قراءة في كتاب

جوزيف بيرن والموت الأسود (1)

محمود محمد عليفي 2015 م أصدر مشروع "كلمة" للترجمة التابع لهيئة أبوظبى للسياحة والثقافة كتاب جديد بعنوان "الموت الأسود" للمؤلف جوزيف بيرن، وترجمه إلى العربية عمر الأيوبى، ويأتى الكتاب ضمن سلسلة الحياة اليومية عبر التاريخ التى تتألف من 10 عناوين.

يتحدث الكتاب عن الحياة اليومية في أثناء تفشي الطاعون أو ” الموت الأسود ” في أوروبا بين سنتي 1348 و1722 حيث تعرضت أوروبا لهجمات الأوبئة المنتظمة التي أعملت فيها الفتك والقتل دون هوادة. ويشير الكتاب الى تاثير الطاعون على المجتمع ابتداء من العلاقات داخل الأسر إلى الهيكل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي . وينهي الكتاب بإلقاء نظرة وثيقة على طاعون مرسيليا (1720 – 1722) آخر تفش رئيسي للطاعون في أوروبا الشمالية والاختراقات التي حققتها الأبحاث في نهاية القرن التاسع عشر وأدت إلى هزيمة الطاعون الدبلي في نهاية المطاف. وجوزيف بايرن أستاذ مشارك للتاريخ الأوروبي في جامعة بلمونت ـ ناشفيل بولاية تنيسي أجرى العديد من الأبحاث ونشر الكثير من المقالات في مختلف الموضوعات من الأضرحة الرومانية إلى العمران الأمريكي غير أنه متخصص في إيطاليا في حقبة الموت الأسود.

فى هذا الكتاب، يجمل جوزيف بيرن مسار الجائحة الثانية، وأسباب الطاعون الدبلى وطبيعته، ووجهة النظر التنقيحية حيال حقيقة الموت الأسود. ويعرض ظاهرة الطاعون بحسب الموضوعات بالتركيز على الأماكن التى عاش فيها الناس وعملوا وواجهوا الأهوال فى البيت، والكنيسة والمقبرة، والقرية، ومشافى الطاعون، والشوارع والطرقات.

ويقود القارئ إلى صفوف كليات الطب التى تدرّس فيها النظريات الخاطئة بشأن الطاعون، وعبر مهن الأطباء والصيدلانيين الذين حاولوا معالجة الضحايا من دون جدوى، إلى مبنى البلدية ومجالسها التى سعى قادتها للتوصل إلى طرق للوقاية من الطاعون ومعالجته.

كما يبحث الأدوية، والأدعية والصلوات، والأدب، والملابس الخاصة، والفنون، وممارسات الدفن، والجريمة التى تفشّت مع تفشى الوباء. ويقدّم بيرن أمثلة حيوية من جميع أنحاء أوروبا ويعرّج على العالم الإسلامى أيضاً، ويعرض نصوصاً لشهود عيان وللضحايا أنفسهم حيثما أمكن. وينهى الكتاب بإلقاء نظرة وثيقة على طاعون مرسيليا (1720 – 1722)، آخر تفشّ رئيسى للطاعون فى أوروبا الشمالية، والاختراقات التى حققتها الأبحاث فى نهاية القرن التاسع عشر وأدّت إلى هزيمة الطاعون الدبلى فى نهاية المطاف.

والجدير بالذكر أن جوزيف بايرن أستاذ مشارك للتاريخ الأوروبى فى جامعة بلمونت، ناشفيل، ولاية تنيسى، أجرى العديد من الأبحاث ونشر الكثير من المقالات فى مختلف الموضوعات، من الأضرحة الرومانية إلى العمران الأميركى، غير أنه متخصص فى إيطاليا فى حقبة الموت الأسود، من كتبه "موسوعة الطواعين والأوبئة والجوائح" وموسوعة "الموت الأسود" وذلك حسب قول بلال رمضان في مقاله باليوم السابع بعنوان "كلمة" يصدر "الموت الأسود" لجوزيف بيرن عن "مرض الطاعون".

وفي هذا الكتاب جوزيف بيرن يقول أنه مع تقدم القرن الحادي والعشرين، نجد أنفسنا في عالم يتهدد المرض معظم قاطنيه، ففي دول أفريقيا المتخلفة نسبيا كما يقول جوزيف بيرن في كتابه الموت الأسود، يوقع الإيدز والملاريا وفيروس إيبولا الغريب كثيراً من الضحايا، ويبدو أن قلة قليلة لديها حصانة تامة . وفي امريكا وأوربا الأوسع ثراء بكثير من أفريقيا والأكثر تقدماً تقنياً، يخشي الناس بحق مرض القلب، والداء السكري، والسرطان . وظهرت في كل أنحاء العالم سلالات جديدة من الإنفونزا، وفيروس العور المناعي البشري – الإيدز وسارس، ويبدو أن الجميع معرضون للهجمات الإرهابية بالعوامل البيولوجية مثل الجمرة الخبيثة والجدري وكورونا . وتشكل كثير من الميكروبات والظروف النفسية تهديدات للصحة البشرية.

وعلى مدار التاريخ شهدت دول كثيرة من العالم،، تفشى عدد كبير من الأوبئة داخل الحدود الإيطالية حصد الكثير من الأرواح، ومن بينها طاعون جستنيان أو وباء جستنيان (541-542 م، وتكرر حتى 750) وباء أصاب الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وخاصة عاصمتها القسطنطينية، وكذلك الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله، حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون.

يعتقد بعض المؤرخين أن طاعون جستنيان كان أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، وأنه أدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 25-50 مليون شخص خلال قرنين، وهو ما يعادل 13-26٪ من سكان العالم في وقت تفشي المرض لأول مرة. تمت مقارنة التأثير الاجتماعي والثقافي للطاعون بتأثير الموت الأسود الذي دمر أوراسيا في القرن الرابع عشر، لكن بحثًا نشر في عام 2019 جادل بأن عدد وفيات الطاعون والآثار الاجتماعية مبالغ فيها.

ويرجح أن طاعون جستنيان بدأ في التفشي انطلاقا من صعيد مصر، ومن ثم انتقل حتى وصل القسطنطينية (اسطنبول التركية حاليا) المدينة كانت تستورد كميات كبيرة من الحبوب من مصر لإطعام سكانها، السفن التي كانت تنقل الحبوب قد تكون أيضاً نقلت العدوى، من خلال تلوث صوامع الحبوب في المدينة بالفئران والبراغيث التي تحمل المرض

وقد سجل المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس أنه في ذروته، كان الطاعون يقتل ما يصل إلى 10،000 شخص يوميا في المدينة، على الرغم من أن هذا الرقم لا يمكن التحقق منه والأرقام الحقيقية لن تعرف أبدا. ما هو معروف أنه لم يوجد ما يكفي من الوقت أو المكان لدفن الجثث لكثرتها . كانت الإمبراطورية البيزنطية في حالة حرب مع الوندال في منطقة قرطاج، مع القوط الشرقيين في شبه الجزيرة الإيطالية ومع الإمبراطورية الساسانية. كما بذلت جهود اقتصادية كبيرة لبناء الكنائس الكبيرة مثل كنيسة آيا صوفيا، وجاء الطاعون ليخلف آثارا كارثية على الاقتصاد من خلال انخفاض الإيرادات من الضرائب، مما تسبب في صراعات داخلية خطيرة وتسبب في نهاية المطاف في انسحاب الجيش البيزنطي من إيطاليا عندما تقريبا كان قد سيطرعلى شبه الجزيرة بأكملها.

وقد أستمر انتشار الوباء على طول موانئ البحر الأبيض المتوسط، مرورا بالأراضي الأوروبية، ووصل في الشمال إلى الدنمارك وفي الغرب إلى أيرلندا، وأوقف خطط جستنيان لاستعادة الإمبراطورية الرومانية الغربية وسمح بالغزوات التي كانت تشنها القبائل البربرية والتي ستتشكل منها فيما بعد ممالك ودولا جديدة، واستمر تفشي الوباء بشكل محلي ومتفرق حتى حوالي العام 767 م، من بين الضحايا المهمين لهذا الوباء البابا بيلاجيوس الثاني الذي مات سنة 590 م.

الجائحة الثانية – الموت الأسود والذي يركز عليه جوزيف بيرن في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والتي كما يقول بيرن: ضربت العالمين الإسلامي والمسيحي ما يزيد علي ثلاثة قرون، وانحسرت عن أوربا في أواخر السابع عشر، لكنها مكثت في شمال أفريقيا والشرق الأدني حتي وقت متقدم من القرن التاسع عشر .وقد شهدت كل المناطق في هذه الفترة أهوال الطاعون مرة كل عقد من الزمان تقريبا . وفي حين أن الأوبئة تظهر في الربيع عادة وتشتد في الصيف، وتنحسر في الخريف والشتاء، وربما تعاود الظهور في الربيع القادم، فإنها يمكن أن تفرض حصاراً علي السكان عدة سنين في كل مرة، لم ينج منها أي جيل كما يقول جوزيف بيرن في كتابه الموت الأسود، ومن تجنبوا الإصابة بالمرض أو نجوا من ويلاته، كما هو حال الكثيرين، فإنهم شهدوا المحن التي أصابت أصدقاءهم وأحباءهم . كما كان علي الجميع أن يتحملوا في زمن الطاعون الكثير من البلايا من القيود القانونية إلي الإنهيار الاقتصادي المحلي، ومن الهجوم علي المرضي والمحتضرين المتناثرين في الشوارع إلي الخوف من أن يأتي عليهم الدور .

ويستطرد بيرن فيقول: تفشي الطاعون في وقت ما في ثلاثينيات القرن الرابع عشر من موطنه المعزول في أراضي آسيا الوسطي الشاسعة، ومع أنه ربما انتشر شرقاً في الصين وجنوبا في شبه القارة الهندية، فإن السجلات الواردة في هذه المناطق لا تخبرنا إلا بالقليل كما يقول جوزيف بيرن في هذا الكتاب الذي بين أيدينا .

ثم يؤكد بيرن فيقول: بيد أن المرض انتقل شرقا من دون شك كما يقول جوزيف بيرن في كتابه الموت الأسود، وظهر في المناطق الشرقية من العالم الإسلامي في أواسط أربعينيات القرن الرابع عشر، وامتد إلي الجنوب الغربي حول البحر الأسود أو عبره، فضرب القسطنيطينية والأطراف الغربية للبحر المتوسط في أواخر سنة 1447م، وفي ذلك الوقت بدأ المسلمون والمسيحيون يسجلون ما عرفوه عن منشأ الطاعون ومساره المبكر، والأهوال التي لم يعودوا راغبين في أن يشهدوها .

ثم يؤكد فيقول انتقل الوباء مع التجار والقوافل والجيوش والحجاج والبعثات الدبلوماسية وعلي متن السفن المحملة بالبضائع والمسافرين من موانئ المناطق التي ضربها الطاعون،فتفشي في صقلية ومرسيليا وبيزا وجنوا والإسكندرية .. وعبر إلي المناطق الداخلية علي متن القوارب والصنادل علي طول الممرات المائية، وعب متن العربات في الطرقات ودروب الجياد وعلي حيوانات الحمل . واجاز جبال الألب والبيرينيه والأبنين والبلقان، والقناة الإنجليزية وبحر الشمال، ووصل في نهاية المطاف إلي السهول الكبري في أوربا الشرقية والمدن الروسية في حوض نهر الدون وموسكو نفسها .

وقد وصف شهود عيان كما يقول جوزيف بيرن في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، تطور المرض بين الناس وفي المجتمعات، ومعاناة الضحايا والناجين علي حد سواء، والخراب الاقتصادي والاجتماعي الرهيب الذي خلفه الطاعون بعد انحساره، وسجل الرحالة والأطباء والموظفون المسلمون الدمار الذي حل في المدن الإسلامية من بغداد إلي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والأندلس، ويبدو أن قليلاً          من الجيوب المعزولة نجت، وربما مات في النهاية أربعة من بين كل عشرة أشخاص، وأصيب آخرون  بالمرض لكنهم عاشوا، وربما اكتسبوا بعض المناعة خلال هذه العملية، وفي النهاية فقط العالم العربي (كما يقول جوزيف بيرن) نحو 35 مليون نسمة، سقط معظمهم في غضون سنتين.

تضرع الأتقياء والتقيات، وقدم كالهنة والأطباء الرعاية للمرضي والمحتضرين، وانتقد الأساقفة خطايا البشر التي أغضبت الرب واستنزلت سخطه المتمثل في الطاعون، وبدع انحساره تاب قسم من الناس، واستغل آخرون الضعفاء بلا رحمة، وتنفس الجميع الصعداء بانتهاء البلوي . لكن أهوال الفترة الممتدة بين سنتي 1347 و 1352م  لم تكن إلا البداية فحسب، ومع أن الطاعون لم يصل ثانية البتة إلي هذا الحد من الانتشار والفتك، فإنه ظل يتفشي كل عشر سنين تقريباً، وان الوفيات تراوحت بين 10 و 20 بالمئة بدلاً من 40 أو 50 بالمئة . ويبدو أن الموت كان أشد فتكاً بالفتيان من البالغين، وبالنساء من الرجال، مع أنه لم يكن أحد يتمتع بالمناعة . وقد أدي هذا الوضع إلي عدم تزايد السكان لمدة قرن ونصف القرن، لكنه حث أيضاً علي إدخال العديد من التغييرات علي السياسة العامة التي ترمي إلي التقليل من احتدام الطاعون – أو حتي الوقاية منه . وتراوح ذلك  من تحسين المرافق الصحية والرعاية الصحية إلي الحجر الصحي والإنذار المبكر، وتكيف الحكومات المحلية والملكية مع النظام الجديد الذي يتكرر فيه تفشي الوباء . حاولت مهنة الطب كما يقول جوزيف بيرن في كتابه الموت الأسود أيضاً التعامل مع المرض أيضاً، لكن نظرياتها ومعالجاتها كانت قديمة بالفعل وعديمة الجدوي، ومع ذلك واصل كل جيل ثقة في الأطباء وأنظمتهم الغذائية وأدويتهم وتدابيرهم، وعلي الرغم من فشل رجال الدين في درء غضب الرب، فقد واصل الناس ثقتهم أيضاً في المسيحية والإسلام كما يقول جوزيف بيرن في كتابه الموت الأسود، وللإصلاح الديني الذي أدي إلي انقسام الكاثوليكية في أوائل القرن السادس عشر جذور عميقة في الاستياء الذي أعقب الطاعون، لكنه لم يتطور إلا بعد مرور قرن ونصف القرن علي تفشي الوباء لأول مرة، ولا شك في أن الروتستنت الأوائل سعوا إلي تنقية الدين وكنيسته لا الحلول محلها كما يقول جوزيف بيرن في هذا الكتاب الذي بين أيدينا ... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

 

في المثقف اليوم