قراءة في كتاب
قراءة في كتاب سوسيولوجيا الزعامة (الفقيه العربي) لصادق الروازق
بعد استعراض فصول الكتاب قراءةً، استوقفتني الكثير من الإشارات المهمة، وتحديداً ما ورد في مقدّمة الكتاب الذي يشكل جوهر ومحتوى الأطروحة عن التراث والنص وكيفية التعاطي معهما بروح الحداثة ومعطيات العلوم الحديثة، كاشفاً بإضاءات معرفية متعددة المصادر، في كيفية فهم النص وقراءته وتشخيص قدراته اللغوية في التماهي والتعاطي مع مفردات العصر، كحرية الرأي والمعتقد وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية واحترام الآخر، مضيفاً بذلك حلقة جديدة في سلسلة كتاباته ومؤلفاته التي تدور في فلك ذات المعنى، محاولاً وبالدليل العقلي والمنطقي استدعاء ما هو مضيء من التُراث وإلباسهُ ثوب الحداثة.. فجاءت المقدمة وبحق تعبيراً عن تلك التجليات والرؤى التي اشتغل ويشتغلُ عليها الباحث الروازق منذُ أكثر من عقدين من الزمن، محاولاً بسعيه الدؤوب سحب التراث الى ملعب الحداثة وإعادة احياءه وتنظيفه من الشوائب التي ألصقها السلفيون والمستفيدون به،.. مستفيداً من التراث وبعض شخصياته لاعتبارات قدسية وروحية، لإثبات صحة تلاقح التراث مع المعاصرة وتسويق افكاره التنويرية الحساسة جداً والجريئة جداً عبر هذه القنوات المعرفية.
إن هكذا اسلوب يتطلب دقة ودراية بالتأريخ وإحداثه، وقراءته قراءة جدلية متحركة وهذا ما شكل سمة مميزة ومتميزة في معظم مؤلفاته التي حملت اسماء مهمة من التاريخ الإسلامي والعربي، مثل الدكتور الوردي انموذجاً، الحسين يكتب قصته الأخيرة، نصوص نهج البلاغة، احمد الوائلي، وأخيراً كتابه الجديد الذي يحمل اسم الفقيه العربي آية الله الشيخ محسن خنفر، متخذاً منه إطاراً للصور التي يرسمها كيفما يشاء وشكلاً وقناعاً للمحتوى المراد تسويقه للقارئ.
فما ان هدأ الجدل والحوار عن طبيعة الإشكالية التي أثارها الباحث صادق الروازق عن الديمقراطية والدين في كتابه السابق (مقاربات إصلاحية في فهم الدين والذات.. الدكتور الوردي إنموذجاً) حتى فاجئنا بأشكال أخرى أكثر سخونة عن الإسلام الفقهي وإسلام الشريعة في كتابه الجديد بصفحاته الـ(286) وفصوله الـ(4) مستعرضاً فيه (سوسيولوجيا الزعامة) وتقاربها بقدر ما مع شخصية الفقيه العربي الشيخ (محسن خنفر) بأسلوب سلس ولغة اعتمدت ذاكرة التأريخ متجنباً الأساليب النمطية في كتابة أدب السيرة بآلية السرد والنقل لتفاصيل حياة الشخصيات ويومياتهم المنتقاة من بطون كتب التأريخ، إنه يحاكي شخصياته بآلية الجدل وروح الحداثة ويستدعيها بلغة العصر ويجادلها بمنطق الحاضر، فلا يقينيات ثابتة ولا نصوص فقهية خارج التأريخ، فالنصوص لدى الباحث الروازق تُبنى بلغة إحتمالية قائمة على المجاز والتأويل بما ينسجم ومعطيات العصر التكنولوجية وعصر الفضاء والإنترنت وهندسة الجينات، لغة لا تتنفس هواء الغرف المظلمة ودهاليز صناعة الفتوى المحرّضة للقتل والتكفير، هذا هو الاسلوب الذي اشتغل عليه الكاتب والباحث الروازق في كتابه الجديد حتى يستدعي شخصياته من التاريخ ومزج بها إلى مسرح الحياة المزيّنة بديكورات الحداثة كما فعل مع الشيخ محسن خنفر، حسب منطق الديالكتيك في قراءة الظواهر والنصوص، متحفظاً على النصوص الفقهية التي ما زالت تراوح خارج حركة التأريخ بإرادة السلفيين الذين يستفزهم الخضوع لإرادة منطق التاريخ على خلاف منهج الباحث الروازق الذي تعود في كل بحوثه ودراساته أن يخوض غمار الجدل والصراع في أكثر المواضيع دقة وأبلّغها خطورة في قراءة ونقد النص الفقهي وتفكيكه علمياً وموضوعياً حتى اكتشف غربته وغربة (صاحبي في هذا السفر) أو كما يقول في مقدمته (خمسون عاماً وأنا أفتش بين رجال الدين عن علي بن أبي طالب، فلم أجده!!!)
إن الكاتب تقدم خطوات على جرأته التي ألفناها في بحوثه ومؤلفاته السابقة معتمداً ذات المنهج العلمي في التحليل والموضوعية التي اشتغل عليها الباحث في مؤلفاته (محنة شعب – سوسيولوجيا الدين والسياسة) (الحسين يكتب قصته الأخيرة) (أخلاقية الحوار) (مقاربات إصلاحية في فهم الدين والذات) رُبما يسأل سائل عن طبيعة الجراءة والأسلوب الذي تميز به الكتاب عن سابقاته من المؤلفات.
عن هذا الكتاب تحديداً تعامل الباحث الروازق مع منظومة الجزيئات التي تشكل البنية الحضارية للشعوب ببناءها الفوقي المتمثل بالتشريعات والقوانين والفتاوى، والبُنى التحتية ممثلة بالصناعة والخدمات، تعاملاً كليّاً وأيّ خلل أو نكوص سيترك أثراً سلبياً على بقيّة عناصر الخلق الحضاري ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً واجتماعياً. مما ينتج لنا أزمات وانهيارات في بنية الحياة الاجتماعية فتخلى البعض من رجال الدين عن مهامهم الارشادية (وانخراط الكثير منهم في عالم السياسة مما أودى الحال – بالعراق – من تعطيل مرافقه الحياتية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، حتى باتت الأخيرة من أشد المخاطر انتهاكاً لحرمة الرابطة العائلية) إن هذه الإشارة الجريئة والصريحة الواردة في مقدمة الكتاب تشير بكل وضوح إلى رجل الدين الذي استبدل العمامة بقبعة السياسة وجعل من التفسير المبتسر للنص الديني أداة يبتز بها خصومه إن لم يكفرهم علناً وهذا سيؤدي إلى (حدوث أزمات كبيرة وكثيرة) مثلما (أن بعض الاجتهادات الفقيه تقف حائلاً أمام وحدة المجتمع وتماسكه، فليس من المعقول وفي بلد مثل العراق وما فيه من تعدد الديانات والطوائف والمذاهب، ان نجد في منظوماتها الفقهية وبالأخص (السنية والشيعية). فقهاً اقصائياً، الغائياً، تكفيرياً) ويواصل الكاتب نشر جرأته على صفحات الكتاب عمودياً وأفقياً فاضحاً كل أشكال الخراب والفوضى التي تتناسل في مؤسسات الدولة العلمية مفككاً ظواهر الخراب وأسبابها ونشوئها، فأنا كقارئ دُهشت وصُدمت (أن تنحى جامعة الكوفة العلمية الأكاديمية (الرسمية) مسار فقه التفريق والدخول في الصراعات الطائفية ومحاكمة أحداث التأريخ بشخوصه وهي سابقة خطيرة شهدتها صروح هذه الجامعة) وبكلفة قدرها (56) مليون دينار عراقي ولا تعليق لي سوى ما ورد في مقدمة الكتاب (هي محاولة لتعطيل حركية العقل والإنابة بالتكفير ويختم الباحث صادق الروازق كتابه قائلاً (هكذا فقه عند المدرستين السنية والشيعية لا يمكن له أن يبني مجتمعاً إسلامياً متماسكاً، ولا يمكن له ان يُشاع فيه الاستقرار والأمن) (إن بناء الدولة الحديثة لا يمكنها الاعتماد على الاجتهاد ذات الفقهية المتعدّدة).
قراءة بقلم الأديب: قاسم شاتي