قراءة في كتاب

محمد رسول الإرادة (2-2).. كتاب جديد من تألبف ميثم الجنابي

548 ميثم الجنابيفي هذا المقال استكمل القسم الاول من المقدمة مع انها كل واحد, ولكنني اضطررت لتقسيمها الى قسمين بسبب كبر حجمها. وأعيد هنا المقدمة العامة والشكلية للكتاب. فقد صدر هذا الكتاب عن (دار العارف) 2018. وعدد صفحاته 238 . وهو كتاب يستكمل سلسلة من الكتب صدرت عن الدار مثل كتاب (الزمن والتاريخ- نقد الراديكالية والأوهام "المقدسة")، وكتاب (تأملات فكرية حول الحضارة الإسلامية).

وينقسم هذا الكتاب الى قسمين، الأول وتحت عنوان (إرادة الروح)، والثاني (روح الإرادة).

ويتضمن القسم الأول ستة محاور وهي على التوالي:

- الصيرورة الروحية للإسلام،

- الإسلام - مجاز الحكمة الخالدة،

- الصيرورة الروحية للنبي محمد،

- النبوة- إرادة الحق،

- الجهاد والاجتهاد النبوي،

- القرآن- قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني

اما القسم الثاني فيحتوي على أربعة محاور وهي على التوالي:

- الإسلام وفكرة التحدي التاريخي،

- إرادة البديل الشامل،

- النفي والبدائل،

- العقل الإسلامي الجديد).

 

من المقدمة

النبي محمد في الثقافة النظرية الإسلامية

عادة ما لا تثير الشخصية العظيمة رغبة في تصويرها والكتابة عنها إثناء حياتها، خصوصا عندما تكون صيرورتها الشخصية وكينونتها الفكرية والروحية نتاج صراع عنيف لا هوادة فيه. فهي في أفضل الأحوال مادة للنقد والتهكم والاستهزاء والسخرية، لكنه حالما يندثر وجودها الجسدي عندها تنبعث روحها التي لا يمكن مقاومتها إلا بروح أقوى. ولا يمكن لهذه الروح الأقوى أن تكون شيئا غير تمثل ما فيها أو استمرار لها أو نفي أعمق وأكبر لما فيها. حينذاك تتحول الشخصية التاريخية إلى شخصية ما فوق تاريخية، أو رمز هائل، ومصدر لا ينضب للتأمل والتفكر، وروح متسام، وفكرة بحد ذاتها. عندها يأخذ دبيب الاهتمام بكل حيثيات وجودها وحياتها وأفعالها وأقوالها إلى أروقة الوعي الثقافي. وقد كان نصيب محمد من كل هذه العملية كل ما فيها. اذ لا يخلو أي من علوم وفنون الثقافة الإسلامية من أثر له مباشر أو غير مباشر سواء بهيئة رمز أو مثال أو أنموذج أو مبدأ أو فكرة أو نمط حياة أو فكرة لاهوتية أو فلسفية أو صوفية.

ارتبط الإسلام منذ البداية بشخصية النبي محمد. وبغض النظر عن أن الدعوة الإسلامية لم تستمد حروفها من اسمه، إلا أن "المحمدية" تطابقت مع مفهوم الإسلام، على الأقل، عند الاتجاهات التي ادعت تمثيله الخالص. لهذا السبب عادة ما ترفض الاتجاهات السلفية، لأسباب دينية وثقافية، تسمية الإسلام بالدين المحمدي أو المحمدية. بحيث اعتبر البعض أن ما يميز الإسلام عن الديانات الكبرى (العالمية والوحدانية) هو انتماؤه للفكرة الوحدانية لا إلى دعاة الأديان ورسلها، انطلاقا من أن حقيقة الإسلام مرتبطة بمصدره وغايته لا بشخصيته الرئيسية. أما في الواقع، فإنه لا خلاف جوهري بينهما فيما لو جرى فهم هذه القضية بعيدا عن خلافات المذاهب الضيقة ونفسية العقائد المتحجرة. إذ لا يمكن عزل الصفات الجوهرية لإسلام الدعوة والرسالة و"السّنة" اللاحقة بمختلف تجلياتها عن شخصية النبي محمد ونموذجها الواقعي ومثالها الواجب. بهذا المعنى لا تناقض بين هذه الأسماء من حيث مضمونهما التاريخي والمثالي، أي أن "هرطقة" التسمية المحمدية هي من "بدع" العقائدية الضيقة. وإلا فيستحيل فهم حقيقة النبوة المحمدية ودوره التاريخي الفعلي فيها. فقد كان محمد مسلما بالقدر الذي عبّر في أعماله وغاياته عن جوهر الإسلام. ومع ذلك كان لشخصيته كيانها التاريخي المستقل. فقد جمعت في ذاتها وحدة المتناقضات من خيال وواقع، وفكرة وصراع، وماضي ومستقبل، مما أعطى لها إمكانية التحول إلى رمز مجرد ومستودع لا ينضب للوجود والاستمرار. وهو السبب الذي يفسر سرّ المنافسة التي لا تنتهي بين مختلف القوى في محاولاتها استنهاض أرواحها الغابرة في مواجهة تحديات "العصر". أما في الواقع فإنها لا تفعل إلا على مواجهة ذاتها.

 تقاسمت الاتجاهات الإسلامية شخصية النبي محمد ومفاهيمه بما يتطابق مع تصوراتها عما هو "جوهري" فيه. وهي عملية طبيعية مميزة لظهور وتطور الحركات الاجتماعية والسياسية والفكرية. وبغض النظر عما في هذه العملية من إمكانات خفية مثيرة للتناقض "الحي" مع بعض منطلقاتها الفكرية الأولية التاريخية، لكنها عادة ما تؤدي إلى نقل هذه التناقضات إلى ميدان الفكرة وتثويرها عبر صياغة الحلول الجديدة.

غير أن اشد الأفكار تجريدا، تأبى الارتماء أمام أقدام الخمول الاجتماعي والنفس الخاملة. لأنه يتحتم عليها آنذاك مواجهة مصيرها وتندثر وكأن شيئا لم يكن. إلا أن هذا المصير التعس من صنع الخيال السارح وراء إدراك حقيقة الوحدة المستترة خلف استمرار الوجود. وإلا فإن التطور الاجتماعي الثقافي سوف يفقد آنذاك ذاكرة التاريخ وأثرها بالنسبة لبلورة الوعي المتجدد، باعتبارها أهم مبررات وجوده. وقد واجهت هذه الذاكرة امتحانها الأول في التاريخ العربي الإسلامي بعد دفن جسد النبي محمد تحت حجارة المدينة. حينذاك ظهرت شخصيته في التساؤل الساذج عما إذا كان قد مات فعلا، وفي النفي الأكثر سذاجة لعدم موته، الذي تفوّه به عمر بن الخطاب. غير أن للسذاجة التاريخية قيمتها المعرفية. فهناك فرق بين السذاجة التاريخية والسذاجة المعرفية، رغم ارتباطهما بأواصر جزئية. فالسذاجة المعرفية متأتية من قلة المعرفة وتدني الممارسة العلمية والعملية، بينما عادة ما ترتبط السذاجة التاريخية بروعة الحدث وخطوبته.

محمد الخلافة الاولى

وتتميز هذه "المرحلة" التي امتدت منذ موت النبي محمد وحتى سقوط "خلافة الراشدين" بنظرتها اليه بمعايير المثال العملي الأخلاقي الرفيع، الذي يرتقي بمقاييس الوجدان والإيمان إلى مصاف المقدس.

فقد رفض عمر بن الخطاب فكرة موت النبي محمد. وهدد بقطع أيدي وأرجل من زعم بأن رسول الله قد مات، وأعتقد برجوعه كرجوع موسى إلى قومه. وبغض النظر عن صعوبة تحقيق بواعث اعتراضه (في حال افتراض صحتها) على فكرة موت النبي محمد، إلا أنها انطلقت في حوافزها المباشرة من التأثير الهائل لشخصية النبي على الجماعة والأمة الإسلامية الناشئة، أكثر من انطلاقها من الآيات القرآنية. فالمراجع التاريخية عادة ما تستند في تأويلها لرفض عمر بن الخطاب الاعتراف بموت النبي محمد، إلى فهمه المباشر للآية: "لكل أمة شهيد وأنت عليهم شهيد". وهو نفس المصدر الذي أعطى لأبي بكر إمكانية نقضها في كلماته الشهيرة: "من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، ثم تلاوته الآية (وما كان محمدا إلا رسول قد خلت من قبله الرسل). وهي الآية التي استغرب عمر من أن تكون "في كتاب الله".

غير أن هذه السذاجة التاريخية تبقى في نهاية المطاف من مصادفات الزمن. وما بدا مرفوضا للوهلة الأولى، سوف يعيد الكرّة من جديد وبقوة أعظم. فقد طرح عمر في رد فعله المباشر حدس القضية التي ستتجوهر في المعضلات الروحية والعملية الكبرى للأمة من الإمامة حتى الأخلاق، ومن النبوة حتى الولاية (الصوفية)، ومن الطابع الظني للفقه وحلوله الافتراضية حتى يقين الإيمان العقائدي، ومن الشريعة حتى الحقيقة. ولم تكن هذه العملية انعكاسا لرمزية المطلق بقدر ما كانت انعكاسا للأهمية التي شغلها النبي محمد في عالم الإسلام ومكوناته الحضارية.

من هنا سطحية الفكرة الشائعة عن أن المؤمنين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بصورة محمد كما رسمها التاريخ الصادق، بل حل محلها منذ الوهلة الأولى الأسطورة المثالية للنبي، والتي اخذ علم الكلام على عاتقه مهمة رسمها باعتباره بطلا ونموذجا أعلى الفضائل. وعدم دقة هذه الفكرة لا تقوم فقط في تجنيها على علم الكلام ودوره في إبداع الصورة المثالية للنبي، التي تفتقدها كليا ما يسمى "بالسيرة النبوية"، بل وفي رفض الكلام لتقاليد الأسطورة عن النبي محمد منذ الوهلة الأولى. وإذا كان علم الكلام قد ساهم في رسم الصورة المثالية عن شخصية النبي، فإن ذلك لا يعني أسطوريتها الفكرية أو التاريخية. فالاختلافات الكثيرة بين آراء وصور المتكلمين عن النبي محمد هي الصبغ الفكرية المتعددة عن الشخصية الأولى للإسلام. فقد كان الكلام بمعنى ما نتاجا لظاهرة الدفاع عن عقائد الإسلام في مجرى احتكاكه بعقائد الأديان الأخرى. وتضمن منذ البداية عناصر إبراز عظمته وصحته بما في ذلك على مثال النبي محمد. ولم يعر لهذا القضية جل اهتمامه. لاسيما وانه نظر إليها بمعايير العقلانية المميزة لمراحله الأولى. إذ لم تكن "الأسطورية" فيه سوى المثال الرمزي لليقين العقلاني. ولا يغير من حقيقة هذه العقلانية وقيمتها افتقادها النسبي للتجانس، وذلك بفعل جوهرية النبوة في التقاليد الكلامية، باعتبارها جزءا من عقائد الإيمان. فالإيمان يفترض كشرط ضروري مثالية النموذج. من هنا كانت "أسطورة" النبي محمد و"مثاليته" الصيغة الضرورية لوعي الحقائق المتسامية. أما في الواقع، فإنه لا أسطورية فيها ولا مثالية. إذ لم يتعد الكلام في أحكامه الأساسية عن النبي محمد ما تناوله القرآن، الذي نظر بدوره إليه نظرته إلى التجلي "الرحماني" في الخلق الإلهي.

 إضافة لذلك كان من الصعب حينذاك توقع رد آخر. فالأسطورة يصنعها الانتصار حينا والهزيمة حينا آخر. وإذا كان الانتكاس النفسي لعمر بن الخطاب هو رد الفعل المباشر على "فقدان" الشخصية المركزية للأمة وتعبير عن حرفية الفهم الأولي لبعض آيات القرآن، فإن خمود العاطفة ونصوح العقل، سرعان ما أقنعاه بخطئه الشخصي وهفوته الفكرية. وإذا كان من الصعب الآن البحث في خلجات النفس المشتعلة في أعماق عمر بين الخطاب آنذاك، فإن رد فعله يعكس في بعض ملامحه الصفات المميزة له في مباشرته المتسامية وواقعيته الحصيفة، أي كل ما استعرضه في خلافته. ومن الممكن النظر إلى كلماته المشار إليها أعلاه باعتبارها "شطحا" تاريخيا عبّر فيه عن قوة الانتماء للأمة وبؤرتها الحساسة (النبي محمد)، لا "شطحا" فكريا كالذي نعثر عليه عند غلاة الفرق الإسلامية. ومن العبث البحث في كلمات عمر عن عناصر الغلو الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي، تماما كما أن من الصعب تصور فقدانه للواقعية العميقة والعقلانية المتسامية (العملية).

 إننا نستطيع رؤية قوة الكلمة المحمدية في هذه الشطحات. فقد صنعت كلمات القرآن موضوعاتها وموضوعاتها المضادة. وكلاهما أصبح قابلا للأخذ والرد. وقد حوّله هذا الواقع إلى رمز، بحيث أصبح بإمكان القوى الاجتماعية أن تتخذ منه شعارا للمعركة، كما فعل هو نفسه في صراعه مع العرب الوثنية بتحويله الله إلى شعار للمعركة.

ولا يعني ذلك تطابق مضامين هذه الظواهر. بل يمكن القول بأن تأثير الشخصيات الروحية الكبرى ليس أقل تأثيرا من آلهتها. فهي تمثل في نموذجها الفردي أسلوب تصوراتها عن الله. إلا أن هذه الظاهرة تبقى من عالم المعتقدات الفردية والإيمان. أما انتماءها لعالم السياسة فهو جزء من عالم المصالح الجديدة، التي يفرضها منطق ومستوى الصراع الاجتماعي والثقافي وغاياته الملموسة. فالآلهة المحمدية في فعلها المباشر وغير المباشر في نشاط النبي محمد هي صيغة تجلي المطلق في فضاء الوجود الأول. لذا كان تأثيره اللاحق في صيرورة التقاليد الفكرية والسياسية والروحية استمرارا واقعيا للصياغة الأولى. بمعنى إن الحركات التالية يمكنها الاستناد مباشرة إلى شعار "الله اكبر" و"لا اله إلا الله"، إلا أن هذه المباشرة التي يفترضها الإسلام في نفي رهبانية الكيان الكنسي والوساطة الخالصة (المؤسساتية)، تبقى مباشرة في استمرارها، أي أنها لا بد وأن تستثمر صلاتها من خلال وحي النبي محمد. وهو المعنى المقصود بمقارنة شعارات المعركة الدائمة لدراما التاريخ والوجود. كما أنه السبب الذي يفسر بقاء الشخصية التاريخية العقلية للنبي محمد سارية حتى في اشد الصور الأسطورية غلوا. بمعنى استمرارها كالبرزخ الصوفي عن عالم المثال أو كتشكيلة مجردة قابلة للبناء المتعدد، أي كل ما نعثر عليه في التراث الفكري الاجتماعي السياسي الإسلامي في هذا المجال.

النبي محمد في آراء ومواقف المعارضة السياسية الاولى

وضع التراث الفكري والاجتماعي السياسي الإسلامي شخصية النبي بهيئة كيان يتراوح بين الشخصية (الملموسة) والفكرة (المجردة)، وربط أحيانا بينهما إلى درجة التطابق. وجرّده أحيانا إلى درجة حوّله فيها إلى فكرة أو مثال، وأنزله أحيانا أخرى إلى الواقع وجعله محكا للحق الشامل. ووجد ذلك انعكاسه في الحديث الموضوع :"إذا أنا مت، كانت وفاتي خير لكم تعرض على أعمالكم"، أي أن التجربة اللاحقة للتطور الاجتماعي السياسي والحضاري حوّلته إلى مقياس طالما رفضه رفضا باتا في حياته. فقد رفض محمد بفعل وجدانيته الخالصة ووحدانيته الكلية أن يضع مقياسا لكل ما هو موجود أعلى من الله، باعتباره الوحيد الحق. وهي الفكرة التي سيجري صياغتها لاحقا بعبارة "الرجال بالحق لا الحق بالرجال".

 حوّل التاريخ الإسلامي النبي محمد إلى بؤرته الجوهرية، وينبوع ذاكرته الحية، ومرآة تأمله الذاتي. فالرجال تموت وتبقى أفكارها الحية. وإذا كانت الفكرة المحمدية هي كلمة الحي "القديم" التي ينفد مداد البحر دون نفادها، فأنى لهؤلاء الذين عوّدهم الإسلام على أن ينظروا لأنفسهم كذرات صغيرة تسّبح بحمده (في عالم الملك) أن يتخطوا حدود المطلق؟ إلا أن للتاريخ "منطقه" الخاص، الذي لا يتعدى مع ذلك تجارب أممه. وهي التجربة التي رفض عمر بن الخطاب نسبيتها الملموسة باعتبارها نهاية الجسد، وأقرّها أبو بكر بصيغة الأبدية المطلقة. بينما كان علي بن أبي طالب يعالجها من منطلق "في الله عزاء عن كل مصيبة"، بينما رأى العباس بن عبد المطلب (عمه) فيه علائم "الموت الهاشمي"، في حين تقّبل المؤمنون هذه النهاية بحزن لا يخامره فزع الطفولة وتحطم اليقين، واستقبلته أفواج عام الوفود، فيما يبدو، بروح تقاليدها القديمة، التي نطق بها في يوم ما شاعرها كعب بن زهير، في مدحه للنبي محمد نفسه (كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول). في حين ارتدت العرب المستسلمة. ولم يكن ارتدادها خال من طرافة فكرية. لقد استغربت موت نبيها الأكبر ووجدت الفرصة المناسبة للتخلي في آن واحد عن إسلامها وزكاتها وصلاتها.

كان لهذا الشرخ الفكري في الوعي الاجتماعي آثاره العميقة. غير أن استعادة الوحدة الاجتماعية السياسية للأمة الجديدة، كان يعني في نفس الوقت استعادة نوعية للشخصية المحمدية. فقد رفرف هو مع رايات المسلمين إلى جانب "الله اكبر"، وصاحب كل انتصار عسكري جديد تعظيم جلي لقدرته الروحية الخفية. وكان لا بد لهذه المعارك التاريخية أن تفرز إخفاقاتها، وأن توّلد في الأعماق اليائسة شعاع الأمل الروحي. وحالما تمت هذه المقدمة في مخيلة القوى الاجتماعية، فإنها تكون قد تحولت إلى بديهية ينبغي البرهنة عليها كل بطريقه الخاص.

وكانت هذه العملية، شأن كل العمليات الفكرية الأيديولوجية، أن تتشذب في مجرى تطورها وتتهذب أساليب مقالاتها. فإذا كان الأشعري على سبيل المثال، ينظر إلى الاختلاف الفكري للقوى الإسلامية على انه تفرقا إلى شيع وفرق بعد موت النبي محمد مع إبقائه الجميع في حيز الإسلام، فإن البغدادي ادخل الخلاف حول موت النبي محمد باعتباره أول الخلافات الفكرية بين المسلمين. فهو يقف عند الحد الذي يتناوله الشهرستاني لاحقا بأسلوب التحليل والمقارنة، الذي يكشف عن كيفية تحول القدرية إلى "مجوس هذه الأمة" و"المشبهة إلى يهودها"، و"الروافض إلى نصرانييها".

وبعض النظر عن المنهجية المؤدلجة للبغدادي في استعماله للحديث الموضوع عن "افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة" كلها في النار إلا فرقة أهل السنّة والجماعة، الذي يستهلكه الشهرستاني أيضا، ولكن ضمن منظومة تحليلية أعمق وتوجه اشمل، فإن غياب حصانة التحمس الفعلي لحقيقة الدوافع الاجتماعية السياسية والروحية القائمة وراء ظواهر الغلو، جعلته يبحث عن "مصدرها المعرفي" عند تخوم صراع "الرأي والنص"، أو فيما دعاه الشهرستاني "بشبهة إبليس" التي تشعبت منها "الشبهات السبع" المسطورة في شرح الأناجيل النصرانية الأربعة والتوراة اليهودية!

إلا أن الشتيمة الإسلامية بحق الروافض "النصرانية" لها خيالها التوليفي في تصورات وأحكام علم الكلام في موقفه من تأليه الفرد الذي رفضه النبي محمد رفضا قاطعا. فقد نسبت إليه مختلف المصادر الإسلامية، وصيته الأخيرة القائلة: "قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقد فعل هو هنا بما يتطابق مع تصوراته عن نفسه، باعتباره رسولا للعالمين ومبشرا ونذيرا. لهذا اكتفى بقبر لا يرتفع ترابه عن الأرض. غير أن مفارقة التاريخ تقوم في أن من يحارب العلو الظاهري في الحياة ينبغي أن يخلد في الاعالي بينما "يَخلد" الباحثون عن العلو الظاهري في حضيض الازدراء.

ولهذه المفارقة مقوماتها التاريخية ومثولها الدائم في الواقع والوعي حتى "الوقت" الذي تنحلّ فيه تناقضات التاريخ وإبداعاته. فالعظمة الظاهرية هي أسلوب تمظهر الوعي السطحي والقوة الخشنة، أي كل ما لا صلة عضوية له بالحقيقة. من هنا تعرضها للزوال. إذ فيها سبب نقيضها. وإذا كان بإمكان "العظمة" الظاهرية أن تؤدي أحيانا دور المثوّر التاريخي للقوى الاجتماعية والطبيعية الكامنة، فإنها عادة ما تصنع نقيضها أيضا بأشكال يصعب حصرها. وفي مجرى هذه العملية تتكون معالم التاريخ. فالتذليل الحقيقي "لازدراء" التاريخ يمكن أن يحدث فقط من خلال تمثل وتمثيل الصلة الروحية الأخلاقية بالمطلق. أما النبي محمد فقد ذاب في الحركة التي بلور معالمها الأولية. فهو روحها المنّسقة السارية في كيان الوجود الروحي والمادي للإسلام. فهو مثال الحقوق المادية وسلطتها السياسية، وهو الخميرة الروحية لـتيارات الإسلام جميعا.

فالروافض الغالية هم أول من ساهم في "تنصير" النبي محمد. وافلحوا إلى الحد الذي جعلهم معزولين نسبيا عن ميدان العلاقات المادية. فقد صورت المغيرية (أتباع المغيرة بن سعيد) النبي محمد باعتباره المخلوق الأول استنادا واحتجاجا بالآية القرآنية "قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين". بينما نظرت المنصورية (أتباع أبي منصور العجلي) إلى النبي محمد باعتباره جزءا جوهريا من السماء، واعتبرت آل بيته السماء وشيعته الأرض. بينما أدخلت الخطابية (أتباع أبي الخطاب بن أبي زينب) مفهوم الناطق والصامت (الصيغة السياسية الأولية لمنظومة الظاهر والباطن) مما فسح المجال لبلورة منظومة الروحانية المقدسة للنبوة، التي شكل محمد التاريخي أحد تجلياتها. وأدى ذلك إلى نقل النبي محمد إلى مصاف الروح المطلق، الذي وجد استمراره في البيت العلوي تمثيلا بالآية: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين". أما الغلاة الحلولية (وبعض النساك والمتصوفة كما يقول الأشعري) فأقّروا بحلول الروح القدس في محمد ثم في أئمة الشيعة، كما تنسب إلى الشريعي رغم حصره إياها في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

لم تكن هذه المقالات عن شخصية محمد النبوية مصادفة طارئة، بل تكونت من النسيج الأسطوري للهزيمة الاجتماعية، التي بحثت في أعماق الظلمة عن شعاع نوراني. وليس "الاتفاق الروحي" بين الغلاة في استلهامهم القرآن "المكي" نتاجا عفويا، بقدر ما كان تعبيرا عن وحدة المزاج النفسي الأخلاقي للقوى الاجتماعية التي صنعها تطور الدولة العربية الإسلامية، وحوافز تكوين اتجاهاتها. فقد رأت هذه الاتجاهات في هيئة الخلافة وأفعالها استعادة جديدة للسيطرة الجاهلية التي حاربها محمد. غير أن محمدا حارب في الجاهلية مثالها الوثني، بينما واجهت القوى الجديدة مهمة محاربتها بغلافها الإسلامي. لهذا كفّ محمد الواقعي عن أن يكون شخصيتها الملهمة. من هنا بحثها الدائم عن مثال مأساوي يعكس حالتها الواقعية (على بن أبي طالب والحسين بن علي). لقد كان محمد ضروريا لهرمية النسب والشجرة العائلية التي كان ينبغي بدورها أن تتحول إلى مثال نوراني، ما زالت لم تؤد حتى إلى تجنب سفك دماء أحفاده.

حينذاك أصبح محمد جزءا من النبوة، باعتبارها المنظومة الشرعية والمصدر الذي لا ينضب والمعيار الأمثل لتجديد المواقف من الإمامة الإسلامية (الخلافة). وفي هذا يكمن سبب غياب الجدل اللاهوتي عن شخصية محمد والنبوة في المراحل الأولى لعلم الكلام. فقد برزت هذه القضايا في وقت لاحق. إذ اندفعت آنذاك المهمات التي فرضها الواقع الاجتماعي والسياسي والحكومي، وانعكاسها في المواقف الفردية والجماعية كقضية الحكم والإمامة عند الخوارج، والجبر والاختيار عند الجبرية والقدرية، وقضايا العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة وغيرها.

إذ كان ينبغي للفكر الاجتماعي أن يتوسع ويتعمق ويتسامى إلى الدرجة التي يصبح معها قادرا على إعادة النظر بشمولية أكبر تجاه قضايا النبوة، أي كل ما يحوّلها وينقلها من ميدان التاريخ الواقعي إلى فضاء التجريد المثالي، أي من السياسة إلى الكلام والفلسفة والتصوف.

فإذا كان "الروافض" والغلاة بشكل عام، قد ارجعوا شخصية النبي محمد إلى مجرد صاحب الوصية الأولية، وأعاروا اهتمامهم الأساسي بأحفاده، فإن المعتزلة اقتصروا في جدلهم حول ما إذا كانت النبوة ابتداء أم جزاء. ولا يغير من ذلك شيئا اختلافاتهم مثل أن ينظر عباد بن سليمان إليها باعتبارها جزاء على عمل الأنبياء، بينما يعتبرها أبو علي الجبائي ابتداء رغم إقراره بكونها جزاء على عملهم. أو فيما إذا كانت الملائكة أفضل من الأنبياء أو الأنبياء أفضل من الملائكة وغيرها من المسائل، فان الحصيلة الفكرية تكشف عن عدم تحول النبوة إلى معضلة فكرية قائمة بحد ذاتها.

النبي محمد في علم الكلام

لقد تمايزت فرق الكلام بنوعية ومستوى وحجم اهتمامها النظري والفكري بشخصية النبي محمد. إذ لم يتحول، على سبيل المثال، إلى قضية فكرية أو عقائدية أو سياسية مستقلة في تقاليد الاعتزال والمعتزلة. بل جرى تذويبه، كما كان الحال عند من سبقهم كالمرجئة والقدرية والجبرية الاولى، في قضايا الروح الاخلاقي، وقضايا حرية الإرادة والطابع العقلي للأخلاق والقيم وغيرها من المسائل والقضايا. بينما تحولت النبوة إلى ضرورة جدلية في منظومات الكلام السنيّة. وعليها بنت صرح مقالاتها لدحض "فضائح" الفرق الأخرى. فعندما يتكلم البغدادي عن آراء أهل "السنّة والجماعة" وأركانهم الخمسة عشر، فانه يفرد الركن السابع لقولهم في النبوة والرسالة لإظهار قيمة النبوة المحمدية ورسالتها. فهو يسير في الطريق المعبدة للقناعة الإسلامية التقليدية عن فكرة انتهاء النبوة بالرسالة المحمدية، باعتبارها نسخا للشرائح السابقة. فقد اعترفت الشريعة الإسلامية عموما بشرعة موسى وعيسى ونفتهما في نفس الوقت. وبهذا يكون الأنبياء والرسل السابقون مجرد مقدمة للإسلام وتوابعه. فأهل "السنّة والجماعة" لا ينفون على سبيل المثال فكرة رجوع المسيح، إلا أنهم ينظرون إليه نظرتهم إلى عودة في "الصراط المستقيم" والعمل بشريعة الإسلام. وهي صيغة شاركتها اغلب فرق الإسلام. وفيها نعثر على تذويب الشخصية الواقعية لمحمد في آيات القرآن. بينما تحول القرآن إلى معجزته النبوية والدليل الحياتي للرسالة المطلقة، كما نعثر عليها عند ابن حزم الأندلسي. غبر انه وضع هذه الأفكار في مقولات الإمكان والواجب. فالفكرة القائلة بوجوب النبوة انطلاقا من وجوب الإنذار في الحكمة قبل مجيء الرسل، تظل بنظر ابن حزم مجرد إمكانية قائمة بذاتها. وتتحول حالما يبعث الله النبي إلى وجوب. غير أن هذه البراهين تفقد المقولات الفلسفية طابعها العقلاني وتحولها إلى مجرد صيغة "منطقية" للبنى اللاهوتية.

فالمقدمة الأولى التي ينطلق منها ابن حزم، في البرهنة على النبوة وضرورتها تقوم في الاعتراف بالقدرة المطلقة لله، التي يتطابق مضمونها مع فكرة "بلا كيف" الأشعرية. فالله لا يفعل شيئا لعلة، أي بخلاف كل ما هو موجود من أفعال الخلق. فالله اخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ولا معاناة ولا استعانة ولا مثال سلف ولا علة موجبة ولا حكم سابق قبل الخلق. بصيغة أخرى، إن القدرة الإلهية تتحول إلى كيان لا يستطيع العقل البشري الإحاطة التامة بها. وليس أمام البشر سوى مهمة التعامل مع واقع تحولها من الإمكان الإلهي إلى الوجوب الإنساني المباشر المتجسد في النبوة كما استعرضت نفسها مرارا في التاريخ لتستكمل ذروتها في النبي محمد. ولكنها إمكانية تختلف عن التصورات العقلانية عن الإمكانية الواقعية. فهو يرسم لنا جملة من الصور الواقعية عن النبوة حالما ينزل من سماء اللاهوت المجرد إلى أرضية الدراسة المقارنة (الواقعية والنقدية). فهو يقر بأن الممكن ليس واقعا في العالم وقوعا واحدا، أي انه لا يتجسد بصورة واحدة متماثلة. فالإمكانية قائمة ومعها الامتناع أيضا. فما هو مميز للرجال من ظهور اللحى في عمر 18 ـ 20 سنة ممتنع على الأطفال والصبيان في أعمار 12 ـ 14 سنة. وما هو ممكن للذكي من حل المشكلات الفكرية المعقدة ممتنع على البليد. غير أن هذه المقدمة السليمة تصبح جزءا ثانويا في "المنطق اللاهوتي"، انطلاقا من أن الله يختلف عنا اختلافا كليا (ليس كمثله شيء). لذا فإن ما هو ممتنع علينا غير ممتنع عليه. وتتجلى إحدى صيغ هذه الحالة في ظهور الأنبياء وتحولهم من حدّ الإمكان إلى حد الوجوب وكذلك في معجزاتهم. غير أن معجزاتهم في نهاية المطاف هي نتيجة لفعل الله، أي أن الله هو الذي رتّب كل شيء وأجراه على مجاريه بما ركّبه فيه من الطبائع. بهذا المعنى، فإنه لا فاعل على الحقيقة غير الله. وذلك لأن طبائع الموجودات قائمة بحد ذاتها لا يمكن للإنسان التلاعب فيها. وحالما تظهر هذه الإمكانية في حيز الوجود، كانقلاب الحجرة إلى ناقة أو إحياء الموتى وما شابه ذلك فانه دليل المعجزة. إلا انه هنا أيضا لا فاعل على الحقيقة إلا الله. وإذا كانت القضية بهذا الشكل وانه لا فاعل ولا خالق سوى الله، فينبغي أذن الإقرار بما هو منه، أي كل الحصيلة التي تلزم المرء بضرورة الاعتراف بأنه لا نبوة بعد محمد.

النبي محمد في الفلسفة الإسلامية

قد تكون الفلسفة الإسلامية هي الوحيدة من بين تيارات الفكر النظري والعقلي الإسلامي، التي لم يفرد أي من شخصياتها الكبرى ابحاث متخصصة بالنبي محمد سواء بهيئة كتاب أو رسالة أو مقال. وبالتالي، لم تدخل ميدان الصراع الديني العقائدي والمذهبي. وهي حالة مترتبة على خصوصية الفلسفة بشكل عام والاسلامية بشكل خاص آنذاك. وذلك لأنها تطرقت الى هذه القضية من خلال تناول إشكاليات العقل الايمان، وانماط ومستويات المعرفة. وحتى حالما تطرقت الى قضية النبوة كما هي، فإنها حاولت اختزالها في تصوراتها وتأملاتها وأحكامها الخاصة، أي البعيدة عن هموم العقائد اللاهوت. فالفكرة الجوهرية في علم الكلام التقليدي تستند إلى الإقرار بالمعجزات وخرق العادة. بينما نقلت الفلسفة تصوراتها عن النبوة إلى ميدان التحليل "الطبيعي" وبراهينه "المنطقية"، أي الإقرار "بالمعجزات" الطبيعية مثل سقوط المطر وهبوب العواصف ونزول الصواعق والزلازل وما شابه ذلك من "الخوارق"، باعتبارها نماذج حسية عن النبوة. ذلك يعني، إن معجزة النبوة لا ينبغي أن تتعارض مع قوانين الطبيعة ولا مع معطيات العقل السليم. وهي أفكار رفضها الغزالي في (تهافت الفلاسفة) وما قبله، لكنه اقرها بصورة مبطنة في مرحلته الصوفية.

فقد شغلت هذه القضية ذهن الغزالي لاعتبارات عقائدية، كما هو الحال في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وليس لاعتبارات فكرية أخلاقية كما هو الحال في مرحلته الصوفية. لقد وضع أمام نفسه مهمة إعادة اللحمة العقائدية (الأيديولوجية) لكينونة الأمة الروحية الممزقة بالصراعات المذهبية والسياسية، والذي نعثر عليه في صياغته لمهمة الإصلاح كما بلور معالمها الأولى ومبادئها الأساسية في كتابه (إحياء علوم الدين). حينذاك وجد نفسه مضطرا للرجوع إلى المثال المحمدي بروحه الصوفي. فقد كان محمد (الإحياء) النموذج الأخلاقي للتخلق بأخلاق الله. حيث نراه في نموذج الشخصية المتضرعة والمبتهلة والمتزينة بمحاسن الأخلاق، بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهو رحمة للعالمين وصاحب الأسماء العشرة (محمد، واحمد، والماحي، والعاقب، والحاشر، ورسول الرحمة، والتوبة، والملاحم، والمقفي، وقثم)، أي الإنسان الكامل الجامع أو قطب الصوفية.

النبي محمد في التصوف

إن فكرة الغزالي المذكرة أعلاه هي الصورة الأخلاقية للنبي محمد في نموذجها الصوفي الإنساني، التي جعلت منه دليلا على عدم "اكتسابه بحيلة تقوم بها القوة البشرية، بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية". ولم تعد المعجزة النبوية أسيرة التصورات والانطباعات والبراهين الحسية. عند هذا الحد بتشابه الغزالي مع ابن حزم. فالقدرة الإلهية ليست عاجزة عن خرق العادة مثل أن تخلق "في الحصاة حياة وقدرة"، إلا أن لخرق العادة مستويات ثلاثة، المستوى الحسي هو أولها وأدناها. فالشمس تؤثر بالمائعات تدريجيا بينما التسخين رأسا. من هنا استنتاج الغزالي عن أن المقصود بإمكانية تأثير الأنبياء شبيه بنسبة التسخين إلى الشمس. إلا أن هذه المقارنة هي حصيلة حاصل، لا علاقة سببية جوهرية لها بالبرهان. أما المستوى الثاني (العقلي) والذي يدعوه المتكلمون بدلالة الدليل على المدلول فهو الصيغة الوجودية واللاهوتية للمستوى الحسي. أما المستوى الثالث (الخيالي) فهو "لسان الحال" الذي يصير شاهدا محسوسا على سبيل التمثيل كرؤية النائم في النوم. غير أن ما يميز الأنبياء هو رؤيتهم ذلك في اليقظة. وقد بلور الغزالي المعالم الظاهرية لهذه الحالة في كتابه (المنقذ من الضلال) عندما أكد على أن خاصية النبوة لا تدرك كليا إلا بطريقة الصوفية، أي في مجرى العملية المعرفية الأخلاقية التي يقف أمامها الحس والعقل عاجزين عن رؤية كيانها الخاص، باعتباره موضوع ما وراء العقل أو المعرفة القلبية. وعندما حاول الغزالي البرهنة على النبوة فانه لم يستعمل مفهوم المعجزة بشكل عام والقرآن بشكل خاص، ولا المفاهيم المباشرة عن أهمية النبوة العملية، رغم أهميتها في منظومته الفكرية. وذلك لأنه نظر إلى هذه القضايا باعتبارها موضوعات الاحتكام المباشر للعقل، بينما العقل هو طور في أطوار إدراك الإنسان. والنبوة أيضا هي "طور يحصل منه عين لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل"، كما يقول الغزالي.

ذلك يعني، إن الغزالي لم يضع مفهوم النبوة بالضد من إنجازات الحس ومدركات العقول، بقدر ما يضعها في ميدان أرقى له أسسه الخاصة، ونماذجه المتميزة في عوالم الإنسان الحسية والعقلية. فالحس والعقل يستندان إلى الموجود المباشر ودليل البرهان والتجربة. في حين لا يخضع كل شيء للتجربة. وبالتالي، فإن هناك طرق أخرى غير الحسية والعقلية لإدراك النبوة. إضافة لذلك إن النبوة بالنسبة للغزالي ليست قضية فكرية مجردة. لاسيما وأن الجنس الخارج عن مدركات العقل في النبوة، هو أحد خواص النبوة كما يقول الغزالي. إذ تحتوي النبوة على خواص عديدة. كل ذلك يجعل منها كيانا هائلا لا يمكن فهم حقيقة إلا عن طريق الذوق الصوفي. في حين يكشف تدقيق معنى النبوة على القرآن والأخبار شخصية محمد باعتبارها التجسيد الفعلي الأسمى لدرجات النبوة. ذلك يعني، إن الغزالي يسير هنا ضمن تقاليد الصوفية في البرهنة على النبوة، أي انه سعى لليقين الذي يستحيل بلوغه بالأخبار والمعجزات التقليدية مثل قلب العصا ثعبانا وما شابه ذلك، لأنه قد يؤدي إلى مطابقة السحر مع بالنبوة.

إن لهذه الفكرة أساسها "المنهجي" في الطريق الصوفي. بمعنى تطابقها مع إلهام المعرفة الصوفية. بينما تتحول في الجانب العملي إلى مصدر ملموس للمثال المطلق في السلوك الصوفي، الذي ينبغي للمريد سلوك مقاماته من اجل بلوغ "مشكاة النبوة". حينذاك يصبح النظر إلى النبوة بعين النبوة الأسلوب الأمثل والأكثر يقينا للبرهنة عليها. ولا يمكن إغفال ما في هذه الفكرة المنهجية من قيمة عملية كبرى ومعنى متسام. وذك لتأسيسها إمكانية التأمل الدائم لمصدرها الحق (المشكاة النبوية)، باعتباره النبع التلقائي للمعرفة الصوفية في الذوق والمشاهدة. كل ذلك يجعل الشخصية المحمدية نموذجا يتآلف فيه الواقع والمثال، والتاريخ والمطلق في منظومة البدائل.

نقف هنا أمام ذوبان الشخصية النبوية في مختلف مدارس التصوف وشيوخه. حيث يتحول النبي محمد في آراء عبد القادر الجيلاني، على سبيل المثال، إلى الصوفي العملي "المحترف" الذي تقدّر معجزاته بألف معجزة، أكبرها القرآن. إلا أن الذوبان الفعلي لشخصية محمد التاريخية جرت فقط في المنظومات الصوفية التي حولته إلى ملح بحارها، كما هو الحال عند ابن عربي ومدرسته. إذ لم يعد محمد شخصية تاريخية ملموسة. حيث تفقد سيرته طابعها التاريخي المباشر، وتتحول ممارسته إلى رموز، وكلماته إلى مستودع للتأويل الدائم. انه يتحول إلى كيان ما فوق تاريخي بحيث يصبح كل ما في الوجود جزءا منه وتجليا له، كما يتطابق في نفس الوقت مع كل وجود. فهو العالم والمثال في مسيرتهما الدائمة، والنفس الناطقة من الإنسان عند مقارنته بالعالم، وغاية الوجود والروح. ومن ثم ليس محمد التاريخي إلا لحظة اللقاء الخاطفة بين المثال المطلق والوجود، التي لا تفقد أهميتها أبدا أمام عرش الحقيقة. انه الروح الذائبة في جسد الوجود النائم. كما انه إنسان الصوفية الكامل، الذي حاز درجة الكمال بتمام الصورة الإلهية في البقاء والتنوع في الصور وفي بقاء العالم. وهو الإنسان الذي سيشغل بؤرة الاستقطاب الجاذبة في تقاليد مدرسة ابن عربي، كما نعثر عليها عند عبد الكريم الجيلاني في "الإنسان الكامل"، بوصفها الصيغة المنظمة والمعقلنة لآراء أين عربي.

إذ ليس النبي محمد عند عبد الكريم الجيلي سوى قطب الزمان الصوفي، والقطب الواحد المتجلي بملابس عديدة في مراحل التاريخ المختلفة. انه اسم المثال المطلق ومسمى النبي التاريخي. انه النقطة التي يلتقي بها عالم المثال المطلق والوجود الفعلي للشخصية في لمحة تاريخية عمرها امتداد الزمن بين نهاية وبداية العدم الصوفي، أو بين الوجود الأزلي والحق السرمدي. حيث يتحول محمد إلى القوة الفاعلة للروح المطلق والمتجلية في ذرات التاريخ (الصوفي). كما أنه الحقيقة الباطنة لمظاهر التجلي الدائم للشيوخ. بهذا لم تعد ضرورة الشخصية المحمدية محصورة بالمعجزة والنبوة، بل بضرورة الوجود نفسه. انطلاقا من أن العالم لا يمكنه أن يكون "إنسانا كبيرا" دون التجلي الدائم للروح المحمدي.

ولم تقف هذه المفاهيم الصوفية عند حدود الأفكار المذكورة أعلاه، بل وتعدتها إلى نماذج غاية في التباين تأثر اغلبها بآراء الشيخ الأكبر (ابن عربي). ومن الممكن القول بأن الصفة المميزة للمدارس الصوفية اللاحقة تقوم في تحويلها المتزايد للشخصية المحمدية إلى مصاف النورانية المجردة. ولعل آراء ابن سبعين عن الشخصية المحمدية بوصفها كتلة نورانية مطلقة متعددة الجوانب تعكس النور الإلهي، مثال ساطع في هذا المجال. حيث تتحول النورانية المحمدية إلى حزمة أشعة لا تقبل التجزئة. فهي لا تحتاج في ذوق الصوفي إلى برهنة تاريخية عقلية. وذلك لأن "بيان البين هو تحرك في سلسلة الجنون الشخصي"، التي يسعى الحدس والذوق الصوفي لتذليلها كما يقول ابن سبعين. وتمسك ضمن هذا السياق، شأن الصوفية ككل، بالحديث المنسوب للنبي محمد: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". بمعنى انطلاقه من المطلق للمطلق. فالأزل المحمدي هو الأزل الإلهي. وبغض النظر عن التجريد الكامل هنا لشخصية محمد التاريخية، فإنها تعبّر في لغة التصوف عن واقعية مثالها المطلق باعتباره مثال الشخصية الصوفية.

أما الكتابات الصوفية المتأخرة عن النبي محمد، فقد كانت في اغلبها ابتذالا للمفاهيم الصوفية الأولية واجترارا فارغا خصوصا في كتابات المواليد النبوية، التي تخضع للسجع المفرط "لحبيب ربها العظيم". ومع ذلك لم يعن انتشار التصورات والنظم الصوفية سيادتها الكاملة في هذا الميدان. لقد شغلت دون شك حيزا كبيرا في الوعي الاجتماعي العادي، واختلف تأثيرها عن تأثير المدارس التقليدية السلفية في الموقف من الشخصية النبوية والتاريخية لمحمد. وتعرضت في نفس الوقت إلى هجوم تتراوح آثاره عليها من وقت لآخر. والتاريخ (بما في ذلك المعاصر) يكشف عن التوجه الدائم لاستعادة الصورة التاريخية للشخصية المحمدية من خلال محاولاتها الربط "الصحيح" للمعقول والمنقول، والسلف والمعاصرة في النظر إلى النبي محمد. ومن الممكن اعتبار ابن تيمية الحراني نموذجا جليا في هذا المجال.

النبي محمد في مراحل الانحطاط والسقوط الثقافي

استطاع ابن تيمية الدخول من جديد معترك الحياة السياسية في القرن الثامن عشر على يد الحركة الوهابية. وفي نفس الوقت استطاعت التقاليد الصوفية والشيعية توليد تيارات جديدة مثل البابية في القرن التاسع عشر. واستمدت الوهابية والبابية "حقيقة" الشخصية المحمدية من حصيلة التقاليد الإسلامية الفكرية السياسية السابقة. الأولى من خلال التوظيف المباشر للتقاليد الحنبلية، والثانية من خلال مزج التقاليد الصوفية والشيعية. لهذا جرى استعادة مظهر النبي محمد في الوهابية، وصورته المتخيلة في البابية.

وبغض النظر عن انعزال تقاليد هذين التيارين عن بعضهما البعض آنذاك، بل واحترابهما النسبي (بما في ذلك ما قبل ابن تيمية واستمراره ما بعد محمد بن عبد الوهاب)، فان الوهابية استطاعت أن تؤثر بصورة غير مباشرة على الحركة البابية. ولكنه تأثير خارجي لا علاقة له بتقاليد التشيع ونموه وتطوره وصراعاته الداخلية الفكرية الحديثة والمعاصرة. لهذا واجه كل منهما مصيره الخاص بما في ذلك في تنظيره وتجسيده لمثال الشخصية المحمدية.

انطلق محمد بن عبد الوهاب من الفكرة القائلة بأن محمد رسول الله وأن القرآن كتاب الله، وبالتالي لا شفاعة ولا واسطة بين الله والإنسان. وهو موقف حاول استعادت النموذج التاريخي العملي المباشر للنبي محمد عبر تحويله إلى معيار مباشر في ممارسات الوهابية الأولى. واتخذ ذلك مظهر ربط الإيمان المباشر به وبنبوته والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى، أي استعادت الوسائل نفسها التي مارسها النبي محمد في صراعه ضد العرب الوثنية. ذلك يعني، إن المثال المحمدي يكتسب صيغته الشرعية الفعلية حالما يصبح مثالا للعمل من اجل التوحيد. ويصبح الصراع كما كان قبل ألف عام، صراع المسلمين ضد الكفار. لهذا طالب محمد بن عبد الوهاب أتباعه بالهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. ولهذا السبب أيضا وجّه مساعيه، متتبعا ابن تيمية، في محاربته زيارة القبور والأضرحة. رغم أن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، لم يعارضا زيارة قبر النبي محمد وحج الكعبة، كما سيتهمهما به النقد المتحزب. لقد وقفا ضد زيارة الشفاعة والترجي والتوسل والتبرك. ولم يفعلا في الواقع، سوى أنهما تتبعا الصيغة التقليدية المباشرة لبعض أعمال النبي محمد. فقد سبق للنبي محمد وإن أدان بناء القبور الضخمة وزيارتها. واستند محمد بن عبد الوهاب إلى هذه الممارسة، وإلى الفكرة القرآنية القائلة بأن "المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا". وكتب في (كشف الشبهات في التوحيد) على أن التقّرب والاعتقاد لله فقط، لا يصح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما. وليس من الصعب إدراك المضمون الاجتماعي الفعال آنذاك لهذه الفكرة، التي كانت موجهة ضد صوفية العوام وضد الاستبداد البشري. فقد كانت ترمي هذه الفكرة موضوعيا إلى استعادت نموذج الاعتدال المحمدي. فدين الله، هو "وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين"، كما يقول محمد بن عبد الوهاب. فالتقرب من الأنبياء والأولياء والملائكة أو من الحجارة والعصا أفعال يكمل أحدهما الآخر. أما أهل زمانه "فيدعون مع الله اناسا من افسق الناس". لهذا السبب وجد نفسه مضطرا لمحاربة التقية، ومن ثم تطويع الشخصية المحمدية للدرجة التي تصبح شبيهة بمثال الخوارج. فهو لم يستشهد بفكرة "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه…"، بل عمل بفكرة إن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل. فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. إذ لم يبحث محمد بن عبد الوهاب عن ترتيب في الفعل، ولا عن ثغرة للتقية، بل عن وحدة الشخصية في العمل، التي وجد في النبي محمد مثالها الأول (الإسلامي). لذا بدت هذه الفكرة في أعين التقليديين المتحجرين آنذاك جديدة. وليس مصادفة أن يتهم زورا في الانتقادات الموجهة ضده حينذاك بتلفيق حكايات عن ولعه بتاريخ من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة وغيرهم. ووضعوا بينه وبين مسيلمة علامة المساواة بل لم يتورعوا من وضع حديث يقول: "سيخرج في ثاني عشر قرنا في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور ولا يزال يلعق براطمه… يستحلون أموال المسلمين".

أفلحت الوهابية في بعث الشخصية السياسية للنبي محمد. وهو أيضا سبب سلوكها التقليدي "المحترف". وفي هذا التناقض كمنت إمكانية تحولها إلى حافز سياسي لحركات كثيرة حاولت استمداد مثال الشخصية المحمدية. لكنه استمداد حددت طابعه وأسلوبه أيضا التقاليد الفكرية الثقافية والاجتماعية السياسية. ولعل البابية أحد هذه النماذج الأصيلة في هذا الميدان. فقد حاول الباب (ميرزه علي محمد) تجسيد الفكرة العميقة التي أبدعها الفكر الصوفي، وبالأخص في مدرسة ابن عربي عن الكلمة المحمدية ومثالها المطلق. فتجلي الكلمة الإلهية المطلقة في الأنبياء لا يعرف نهاية ما زالت الصورة الجامعة لها قائمة في الإنسان الكامل. لذا حاول أن يجعل من "الباب" و"البيان" محمدا الشيعي وقرآنه المعاصر. فالشخصية المحمدية لا تنسخ هنا، بل تتجدد بثوب جديد، كما سبق لعبد الكريم الجيلي إن قال به في (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل). بمعنى صيغة تجليه الروحي الحق وليس الجسدي.

دفعت البابية شخصية محمد الكفاحية بأسلوب يشابه شخصيته السنية الحنبلية في الوهابية. فالدرعية هي "مدينة" الوهابية، ومازندران هي "كربلاء" البابية. وعوضا عن قيادة النبي محمد تظهر قيادة الوهابية والبابية، وعوضا عن "أمة محمد" تظهر "أمة محمد الحقة" في الوهابية و"مملكة الفقراء" في البابية. إلا أن الهزيمة العسكرية التي منيت بها البابية قد أغلقت الباب برتاج البهائية! حينذاك جرى تذويب الشخصية المحمدية فأصبحت غائبة في وعي الروح المطلق. ولم تعد النبوة بنظر البهائية سوى "مرآة تنبئ عن الفيض الإلهي والتجلي الرحماني، التي انطبعت فيها أشعة ساطعة من شمس الحقيقة". أما النبي فهو "الفرد الكامل والفيض الشامل والنور الباهر، انه مرآة صافية لطيفة منطبعة فيها الصور العالية، تنبئ عن شمس الحقيقة وتفيض بها على سائر الأمم". أنها النبوة التي أراد مؤسس البهائية، بهاء الدين (ميرزا حسين علي بن ميرزا عباس) تنفيذها، ولكن في نموذج طوباوي كوسموبوليتي.

النبي محمد في التأليف الحديث

ومع تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن تعرض العالم الإسلامي لهزيمة تاريخية حضارية أمام الغرب الأوربي، لم يعد النظر بالشخصية المحمدية قضية دينية خالصة أو تأمل لاهوتي أو تكرار عقائدي ممل. ولم يعد تأثيرها أسير "علماء الدين"، بل تعداه إلى الميدان الواقعي، ولحد ما الحقيقي لنشاط النبي محمد. وأخذ مثال النبي محمد يشمل بتأثيره مختلف المذاهب الفكرية السياسية. ولكنه تأثير يجري في ظروف معاصرة. مما حدد بدوره ظهور توليفات فكرية متنوعة تجمعها في الأغلب ميتافيزيقية الشخصية المحمدية. فإذا كانت نماذج القرون الخوالي هي الصياغات الفكرية العقائدية والدينية الأيديولوجية و"التاريخية" عن محمد، فإن مثيلاتها المعاصرة عادة ما تسبغ عليه روح الماضي بلباس الحاضر. وهو أمر لا يجعلها كبيرة الاختلاف عن سابقاتها من حيث تمثيلها واستمرارها بتقاليد الماضي الضيقة، أي أنها لم تتعلم ولم تتقن بعد تذويبه الحقيقي في الوعي المعاصر وإشكالاته الجوهرية ومهماته العملية الكبرى.

الأساس النظري لكتابي (محمد رسول الإرادة).

اما كتابي هذا فيختلف بدوره عما اشرت إليه، رغم انه ينتمي الى وحدة الرؤية النقدية والمنهج الفلسفي. انه يجمع بين الرؤية التاريخية الواقعية، والنقدية العقلية، والنظرية الفلسفية. وبالتالي، فهو الكتاب الأول في الثقافة العربية والإسلامية في كيفية تناوله لشخصية محمد، والشخصية المحمدية، والنبي محمد والنبوة المحمدية، والرسول والرسالة الإسلامية. أما لماذا يحمل عنوان (رسول الإرادة)، فلأنه يستند الى فلسفتي التاريخية الثقافية، وبالأخص ما له علاقة بفكرتي المنهجية عما ادعوه بالمسار التاريخي ومنطق الثقافة والاحتمال العقلاني للبدائل. والمقصود بالمسار التاريخي هنا هو مسار التاريخ الطبيعي الذي يمر ويتحقق بمراحل سبع أساسية، الثلاثة الأولى "طبيعية" صرف، والرابعة والخامسة بينية، بينما (السادسة والسابعة) "ماوراطبيعية". وهي كما يلي:

- المرحلة الاثنية – الثقافية؛

- المرحلة الثقافية – الدينية؛

- المرحلة الدينية – السياسية؛

- المرحلة السياسية – الاقتصادية؛

- المرحلة الاقتصادية- الحقوقية؛

- المرحلة الحقوقية – الأخلاقية؛

- المرحلة الأخلاقية - العلمية.....

إن جميع هذه المراحل انتقالية، بمعنى أن التاريخ عملية مستمرة تحتوي على احتمالات متنوعة من الصعود والهبوط، لكنها لا تنفي مضمون القانون الطبيعي للتاريخ، بل تؤكده بوصفه احتمالا عقليا وإرادة حرة.

فالتاريخ الانساني هو تاريخ وعيه الثقافي ومن ثم تاريخ البدائل المرتبطة به، أي تلك التي تتبلور في مجرى ما اسميته بقانون التاريخ ومنطق الثقافة. أما قانون الثقافة فيجري من خلال فعل ونتائج أربع ثنائيات كبرى هي كل من:

- التشاؤم والتفاؤل،

- والفعل والخمول،

- والنفي والإيجاب،

- والعقل والوجدان،

إن تحقيق الانتقال من مرحلة إلى أخرى يجري بأثر فعل هذه الثنائيات وكيفية حلها لإشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الفرد والجماعة والأمة والدولة. ومن خلال هذه المكونات تجري رؤية الماضي والمستقبل. وبأثرها تتبلور معالم الرؤية النظرية والعملية عن الحاضر. ومن هذه المعالم تتولد بدايات الثقافة والحضارة المدركة بمعايير البدائل، أي كل ما يساهم في تكامل واكتمال التاريخ الذاتي. وذلك لان الرؤية المستندة إلى فكرة البديل، تفترض في تناقض التفاؤل والتشاؤم، والفعالية والخمول، والنفي والإيجاب، والعقل والوجدان، وحدتها بوصفها منظومة متكاملة للبدائل. ومن تعامل هذه المكونات (الثنائيات) النظرية والعملية مع الماضي والمستقبل يتبلور أسلوب وجود الحضارات وثقافاتها. وعادة ما يجري ذلك من خلال تحديد وتفاعل اتجاه التفاؤل، وفاعلية الإرادة، وكيفية النفي، ومضمون العقل.

أما المرحلة الدينية – السياسية (المرحلة الثالثة)، فهي المرحلة التي يجري فيها تحول الفكرة الدينية إلى الوعاء الأكبر للفكر ة الثقافية عبر دمجها بالفكرة السياسية. الأمر الذي يجعل من الفكرة السياسية فكرة شاملة لكل مرافق الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة. ومن ثم إنزال الفكرة إلى ميدان الإحساس والمادة. بمعنى استكمال دورة الوجود الطبيعي – الماوراطبيعي- الطبيعي. بحيث يتحول الواحد إلى قطب الوجود، ومن ثم إبداع المرجعيات المتكاملة في وحدة الفرد والجماعة والأمة، والثقافة والقيم، والدولة ونظامها السياسي. وهي المرحلة الأكثر تعقيدا من حيث البناء والاستمرار، وذلك لأنها تتوج مسار التاريخ الطبيعي عبر ربطه الكامل والشامل بالوجود الماوراطبيعي. وفيها فقط تتراكم قيم المطلق والمقدس والأبدي وأولويته لتصهر فيه كل القيم والمبادئ النظرية والعملية. كما أنها مرحلة صنع الأمة الثقافية والحضارة "الكونية". ومثالها في صيرورة وبقاء الحضارة النصرانية، والحضارة الإسلامية. وهي حضارات لا تنفي وجود "الأمة المحورية"، بل تذّوبها في "الأمة الثقافية" الجامعة. ولكل حضارة من هذا النوع صيرورته الخاصة المترتبة على كيفية تراكم "منطقها الثقافي" في مجرى حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي وتحقيقها عبر نوعية اتجاه التفاؤل، وفاعلية الإرادة، وكيفية النفي، ومضمون العقل.

إن المرحلة الدينية السياسية هي المرحلة الأكثر ديناميكية والأكثر عصية بالنسبة للمسار التاريخي للأمم. وذلك لأنها تمثل المرحلة التاريخية الثقافية الأولية الكبرى للانتقال إلى فكرة الواحد والوحدة والاحدية في كافة مستويات وميادين الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة والثقافة، مع ما يترتب عليه بالضرورة من بلورة مرجعيات قادرة على تذليل التفرقة والتشتت والشرذمة والوجود الساري بهيئة زمن الوجود والعدم. وخلافا لما قبلها، والتي عادة ما تربط بدايتها وصيرورتها بأساطير شتى، فان قيادة التحول التاريخي صوب المرحلة الدينية السياسية عادة ما يرتبط بشخصيات تحتوي على وحدة ومرجعية الطبيعي والماوراطبيعي، الإنساني و"الإلهي". من هنا بروز فكرة وشخصية النبي والنبوة، أي تلك القوة القادرة على صنع مرجعيات توحد فيها كل مكونات الوجود بوصفه منظومة "إلهية" و"مقدسة". وبالتالي تذلل تقاليد العنف والبطش في توحيد الأمم والاستعاضة عنه بقوة المثال والنموذج "المقدس". بمعنى أنها تنزع صوب التوحيد المتجانس بين الجسد والروح، الله والإنسان، العابر والأبدي، أي تحتوي على عناصر التقديس المبطن لما فيها، بوصفها القوة الظاهرة والباطنة لتوحيد الفرد والجماعة في أمة.

كل ذلك جعل من المرحلة الدينية السياسية (الثالثة) إبداعا هائلا بمعايير التوحيد والوحدة، ومن ثم صنع الهموم المشتركة والإبداع المشترك، بوصفه صراعا حادا أيضا. وشأنها شأن كل مرحلة تاريخية ثقافية كبرى تتسم بالتنوع. ومن ثم تتوقف خصوصيتها، التي تبلور لاحقا خصوصية الثقافة والحضارة، على كيفية صيرورة مرجعياتها المتسامية ونظامها العملي. فقد اتخذت في أوربا النصرانية هيئة الكنيسة الواحدة والوحدة، أي الصانعة للوحدة الروحية والجسدية والقيم. بينما اتخذت في الصيرورة الإسلامية وحضارتها قوة الله الواحد والجماعة والأمة والأصول الكبرى. (وشرح كل ذلك على نموذج النبي محمد في متن الكتاب نفسه....) (انتهى).

***

 

في المثقف اليوم