قراءة في كتاب

السنة النبوية في صحيح البخاري: قراءة في كتاب رشيد أيلال

saleh alrazuk2يتناول كتاب (صحيح البخاري نهاية أسطورة) لرشيد أيلال* الجوانب المختلف عليها في تدوين السنة النبوية، ويؤكد أن الرسول نهى عن كتابة الأحاديث حتى لا تؤثر على القرآن، أو كلام الوحي، واستمر هذا المنع لحوالي مائة عام، وخلالها عمد الخليفة عمر بن الخطاب لجمع المكتوب من أحاديث الرسول وإتلافها، ليحفظ للقرآن مركزه كمرجع أساسي في التشريع.

وقد حصل ما خاف منه الرسول، فالأحاديث اليوم كما يقول أيلال تحتل مكانة الصدارة في الفتاوى، وإن لم يكن إلى جانب القرآن فهي قبله، حتى أنها أصبحت فوق كلام الله أحيانا، ص ٢٤.

ويضرب أمثلة على هذا الخلل، ومنها ما رواه الدارمي أن السنة قاضية على القرآن (ص ٢٨)، وما نقله الزركشي في كتابه (البحر المحيط) أن الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب (ص٢٨).

وتفاقمت المسألة لاحقا إلى الادعاء أن السنة هي ما أشار إليه النبي بقوله: أوتيت الكتاب ومثله معه. وقد استعمل المتشددون هذه الرواية لنسخ القرآن بالحديث ( ص ٣٢). أو لاعتبار الحديث أنه نصف الوحي ( ص ٣٢).

وفي مرحلة تالية سخّرت الفرق والعصبيات الإسلامية كلام الرسول لتبرير مواقفها أو ميولها للتسلط، ومن هذا القبيل حديث اختيار الله لقريش وبني هاشم من بين شعوب العالم أجمعين. وكأن القرآن لم ينص بالحرف الواحد أن جميع الشعوب سواسية ولا فرق لعربي عن أعجمي إلا بالإيمان والعمل ( ص٣٨).

والأسوأ من توسيع مظلة السنة لتشمل أخلاق وسلوك الخلفاء الراشدين. كما ورد في أحد الأحاديث المشبوهة قول الرسول: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ( ص ٣٧).

ويرى أيلال مثل المفكر الاسلإمي ماجد الغرباوي: أن هذه الأحاديث إضافة دخلت على لسان الرسول لتبرير ما حصل في سقيفة بني ساعدة، وكانت أول سابقة خطيرة لتسخير الدين في سبيل خدمة السلطة، وأعتقد أن مصدر مثل هذا الكلام هو نفس المصدر المسؤول عن الترويج لدعايات سياسية بغطاء ديني.

ومن هذه النقطة المفصلية يبدأ أيلال بالتشكيك بمنابع الحديث الشريف، وضرورة غربلتها، فإذا كان علم الحديث يعني ما ورد على لسان الرسول بالحرف الواحد، فإن التدقيق واستخدام كل وسائل المقارنة والتنقيب تصبح ضرورة لا غنى عنها، لا سيما أنه عاش في وقت لم يعرف العرب فيه أصول الكتابة والحضارة، وأنه دخلت بعد وفاته في الإسلام شعوب لها ثقافات وخلفيات متباينة، ومن السهل أن تختلف في أساليب الفهم والإدراك، ناهيك عن أساليب الرواية والتوثيق.

ويضاف لذلك مشكلة التباعد بين مكان وزمان الرواة الذين تناقلوا السنة ( ص ٤٨)، وبدائية وسائط التنقل والترحال كالبغال والجياد والبعير.

مثل هذه المآخذ كانت تطعن بمصداقية علم الحديث.

ويكفي الاشارة لمشكلتين. أساسيتين منها

الأولى مقصودة وهي اختلاف أهواء الرواة وعدم القدرة على البت بمصادرهم.

والثانية صعوبة تأكيد العلاقة في سلسلة التواتر( ص ٤٨).

وتفرع عن ذلك الاهتمام بعلم الإسناد ومنه علم الرجال وهو جرح وتعديل الرواة، وقد اختلفوا حتى في المعايير والأدوات ولذلك تجد أن صحيح مسلم مختلف عن صحيح البخاري، ص ٥٠.

والمشكلة هنا تأتي أصلا من اهتمام هؤلاء المدونين بالمتكلم وليس بمضمون كلامه، أو بتعبير أيلال: بمن قال وليس بما يقول (ص ٥١).

وأصلا لم تكن هناك ضرورة للإسناد ثم دخل كشرط من شروط التدوين بعد أن دب الاختلاف بين الرواة ( ص ٥٤).

وأيا كان الأمر إن نقل الأحاديث كانت مشكلة مختلفا عليها، هل يجوز تداولها بالمعنى أم يشترط الالتزام بالحرف أو صورة الكلام أيضا.

والحقيقة أنه لا يسعك أن تجزم على اعتبار أن الاختلافات بين الصحابة، والمقربين من الرسول، وصل إلى درجة الاحتراب. ولا أحد بيننا يجهل مشكلة عمر مع علي في مبايعة أبي بكر، ثم الخلاف الذي نشب بين عائشة وأصحاب علي وعثمان إن لم يكن بين الطرفين شخصيا، ص ٥٤.

ولكن القرائن تثبت أن الرواية كانت حسب فهم المستمع لكلام الرسول، ص ٦٠.

حتى أنه يروى عن ابن عباس أنه أحيانا لم يكن متأكدا هل ما يسمعه من كلام القرآن بالحرف أم من بيان السنة بالمعنى، ص ٦٣.

ثم ينتقل أيلال لينقل عن البخاري بعض الأحاديث التي يرى أنها أسطورية ومدعاة للسخرية والانتقاص من سمو شخصية الرسول. ومنها أن الزنا مكتوب على جميع البشر ص ٦٦. وأن الرسول كان يدخل على أم حرام زوج عبادة بن الصامت في غياب زوجها فيستلقي أمامها وتفلي له رأسه ص ٦٦. وأنه كان يواقع كل زوجاته في ظرف ساعة ص ٦٨. وأن الفأر هو بالأساس خادمة يهودية حلت عليها اللعنة لسبب من الأسباب (ص ٦٧).

و مثل هذه الحكايات تدفع رشيد أيلال للتفكير بشخصية البخاري، وعلاقته بالكتاب المسند إليه والذي أصبح مصدرا من مصادر السنة.

واهم ما في سيرة البخاري هو الأحلام والكرامات، فقد كانت أمه ترى ابراهيم الخليل في المنام وتستعطفه (ص ٧٨). أما هو شخصيا كان يمثل بين يدي الرسول ويذب عنه ويأخذ أسباب العلم والمعرفة منه، ص ٧٩.

ويروي السيوطي أن أبا يزيد المروزي شاهد الرسول في المنام وأمره بأن ينهل علومه من كتاب البخاري (ص ٨٠). أما ابن حجر العسقلاني فينقل عن الفربري مرة وعن نجم بن فضيل مرة أن البخاري كان في المنام يمشي على خطا الرسول (ص٨٢).

وورد في كتاب البخاري حديث مفاده أن الأحلام هي جزء من الدعوة، والمبشرات أو الرويا الصالحة جزء من السيرة، ومن رأى فيها الرسول كأنه أخذ عنه. (ص٨٣).

وأي إنسان يفهم من ذلك أن الإسلام لم يغلق باب النبوة بموت الرسول، وأن المنامات حجة شرعية ويمكن الاعتماد عليها.

ويبني الدكتور أحمد عمر هاشم على هذه الكرامات حكما جازما يمنع بموجبه ازدراء الإمام البخاري ويعتقد أن مقامه الرفيع يضعه بجوار الأنبياء والصحابة. (ص ٨٤).

ومن معجزاته ذاكرته القوية. ففي شبابه كان يحفظ سبعين ألف حديث. ولكن هناك من انبرى لتفنيد هذه الذاكرة الحديدية، فقد ورد في سير أعلام النبلاء للذهبي أنه كثير النسيان وكان ينسى أسماء أقاربه ويلجأ للتدوين (ص ١٠٧).

لقد نسجت البروباغاندا الإسلامية للبخاري صورة لا تخلو من الغلو والتقديس، بحيث أصبح فهمنا للإسلام مرهونا بفهمنا للبخاري، حتى أن محمد راتب النابلسي يتهم من يشكك بالبخاري بالكفر (ص ١١٣).

أما ربيع المدخلي فيرى أن إنكار حديث واحد له مثل إنكار القرآن (ص ١١٥)، والخروج من الملة (ص ١١٤).

ولكن الحقيقة سلاح ذو حدين.

إذا كان التنزيه والإجلال طرفا، فإن الطرف الآخر حكما هو النقد والتجريح.

ويحاول رشيد أيلال جهده ليثبت أن البخاري شخصية أسطورية،

ويستعمل لغة الأرقام، فهو بنظر من غالى في تأييده حفظ ١٥ ألف حديث في ١٦ يوما. يعني أنه يحفظ الحديث بسرعة تزيد عن الزمن اللازم لروايته، ويعزى له أنه تلقى العلم عن ألف شيخ وأخذ من كل واحد منهم ١٠ آلاف حديث. يعني ما مجموعة عشرة ملايين حديث. مع أنه لو أحصينا حصيلته وأضفنا لها الروايات الضعيفة لن نصل لمليون حديث على أكثر تقدير.

وإذا افترضنا جدلا أن هذا صحيح وأن الرسول ترك لنا هذه الملايين من التعليمات والشرائع فهذا يعني أن البخاري كان يحفظ عن ظهر قلب كل دقيقة ثلاثة أحاديث. (ص ١٢٢).

ويضيف أيلال عدة معايب أخرى تناقلها المؤرخون عن شخصية البخاري ومنها الخلق في اللفظ، عند تلاوة القرآن وهو يعني عدم الدقة والشذوذ (ص١٤٦) واتباع الميول والأهواء أو البدع (ص ١٤٨).

وتسجيل أحاديث معيبة تطعن بأخلاق الرسول ومنها محاولته الانتحار (١٥٠)، والفحش في القول (ص ١٥٠ )، وإكراه الناس على الإيمان (ص ١٥١).

ويستنتج أيلال من كل ذلك أن صحيح البخاري ما هو إلا كتاب لكاتب مجهول وبالأخص أن أقدم نسخة منه تعود لعام ٤٠٧ هجرية أي بعد وفاته بـ ١٥١ عاما، (ص ٢٤١).

وهذا يعني وجود فاصل يبلغ ثلاثة أجيال، وإذا أضفت أن شراح البخاري لم تتوفر لهم نسخة أصلية من "الكتاب الجامع" وأنهم اعتمدوا على روايات ومدونات وسطاء منهم الفربري والكشميهني أو نقلا عن رواة محدثين مثل أبي ذر وأبي الوقتـ فهذا يعني وجود مربع أسود يصعب أن تتكهن بما حصل فيه من نقل وإسقاط وحذف وزيادات (ص ٢٤٩).

ومن يفكر بهذا الكلام سيصل لنتيجة مخيفة أن كتاب البخاري تألف بالتدريج وعلى امتداد عدة عصور ( ص ٢٥٠). واستقر في أواسط القرن السادس الهجري وبعد ٣٠٠ سنة من وفاة البخاري نفسه (ص٢٥٠). ولم يتوفر لنا ولو ورقة واحدة بخط يده (ص ٢٥١).

وفي الخلاصة إن كتاب البخاري يحمل عدة نقاط ضعف.

الأولى هي الأحاديث غير المنطقية التي تتنافى مع المعنى الروحي للإسلام ومنها التفضيل بالنسب وشجرة العائلة، وهذا لا يختلف عن خرافة شعب الله المختار التي تبناها اليهود والتي تحمل بقايا استعلاء النظريات الحلولية، أو نظريات تجلي الله في شعب بعينه دون آخر، وهذا ينطوي بأقل تقدير على مفهوم التكليف الإلهي، أو على سر رباني يصعب تفسيره.

النقطة الثانية هي أسطورته الخاصة، والتي ترى أنه يسمو عن أخطاء البشر. وهذا لا يختلف عن مشكلة الجدل المحتدم حول أسفار الإنجيل وفترة تدوينها وحقيقة أنها سيرة المسيح وليست أقواله فقط. ومثلما توجد مناطق معتمة وخلافات في الإنجيل (منها يوم وفاة السيد المسيح وترتيب خلق الكون)، هناك خلافات في ترتيب وعدد الأحاديث المذكورة في نسخ مسند البخاري. مع أن المفروض أن تكون متماثلة لأنها أتت من أصل واحد.

النقطة الثالثة والأخيرة هي الصفات الخارقة للإمام البخاري. ومنها ذاكرته الفولاذية، ودقة إسناداته. ومن المعروف أن كل ما تركه لنا العرب من روايات، ومن بينها الشعر، يحتمل وجهات نظر مهما كانت طفيفة فهي أحيانا تؤثر بالمعنى والسياق. ولنأخذ المعلقات على سبيل المثال، هناك عدة روايات لمطلع أو متن كل قصيدة. وتفاصيل ذلك في سلسلة الروائع لفؤاد البستاني والتي ظهرت في مطلع القرن العشرين.

وتحتدم الخلافات بالأخص في حال الشخصيات الدرامية مثل عنترة أبي الفوارس وطرفة الغلام القتيل وامرئ القيس الملك الضليل. لكنها كانت محدودة في حالة زهير بن أبي سلمى وعمرو بن كلثوم. والبخاري شخصية درامية ويمكن أن تقول إنه سندباد بري اقتصر في مغامراته على جمع الفرائد النبوية.

لقد تآزرت مشكلة الأحاديث المدرجة في مدونة البخاري، مع ما أحاط بشخصيته من هالة أسطورية، وما أضيف إليه من خصال وضعته فوق البشر لتحويله إلى إنجيل عند السنة. وبرأيي إن أهميته ليست منه، ولكن بالظروف التي حوله. كما حصل في عدة مؤلفات أسطورية، ذات قيمة علمية ضعيفة، وأشير هنا لكتاب سيد قطب (في ظلال القرآن) ولكتاب العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي. فهما مجرد كلام منمق ينقصه الأدلة الدامغة والمنطق السليم ويلعبان على وتر العواطف.    

ولنختم هذ الموضوع لا يوجد أفضل من اقتباس ما قاله الباحث ماجد الغرباوي: أن القرآن قطعي السند وأغلب دلالته بالنسبة للعقيدة قطعية،

وكل ما لحق بالعقيدة بعد ذلك هو محض احتمالات لا يمكن الجزم بها، ما لم نتأكد من عدم معارضتها للعقل، وهي ليست ملزمة لأحد (ص388)**.

 

...................

* منشورات دار الوطن، الرباط، 285 ص، 2017.

**مدارات عقائدية ساخنة، من تأليف ماجد الغرباوي بالاشتراك مع طارق الكناني، منشورات دار أمل الجديدة، دمشق، 2017.

 

 

في المثقف اليوم