخبة سياسية قادرة على صنع البدائل.

إذ تبرهن تجارب التاريخ والشعوب الحية على أن ما تدعوه لغة الأدب بالمصير التاريخي للأمم عادة ما يرتبط زمن الانقلابات الحادة والتحولات العاصفة بالنخبة السياسية. وهو ارتباط له أسسه الموضوعية في طبيعة التلازم الضروري بين الدولة والسلطة من جهة، وبين الإرادة السياسية ونوعية الفكرة المتحكمة بها من جهة أخرى. غير أن ارتقاء النخبة السياسية إلى إدراك "مصيرها الذاتي" مرهون أولا وقبل كل شيء بمدى قدرتها على تمثل فكرة المستقبل. وهو مضمون ما أضعه في (فلسفة المستقبل العراقي). انه المشروع الفلسفي لتأسيس الرؤية المستقبلية للعراق، والموجه أولا وقبل كل شيء للنخب الاجتماعية والفكرية والسياسية (وليس الحزبية) وبالتالي فهو مشروع تأسيس المعادلة الصعبة لشرعية المشروع ومشروع الشرعية.

وفي هذه الوحدة (شرعية المشروع ومشروع الشرعية) يكمن المضمون التاريخي الفعلي للمستقبل العراقي، الذي حاولت التأسيس له في كل مفاصل وعقد الوجود العراقي. وإذا كانت عناوينه الفرعية أقرب ما تكون إلى (فلسفة المعاصرة) و(فلسفة الرهان) و(فلسفة الزمن والتاريخ)، فان مضمونه يقوم في إعادة بناء العراق انطلاقا من فكرة (فلسفة) تذليل مقدمات الخلل والفشل التاريخي الحديث والمعاصر فيه. انها فلسفة وعي الذات التاريخي الثقافي، وتأسيس كيفية الرجوع إلى النفس ونوعية بناءها بمعايير المستقبل في كافة مكونات الدولة والأمة الحديثة.

*** 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم