قراءة في كتاب

صدور كتاب: فلسفة الهوية الوطنية العراقية للبروفيسور ميثم الجنابي

عدد صفحات الكتاب 198 من القطع المتوسط. ويحتوي الكتاب على مقدمة وثلاثة أبواب. يتناول الباب الأول (من أربعة فصول) قضية الهوية وإشكالاتها في العراق ما بعد الاحتلال، واثر التركة التوتاليتارية والدكتاتورية في تهشيم الهوية الوطنية العراقية، إضافة إلى تناوله ما اسماه الجنابي صعود نفسية وذهنية المؤقت في النخبة السياسية الحالية وأثرها على توسيع مدى الانحطاط السياسي والاجتماعي (توسع وتعمق الظاهرة الطائفية والعرقية). بينما تناول في الباب الثاني القضايا المتعلقة بمهمة "تأسيس مرجعيات العيش المشترك" (فصلان)، حيث تطرق إلى قضية المشروع الديمقراطي وفلسفة الهوية الوطنية العراقية ومرجعية الإصلاح الثقافي، باعتبارها فلسفة البديل العراقي. أما الباب الثالث والأخير (من ستة فصول) فانه تناول ما اسماه الجنابي بمشروع البحث عن أوزان داخلية لاستقرار وديناميكية الهوية الوطنية، حيث تناول فيها أهمية ونوعية هذه الأوزان في مجال الهوية الوطنية العامة والهويات الجزئية، وأوزان الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي، والمجتمع المدني، والنخبة السياسية، والتربية والتعليم.

وتحتوي المقدمة على الأفكار العامة والمنهجية لفهم مضمون الكتاب. ومما جاء فيها ما يلي:

"من مفارقات العراق الحديث أن يتحول ماضيه ومستقبله إلى مجهول، بحيث يصبح موضوعا للشكوك الجاهلة واليقين الأشد جهلا! بمعنى أن يصبح ماضيه مادة للتأمل الساذج والسرقة التافهة للقوى السياسية العرقية والطائفية، كما يصبح المستقبل آفاقا مظلمة لأولئك الذين لا يمكنهم العيش دون السلطة بوصفها أداة الاستحواذ والنهب الغريزي. وفي كلتا الحالتين نقف أمام الجهل المطبق بحقيقة العراق بوصفه واهب الحياة الفعلي والوحيد لكل من فيه، أي لكل من تعتمل في أعماقه شعلة الحياة بوصفها نار الوجود. وهي حقيقة ليست غريبة عما في قدره المتراكم من أقدار وأوزان وجوده التاريخي، منذ أن ظهر للمرة الأولى بوصفه موطن أور وبابل وآشور لكي يتكامل في وادي الرافدين والعراق والهلال الخصيب. بحيث جعلت هذه المكونات منه وحدة للملك والملكوت والجبروت التاريخي، أي وحدة لملك المدينة وجبروت الوعي الذاتي وملكوت الأدلة. وسواء كان تصوير العرب الذين جعلوا منه ارض السواد في الهلال الخصيب إبداعا أدبيا صرفا أو تأويلا معنويا عقليا، فأنهم قد أدركوا بقوة الحدس الرفيع، بان وحدة السواد والقمر فيه هي وحدة الثرى والثريا، أو الأرض والسماء. ولا افتعال في هذا التأويل، لأنه كان يتغذى من رحيق الحياة والقدر التاريخي والروحي، وليس من افتعال العبارة.

 وقد جعل هذا الحدس من العراق كينونة تاريخية ثقافية حرة في العقل والروح والضمير حالما يجري إدراك حقيقتها كما هي. ويؤدي هذا الإدراك إلى البقاء في صيرورته والفناء في كينونته بوصفها حصانة الانتماء إليه والعيش بمعاييره. وهي معايير متراكمة من شجي أوزانه الداخلية، شأن كل موسيقى الحياة المغرية. وحالما يجرى استرقاق السمع لما فيها من تناسق حي، وتذوق عذوبتها في عذابها أيضا، عندها سيكون الشجي أشجان، أي أوزان ساحرة تصنع الثبات في الحركة، والانسجام في التمايل، وتذيب العقل في الوجدان، والوجدان في الحركة. وفيها نعثر على الصيغة الأدبية لفكرة "العيش المشرك" لكل مكونات الروح والجسد العراقي. وحالما يجري تمثلها بمستويات العلم والعمل، أو العقل والوجدان، حينذاك يكون المرء محصنا من سموم الخطيئة شأن كل من تلدغه أفعوان الحقيقة!

إن العراق صانع ذاته! بمعنى انه ليس فقط لم يرتبط من حيث تكونه الذاتي وقدره التاريخي بقوة غير سواه، بل وبما في هذه الصنعة الذاتية من قيمة واثر عالميين. الأمر الذي جعله مادة ضرورية لوعي الذات الثقافي العالمي في مدارس الأمم جميعا، وفي علم التاريخ. إذ لا يعقل التاريخ العالمي من حيث مكوناته المدنية الأولى وأصوله التأسيسية دون العراق. مما جعل منه بالضرورة هوية كونية. وتقف هذه الهوية على الدوام وراء حدوده الجغرافية السياسية ونظامه المحتمل. الأمر الذي جعل من اسمه ومغزاه ومعناه وقيمته شيئا واحد. وبالتالي جعل من هويته الخاصة كينونة ترتقي إلى مصاف الماوراتاريخي. ومن الممكن تشويه بعض مكونات هذه الكينونة لكنه يستحيل تفتيت وحدتها الذاتية. مما جعل من جميع المحاولات الخارجية أي كان مصدرها فعلا طارئا في مصيره، بينما كان مصيره الحقيقي يتصّير من القدرة على تمثل ما فيه من مكونات والعمل بمعاييرها. وهي معايير كونية بالضرورة. وليس مصادفة أن تكون مراحل انحطاطه أو تعرضه للهزائم مرتبطة دوما بالأقليات الهامشية، كما جسدتها الدكتاتورية الصدامية بصورة نموذجية، وما يعد الصدامية مختلف نماذج الهامشية العرقية والطائفية السياسية.

656-muthamفقد كانت الدكتاتورية الصدامية النتاج الخاص لصعود الراديكالية السياسية في مجرى القرن العشرين في العراق. مما جعل منها القوة الأكثر تخريبا لمكونات الهوية العراقية بوصفها هوية تاريخية ثقافية وذلك بسبب طابعها السياسي – الحزبي البحت وانعدام تقاليد العقلانية والاعتدال. مما جعل من نفسية وذهنية الراديكالية السياسية مصدر التحلل والتفكك الاجتماعي والوطني على كافة المستويات وفي كافة نواحي الحياة. ويعطي لنا ذلك إمكانية القول، بان تفكيك الكلّ الوطني في العراق هو نتاج الزمن التوتاليتاري والراديكالي. وفيهما ينبغي البحث أولا وقبل كل شيء عن مقدمات الاحتلال وقدرته على تفعيل منظومة التفكك الوطني. وليس مصادفة أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق ملازما لذروة الصعود الراديكالي لفكرة المحافظين الجدد، وذروة الانحطاط المعنوي لراديكالية التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.

فقد كانت الحصيلة النهائية للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على امتداد أربعة عقود هي سيادة الزمن الراديكالي وفقدان التاريخ، بوصفه تراكما في المؤسسات والخبرة والتقاليد، وانحطاط شامل في منظومة القيم، وتفكيك كل ما يفترض الوحدة في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. وقد مهدت هذه النتائج للاحتلال، وجعلت منه عنصرا إضافيا في توسع وتعمق منظومة التجزئة والانحطاط المادي والمعنوي للفكرة الوطنية. وهو سر الخراب اللاحق، بمعنى تلاشي كل التاريخ السياسي العراقي للأحزاب والقوى الاجتماعية عبر اندفاعها المغترب وراء المشروع الأمريكي والقبول "بالمشاركة الفعالة" في إرساء أسس "ديمقراطية العبيد". وأكثر من جسد هذه الصفة الأحزاب السياسية الكردية بوصفها أحزاب عرقية هامشية ومهمشة. وليس مصادفة أن تفور فيها بعد أحداث الثامن من نيسان عام 2003 فكرة "العراق المصطنع" و"العراق المصنع من جانب الإمبراطورية البريطانية" و"التركيبة المفتعلة للعراق" وما شابه ذلك. إذ تعكس هذه التصورات أولا وقبل كل شيء ركاكة وهلع الحركات العرقية الكردية واغترابها الفعلي عن العراق ومن ثم استعدادها لقبول كل ما يسهم في تفتيته من اجل الفوز بأوهام الأقلية العابرة. بمعنى أنها كانت تتحسس وجودها المصطنع (والمضخم) في عراق ما بعد الصدامية على انه عراق مصطنع. وتعكس هذه الرؤية باطن الاغتراب الفعلي كما نراها لحد الآن في سيادة نفسية وذهنية الغنيمة. بينما انهمكت القوى الطائفية السياسية العربية بتحريك مشاعر الانتماء التقليدي وغير العقلاني لفكرة الدولة والهوية القومية والوطنية والثقافية للعراق. بمعنى اصطفافها بوعي أو دون وعي في مسار الابتعاد الفعلي عن حقيقة العراق ومرجعيات وجوده التاريخي والثقافي. وأدت هذه الحصيلة إلى نفث ما أسميته بسموم الخطيئة، أي خطيئة التجزئة والتفكك والانهماك فيها، بوصفها أسلوب الاستحواذ الجديد. وهي سموم قادرة على شل الحركة الوطنية لفترة مؤقتة لكنها عاجزة عن تخريب ما أسميته بالتحصن من سموم الخطيئة.

إن تحصن العراق الذاتي هو الوجه العملي للقوة الذاتية الكامنة في تكامله التاريخي بوصفه هوية ثقافية. والخروج عليها يؤدي بالضرورة إلى الخروج على منطق تاريخه الذاتي. ولعل تجربة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هو احد الأمثلة النموذجية بهذا الصدد. فقد كان وجودها وفعلها مجرد زمن، جعل من كل ما تقوم به فعلا مؤقتا. بحيث لم يحكم وجودها شيء غير الاعتياش الدائم على حالة المؤقت. من هنا انعدام إمكانية التراكم، وبالتالي تأسيس التقاليد الضرورية للدولة العصرية والهوية الوطنية الحديثة. ولا يمكن لهذه الهوية أن تكون شيئا آخر غير هوية العراق التاريخية الثقافية. وذلك لأنها نتيجة ترتقي إلى مصاف البديهة السياسية بالنسبة لتاريخ العراق الحديث. غير أن سنوات ما يعد الاحتلال وما رافقها من سيادة نفسية وذهنية المقامرة والمغامرة للأحزاب الكردية العرقية والطائفية السياسية العربية قد كشفت عن مستوى الجهل المريع لهذه الحقيقة – البديهة. مما أدى إلى صنع منظومة التفكك الوطني الفاعلة بمقاييس الطائفية السياسية والعرقية القومية العلنية والمبطنة، أي اشد النماذج تخريبا للفكرة الوطنية ومرجعيات العيش المشترك.

إننا نقف الآن أمام وجود وفاعلية "منظومة" خفية آخذة في "التكامل" للنزعة الطائفية والعرقية. الأمر الذي جعل من رذيلة التجزئة "حقيقة سياسية". وحالما تصبح الرذيلة "حقيقة" وليس مجرد واقعا، فان ذلك يعني بلوغ التجزئة حالة "المنظومة" الفاعلة في كافة نواحي الحياة وعلى مختلف مستوياتها. هي حالة حالما تستقل بفاعليتها الخاصة في بلورة المواقف والقيم (السياسية والأخلاقية) عند الأفراد والجماعات والمجتمع عموما، فإنها تفرض بظلالها على الجميع وتجعل من الضلال دليلا على الواقع. إذ يبرهن هذا الواقع على البقايا الخرب والفاعلة لزمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية واستمرارها المباشر وغير المباشر في سلوك القوى السياسية والاجتماعية السائدة حاليا في العراق. بمعنى أن اغلب القوى السياسية الحالية تخون الفكرة الوطنية من خلال استغلال واقع التجزئة والتفكك الفعلي للهوية الوطنية العراقية. إنها توظف هذا الواقع المؤقت بهيئة "حقيقة" يجرى رفعها إلى مصاف الأسلوب "الواقعي" و"العقلاني" للتحكم بالدولة ومؤسساتها. لكنه توظيف لا يصنع في الواقع غير سموم الخطيئة. مع ما يترتب عليها من انحراف وخروج على مرجعيات العراق التاريخية الثقافية، ومن ثم الانقراض والزوال. وتفترض هذه النتيجة النظرية "المستقبلية" بدورها بلورة ملامح البديل العراقي المستقبلي، أي بديل الرجوع إلى النفس.

إن رجوع العراق إلى ذاته يفترض الرجوع إلى مكوناته الجوهرية عبر صياغة مشروع عملي للمعاصرة والعيش برهاناته. فمستقبل العراق ووحدته المتجانسة وإخراج الدولة من أزمتها البنيوية الشاملة هو الرهان التاريخي الأكبر لقواه الاجتماعية الوطنية.

إن تجربة ما بعد الاحتلال الأمريكي تبرهن على أن المشاريع الأجنبية تبقى غريبة مهما كانت نواياها وغاياتها. كما أن القوى الجزئية من أقليات قومية أو طائفية أو هامشية اجتماعية وسياسية، لا تصنع غير التجزئة والعيش بمعاييرها. فهو أسلوب "ازدهارها" الوحيد. لكنه "ازدهار" سريع الزوال لأنه يتعارض مع حقيقة الهوية العراقية بوصفها هوية تاريخية ثقافية وليس قومية أو عرقية أو طائفية أو جهوية. وهي الحصيلة التي ينبغي وضعها في صلب الفكرة القائلة، بان نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة. وفي الحالة المعنية يفترض "العيش المشترك" في العراق تنشيط الهوية الوطنية العراقية بوصفها مرجعية العيش المشترك، أي تحقيقها العملي من خلال صياغة الأوزان الضرورية للهوية العراقية العامة والهويات الجزئية، للدولة الشرعية والسلطة الديمقراطية، للسلطة الديمقراطية والمجتمع (المدني)، للنخب الاجتماعية والسياسية، للثقافة العامة والخاصة، للتربية والتعليم والإعلام. بمعنى صياغة:

  • رؤية واقعية وعقلانية عن وحدة وتجانس القومي والوطني في العراق من اجل تكامل الجميع في بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني،
  • تحديد ماهية الدولة الشرعية أو الدولة البديلة، بوصفها المقدمة الضرورية والضمانة الفعلية لطبيعة ومجرى التطور اللاحق،
  • بناء الأوزان الداخلية للسلطة والمجتمع المدني عبر صياغة الرؤية العامة لفكرة الحرية والنظام بمختلف أشكالها ومستوياتها في العراق،
  • المسئولية التاريخية والأخلاقية للنخب العامة والسياسية بشكل خاص، عبر ارتقاءها إلى مصاف الإدراك الفعلي لمنظومة المبادئ المكونة لفكرة المرجعية الوطنية العراقية، بوصفها هوية المستقبل أيضا."

                                

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2243 السبت 13 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم