قراءة في كتاب

سهرة مع تورغينيف

ضياء نافعقضيت سهرة جميلة وغير متوقعة بتاتا قبل ايام مع الكاتب الروسي ايفان تورغينيف (1818 - 1883)، وها انا ذا اكتب للقارئ حكاية هذه السهرة الغريبة والطريفة، وما اكتشفته – اثناء ذلك - من وقائع جديدة في حياة وابداع هذا الكاتب الروسي الكبير .

بدأت الحكاية عندما طرقت جارتنا باب شقتنا، وهي امرأة مسنة وفي غاية اللطف والادب والرقة، وعندما فتحنا لها الباب واستقبلناها بالترحاب طبعا، قالت لنا، انها تحمل هدية رمزية لنا ، وبعد السلام والكلام، تبين انها تريد ان تهدينا كتابا من مكتبتها الخاصة عنوانه – (تورغينيف . الحياة . الفن . العصر.)، وهو كتاب ضخم طوله اكثر من 30 سم وعرضه اكثر من 20 سم، ويشبه الالبوم الكبير، ويقع في 184 صفحة كبيرة، وقد أصدرته دار (سوفيتسكايا راسّيا) (روسيا السوفيتية) عام 1988، وهي دار نشر سوفيتية مشهورة جدا، وطبعت منه 50 الف نسخة، وبشكل فني فخم وترف بكل معنى الكلمة وبالتعاون مع مطابع المانيا الديمقراطية آنذاك. وقالت جارتنا، ان هذا الكتاب موجود في مكتبتها منذ حوالي 30 سنة، وانها تعتز به كثيرا، وبما انها تعرف حبنا للكتب واعتزازنا بها ومحافظتنا عليها، فانها قررت ان تهديه لنا بمناسبة احتفالات روسيا بالذكرى المئوية الثانية لميلاد تورغينيف، وقالت انها متأكدة من رعايتنا لهذا الكتاب ووضعه في صدارة مكتبتنا المتواضعة، واننا سنتذكرها دائما ما ان تقع اعيننا على هذه التحفة الجميلة . شكرناها طبعا وتقبلنا هذه الهدية القيّمة بكل سرور مع الممنونية . وقد أثارت هذه الهدية اهتمامي الشديد طبعا، وجلست رأسا للتعرّف على طبيعتها واسرارها، وقد تبين ان هذا الكتاب بلغتين – الروسية والفرنسية، وتعاون على اعداده واصداره حوالي عشرة اشخاص من المتخصصين ما بين من يحمل شهادة الدكتوراه في الادب، والمتخصص في الفنون التشكيلية والفوتوغرافية واللغوية والتاريخ ...الخ من الاختصاصات المتنوعة في العلوم الانسانية .

توجد في الكتاب مقدمة وتسعة فصول، وامام كل فصل مقولة من مقولات تورغينيف، ونجد في المقدمة جوهر الفكرة، التي أدّت الى اصدار هذا الكتاب، اذ يشير الدكتور بيشولين (والكتاب من وضعه واعداده)، الى ان هذا الاصدار لا يتناول سيرة حياة تورغينيف وليس عرضا نقديا لمسيرته الابداعية في تاريخ الادب الروسي والعالمي، وانما يهدف هذا الكتاب الى التركيز على موقف تورغينيف باعتباره واحدا من شخصيات الثقافة الفنية الروسية باوسع معاني هذه التسمية، وباعتباره واحدا من نقاد الفن، الذين يتفهمون بعمق طبيعة الابداع الفني ونفسية الفنانين، ويتوقف بيشولين عند نقطة شبه مجهولة في حياة تورغينيف، اذ تبين ان الكاتب اراد ان يكون رساما، وحتى انه درس في شبابه الفن التشكيلي، وكان يكتب عن ذلك ويجمع اللوحات التي تعجبه، وكان دائما ما يزور المتاحف ومعارض الرسم، وانه كان صديقا قريبا من الرساميين الروس الكبار في عصره، ويشير الباحث، الى ان القارئ يجد الكثير من الاشارات الى الفن التشكيلي والفنانين التشكيليين على صفحات الروايات والقصص وقصائد النثر التي كتبها تورغينيف، وان الصور الفنية الرائعة الجمال للطبيعة، والتي رسمها تورغينيف بالكلمات في نتاجاته الادبية جاءت تعبيرا عن عشقه للفنون التشكيلية، اي ان تلك الصور الفنية لم تأت صدفة في ابداع تورغينيف بل نتيجة للارتباط الروحي الأصيل والعميق له مع الفنون التشكيلية بشكل عام .

وكما أشرنا اعلاه، يتضمن الكتاب تسعة فصول، ويتناول كل فصل علاقة تورغينيف بالفنون التشكيلية، وهكذا يتوقف الباحث في الفصل الاول عند تاريخ البورتريتات التي رسمها مختلف الفنانون التشكيليون لتورغينيف، ويتحدث عن كل لوحة من تلك اللوحات الشهيرة له ويعيد نشرها بشكل فني رائع، ويتناول الفصل الثاني مخطوطات تورغينيف والرسومات التي رسمها في مسودات كتاباته، وهو تقليد جميل نجده عند بوشكين وليرمنتوف وغوغول (درس الباحثون الروس هذه الرسومات والتخطيطات عند هؤلاء الادباء الكبار واستنتجوا منها جوانب نفسية وفنية عديدة لديهم، ولا مجال للتوقف عندها في اطار هذه المقالة طبعا)، وينشر الباحث العديد من رسومات تورغينيف وتخطيطاته في مسوداته، وكذلك رسوماته لبعض ابطال رواياته . لقد تمتعت كثيرا مع الفصل الثاني من هذا الكتاب، اذ اكتشفت موهبة الفنان التشكيلي تورغينيف، ووجدت لوحات في غاية الجمال والاتقان رسمها هذا الكاتب الكبير، وتوقفت طويلا عند نص خطّه تورغينيف لنص جميل بقلمه، نص يرتبط بموقفه من اللغة الروسية وتعريفه لها، والنص هذا هو قطعة نثر رائعة الصياغة ومشهورة جدا في الاوساط الادبية الروسية، يشير تورغينيف فيها الى ان اللغة الروسية (العظيمة والجبّارة كما يصفها) تساعده في الغربة وتخفف من توهج شوقه وحنينه الى الوطن، وقد تذكرت اننا درسنا هذا النص في الكلية التحضيرية لجامعة موسكو عام 1960، عندما كنت ادرس اللغة الروسية هناك، وذلك ضمن مادة (النصوص الادبية) او (المحفوظات) كما كنا نسميها ضاحكين في اوساط الطلبة آنذاك، وكنت عندئذ احفظ هذا النص (عن ظهر قلب) كما يقول التعبير العربي الطريف، وقررت ان امتحن نفسي، وحاولت ان أقرأ هذا النص عن ظهر قلب دون النظر الى خط تورغينيف له، ولكنني لم استطع ان اتذكر غير بداياته، رغم اني تذكرت كل الاجواء التي كانت تحيطني بالكلية التحضيرية في تلك الايام الجميلة، الايام الخوالي التي كانت ترتبط ببوشكين وتورغينيف وبقية الاسماء العملاقة في تاريخ الادب الروسي واحلامنا الوردية حولهم آنذاك .

ختاما لهذه (السهرة!) مع تورغينيف، اود ان أشير، الى ان هذا الكتاب يحتوي على مقولات رائعة لتورغينيف تسبق كل فصل من فصوله، واختار مقولة واحدة منها على سبيل المثال وليس الحصر وهي – (هواء الوطن ضروري للفنان)، وكذلك اود ان اشير الى ان هذا الكتاب يحتوي على أكثر من مئة صورة ولوحة له وللفنانين التشكيليين الروس الكبار ولمخطوطات تورغينيف ورسوماته، وانها مطبوعة بشكل واضح وأنيق ورائع.

 

أ.د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم