قراءة في كتاب

خطاب ابن المقفع بين الأدب والفلسفة

عصمت نصارتباينت رؤى النقاد القدماء والمحدثين حول كتاب «كليلة ودمنة» لعبدالله بن المقفع (نحو ٧٢٤ - ٧٦٢ م) فشكك بعضهم فى نسبة هذا الكتاب لمؤلفه، وراح نفر منهم يجمع بين الأقاصيص من التراث الهندي والفارسي مثل التى أوردها المؤلف فى كتابه لإثبات تأثره بها، وانتهوا إلى أن دور ابن المقفع ينحصر فى جمعها وإجراء بعض التعديلات فى صياغتها وسردها لتوائم مع الثقافة العربية الإسلامية، وراق لفريق ثالث ولاسيما من المستشرقين التأكيد على أن الكتاب - فى مجمله - يعبر عن آراء ابن المقفع السياسية والأخلاقية التى كان يخشى التصريح بها فى أيام أبى جعفر المنصور (ت ٧٧٥م) الذى اتسم بالشدة والعنف تجاه الكتاب والمبدعين والحكماء والفقهاء أيضًا، وذلك لحماية دولته الفتية، وقد ذكر أحمد أمين - الذى انتصر لهذا الرأى - ذلك بالتفصيل فى كتابه (ضحى الإسلام) مبينًا أثر هذا العمل فى الأدبين العربى والفارسي، والذى يعنينا فى هذا المقال هو الكشف عن تلك الآراء النقدية ذات المسحة الفلسفية التى ضمنها ابن المقفع فى كتابه «كليلة ودمنة»، الذى يُعد من بواكير الكتابات الأدبية التى ارتدت الثوب القصصي الملغز اتقاء لغضبة السلطات القائمة، سواء كانت سلطة الحاكم أو العقل الجمعى التابع (الجمهور) وسوف نشير - فيما بعد - إجمالًا لإبداعات ابن المقفع وصنعته فى بناء الشكل القصصي ليتناسب مع الواقع المعيش آنذاك واجتناب السلطات المهيمنة على الرأى العام.

وجدير بالذكر فى هذا المقام أننا لا نجد أشهر من قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل وكتابات أبى حيان التوحيدي ولاسيما كتابه «الامتاع والمؤانسة» وما ورد فى رسائل «إخوان الصفا» سيرًا على هذا الدرب، فجميع هذه الأعمال اتخذت من الحكي القصصي وعاءً لحمل آراء أصحابها الأخلاقية والسياسية والتربوية والاجتماعية والعقدية والفلسفية، أما فى العصر الحديث فنجد أحمد فارس الشدياق فى كتابه «الساق على الساق»، ورفاعة الطهطاوي فى ترجمته لكتاب فينليون «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك» ومسامرات «علم الدين» لعلى مبارك، وكتاب «الفضيلة» لبرنار دين سان بير الذى عربه مصطفى لطفى المنفلوطي، وكتاب «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، وحكايات يعقوب صنوع، وأزجال عبدالله النديم الساخرة، و«مذكرات الشيخ حسن الفزارى» للشيخ مصطفى عبدالرازق، ناهيك عن الكتابات القصصية لطه حسين ومحمد حسين هيكل ويحيى حقى ونجيب محفوظ، فجميع هذه الأعمال جمعت بين الأدب والفلسفة واللهو والحكمة والتبكيت أيضا، وكان مقصدها هو النقد والتقويم والإصلاح.

ويأمل كاتب هذه السطور أن يضطلع أحد الباحثين الشبان بوضع دراسة مقارنة بين هذه الخطابات مجتمعة للكشف عن نسقيتها وأثرها فى الثقافات التى نشأت فيها، بالإضافة إلى المسحة الفلسفية التى شكلت بنيتها وصبغت بناءها.

والجدير بالذكر أن ابن المقفع قد أفصح فى غير موضع من الكتاب (أى كليلة ودمنة) عن مقاصده من سرده لهذه الأقاصيص التى حواها الكتاب وجاء معظمها على لسان الحيوانات والطيور، فى ثوب أدبى رفيع وفى لغة أقرب إلى الرمزية والألغاز منها إلى السرد القصصي المباشر.

فها هو ينبه القارئ إلى ضرورة إمعان النظر للتميز بين القشر واللباب، أى بين القالب القصصي وأسلوب الحكي وتلك الحكم العاقلة والرؤى الموجهة الكامنة فى صلب القصص التى تنشد الإصلاح للراعي والرعية، وذلك بقوله: «ينبغى للناظر فى كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزويقه، بل يدقق ويتأمل ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهى منه، ويقف عند كل مثل وكلمة، ويعمل فيها رويته... ويديم النظر فيه من غير ضجر (أى فى النص والتراكيب والأحداث)، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أنه نتيجة الأخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور: فينصرف بذلك عن الغرض المقصود... كما ينبغى للناظر فى هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان (أى للتسلية والترويح عن النفس) فتستمال إليه قلوبهم، والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأطباع والألوان، ليكون آنسًا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة فى تلك الصور (أى للمتعة والمسامرة)، والثالث أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فُيخلق على مرور الأيام (أى يستمر)، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدًا (أى رواة القصص والحكايات)، والغرض الرابع، وهو الأقصى (أى البعيد الغامض)، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصته».

وقد عقب مفكرنا أحمد أمين على هذا المقصد الأخير بقوله: «إن ابن المقفع قد سكت عن هذا الغرض الرابع ولم يبينه وهو - من غير شك - وهو (الإحالة والإشارة والرمز) غرض ابن المقفع من ترجمته (لكتاب بيدبا حكيم الهند المزعوم) والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه: فى أنه النصح للخلفاء حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، وحتى يطالبوا بتحقيق العدل، ولم يوضحه ابن المقفع لأن فى إيضاحه خطرًا عليه من الخليفة أبى جعفر المنصور (مؤسس الدولة العباسية)، ولعل هذه النزعة كانت من الأسباب للإيعاز بقتله».

من هزل الأقاصيص إلى خصال الحكام :

لم يترك لنا ابن المقفع مصنفًا قصصيًا مفعم بالحكايات الرمزية المستندة إلى الإشارة والإحالة، ولم يضع – فى كتابه كليلة ودمنة – ذلك الخطاب السردي الشاغل بالحكايات المتعاقبة المتداخلة فحسب، بل ترك لنا أيضًا العديد من التصورات والرؤى خلال الحكي لحماية إيماءته النقدية التوجيهية الإصلاحية، وسوف نتناول هذه الرؤى والنظريات تبعًا لأهميتها، ويبدو أولها فى:

مركزية البطل:

فقد ذهب ابن المقفع إلى أن صلاح الحاكم يؤدى حتمًا إلى صلاح المجتمع وليس العكس، لذا نجده يؤكد على ضرورة تمتع الحاكم بقدر كاف من العقلانية والأريحية والوعى والأناة والحنكة والحكمة والنظرة الناقدة لتقييم الأمور والحكم عليها، وانتقاء النافع من الأفكار وانتخاب الأصلح من الرجال ليخصهم بمعيته ويستعين ببعضهم فى تسييس أمور دولته، وذلك كله بمنأى عن الأهواء والأنانية والتسلط والاستبداد، وقد حث فى غير موضع من حكاياته على أهمية صلاح حاشية الملك وإخلاصهم له فى النصح عند المشورة ونزاهتهم وعفتهم وورعهم وغير ذلك من الفضائل العملية التى تحول بينهم وبين الفساد بكل ألوانه وأشكاله، فها هو ابن المقفع يجعل من «دبشليم ملك الهند وبطل أحدى أقاصيصه» نقطة الانطلاق، فهو علة ظهور الكتاب وما فيه من قصص على ذلك النحو القصصي الجامع بين الهزل والجد، الأمر الذى يبرر حرصه على تضمينه العديد من قصصه عدة نصائح للحاكم بوجه عام لتحميه من الزلل والانقياد للأهواء أو الإصغاء لأهل الشر من المخادعين والمحتالين، وهو أيضًا – أى الملك أو الرئيس بطل كل أقاصيصه ومسير كل الأحداث بداية من قصة أسد الغابة إلى نهاية حكاياته- فيقول فى قصة « الأسد والثور» عن خطر اللئام فى معية السلطان: «إن اللئيم لا يزال نافعًا ناصحًا حتى يرفع إلى المنزلة التى ليس لها بأهل، فاذا بلغها التمس ما فوقها، ولاسيما أهل الخيانة والفجور: فإن اللئيم الفاجر لا يخدم السلطان ولا ينصح له إلا من خوف، فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره، كذيل الكلب الذى يربط ليستقيم فلا يزال مستويًا ما دام مربوطًا، فإذا حُل انحنى واعوج كما كان، واعلم أيها الملك أنه من لم يقبل من النصيحة ما يثقل عليه مما ينصحون له به، لم يحمد رأيه، كالمريض الذى يدع ما يبعث له الطبيب، ويعمد إلى ما يشتهيه، وحق على أعوان السلطان أن يبالغوا فى حثه على ما يزيد سلطانه قوة ويزينه، والكف عما يضره ويشينه، وخير الأعوان أقلهم مداهنة فى النصيحة، وخير الأعمال أحلاها عاقبة، وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، وأشرف الملوك من لم يخالطه الحاقدون والناقمون، وخير الأخلاق أعونها على الورع».

ثم يضيف ابن المقفع على ما تقدم نصحًا شارحًا لمأربه وموجزًا لفكرته وذلك بقوله: «إن السلطان إذا كان صالحًا، ووزراؤه وزراء سوء، منعوا خيره، فلا يقدر أحد أن يدنو منه، ومثله فى ذلك مثل الماء الطيب العذب الذى تسكنه التماسيح: لا يقدر أحد أن يتناوله من الظمئ، وإن كان إلى الماء محتاجًا».

ويرى ابن المقفع أن أسوأ الحكام هم الذين تمكن منهم الحمق وقادهم إلى الصلف والاستبداد وعدم الإصغاء إلى النصح والمشورة، كما أن الحاكم الجائر هو الذى صورت له نفسه بأنه أعلى مقامًا وشأنًا من رعيته، ومن ثم لا يحق لهم مراجعته أو مطالبته بشيء لم يمنحه لهم وقد وعدهم به، أو سؤاله عن أمور لم يفصح عنها، رغم ذلك فيرى ابن المقفع أن السبيل لعلاج هذه السمات والصفات الذميمة هو التقويم عن طريق نصح الحكماء والمصلحين من قادة الرأى فى الرعية، فمن الواجب عليهم فى كل عصر أن يبصروا الحاكم بأخطائه وزلاته وسقطاته ومواطن الخطأ والخطر فى قراراته ومواضع الفساد والخلل فى حاشيته ومؤسساته ووزرائه وعماله.

ويقول: «الواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء، والواجب على الحكماء تقويم الملك بألسنتهم وبالأسلوب اللائق بمخاطبتهم وتأديبه بحكمتهم وإظهار الحجة البينة اللازمة لإقناعه ليرتدع عما فيه من اعوجاج والخروج عن العدل» ويقول فى موضع آخر فى قصة (البوم والغربان) « من لم يستشر النصحاء والأولياء، وعمل برأيه من غير تكرار النظر والروية، لم يغتبط بمواقع رأيه ومآله وعواقبه».

ويفاضل ابن المقفع بين الملوك والحكماء ساعيًا إلى الإعلاء من قدر الفلاسفة والعلماء وتحميلهم فى الوقت نفسه مسئولية حماية الأمة من جنوح الحكام واستبداد الراعي من جهة وغشاوة جهل الرعية وسكوتها على الجور إذا حل من جهة أخرى، فأصحاب الرأى عنده أعلى مقامًا من الولاة والوزراء والمنوطين بحفظ النظام والأمر والنهي، كما أن صاحب الجوائب على ألف سؤال أغنى مما اكتنز المال، ويقول: «إن كان للملوك فضل فى ممالكها فإن للحكماء فضلًا فى حكمتها أعظم: لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال، وقد وجدت العلم والحياء ألفين متآلفين لا يفترقان: متى فقد أحدهما لم يوجد الآخر... ومن لم يستح من الحكماء ويكرمهم، ويعرف فضلهم على غيرهم، ويمنعهم عن المواقف المذلة، وينزههم عن المواطن الرزلة كان ممن حرم عقله، وخسر دنياه، وظلم العلماء حقوقهم، وعد من الجهال».

وينتقل ابن المقفع إلى الخصال التى ينبغى للحاكم أن يتحلى بها، وهى فى مضمونها أكثر نفعًا - فى عصرنا - من تلك التى وضعها المتكلمون والفقهاء وكتاب الآداب السلطانية كشروط لصحة الإمامة، وقد أورد ذلك فى سياق حكايته عن كسرى انو شروان ملك فارس فبين أن رجاحة العقل وسعة الدراية والعلم، وسداد الرأى والسعي لتحقيق المصلحة والمنفعة العامة.

ومن أقواله فى ذلك: «إن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذى يخاف من عدم تحمله ويؤدى إلى الشدة المهلكة على نفسه وقومه، لم يخرج من شدة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه حسن العاقبة، وكثير الخير، فلم يجد لذلك ألمًا» ومن خصال الحاكم البطل أيضًا تقدير العلماء والحرص على صحبة الحكماء، بالإضافة إلى حماية الحقوق والانتصار إلى العدل، والشدة فى مكافحة الفساد، والقوة فى حفظ الأمن، والرغبة الصادقة فى تفشى روح السلم والمودة والرخاء بين الرعية، وأكد - ابن المقفع - أن أخس وأشر الحكام هو الكذوب المخادع، وأحكمهم هو الكتوم الذى لا يفشى أسراره لأهل النميمة واللجاجة وأسافل الناس، كما ينبغى للحاكم أن يحصن أموره من أهل الإفك والفجور، ولا يطلع أحدًا على مكنون سره.

وقد تأثر معظم الفلاسفة الذين اضطلعوا بتوضيح مقاصد السياسة الشرعية وصفات الحاكم الأساسية والآداب السلطانية بهذه الآراء، نذكر منهم: الماوردي وابن حزم والغزالي وابن الأزرق وغيرهم.

وللحديث بقية عن آراء ابن المقفع الأخلاقية

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم