قراءة في كتاب

جاسب المرسومي: دراسة في (قراءات في دفتر الجنون)

جاسب المرسومياصدارات تتجدد في طياتها روح التكوين والمدارس الأدبية المفعمة بالانطلاقة والتحرر من قيود الإفراط في النمط المتبع في كل لون أدبي له أساسيات بني عليه ذلك اللون الذي يحاكي الحب والوطن .

في القراءات الجديدة التي أصدرها الشاعر عباس باني في كتابه الأخير  (قراءات في دفتر الجنون) نرى صورة لمجموعة مدارس ربطت بين الحاضر والماضي لنمط شجاع تحرر من قيوده فانطلق نحو مدرسة كان قد وضع لها قداسا جديدا جامع بين الحداثة والقدم .

في جسد الشاعر شخصيتين، الأولى المستقرة اجتماعيا حسب ما يظهر والمتكيفة في ضلال عدم الحاجة، والتي لها القدرة في الوصول الى ما تبغي لكنها لا تنعكس ماديا مترفة على ضلال الأخرى المتعلقة في الجسد ذاته، وهي الشخصية ذات الجوف الدامي والأنا الباكية لجروح ذاكرتها القديمة والعميقة التكوين تلك التي تنزف الكلمات بإيقاعات مبنية على ذاكرة الزمكان المتفاوتان في آنيهما .

(حين تكون الطفولة مازالت عالقة بالحبل السري للزوال

.. المطر يبكي فراقه لعلو الغيوم).

ولم تتمكن الروح في الشخصية الأولى القضاء على القلق الدائم المبيت أرقه في حصارات على شبابيك الأنا المزدوجة والمزدحمة والتي لطالما استسلمت رغم محاولات الانفلات والهروب من غربتها كأنها تعشق ما تكنه الذاكرة المبطنة لتعيدها في منظور يتطور في صوره كلما كثرت كتابات عباس.

(متعلق بغرقي بكف المجهول الذي استطال الى همس الجنون).

وهنا في (قراءات في دفتر الجنون) يبحث عباس عن مخرج لانطلاقة يحاول فيها إدراك كل الكينونات المقيدة في كتاباته المختزلة لتلك الكينونات التي وضعت الإشراط والجزم والتجزر كأنها تشبه حصار أناته الذي ما انفك قائما، محاولا إدراك ذواته تماما في حرية مطلقة وصل فيها الى إرضاء كامل لما حبلت به الذاكرة النشطة للزمكان المنقرضان، والذي ولد جديدا بصياغة حديثة مبنية على قدسية الأنا المنصهرة في بودقة التحديث لعولمة الكاتب والذي يتحدث عن حاضر غائب في ضمير الأنتظار لحلم قد لا يتجاوز جملا على ورق أرادها أن تكون طويلة تعطي كل تصوراته مشبعة في انتظار الغائب .

(كي ارتقي سلالم النور على جسدي الباحث عن حرية الاختيار

ارمي صمتي بزجاج النوافذ لأرسم صورتك بكل الألوان

تضوع روحي بأنفاسك واسقط بين كفيك بريئا في صلاة الأسفار

أعرف انك لن تعودي وبانك ستأتين قبل موعد الانطفاء

سأنتظر ... سأنتظر).

وفي حافات أخرى للنصوص المفعمة بالتأله

(أصادق الأنبياء والمجانين والعشاق والثوار).

فهذه الفئات الأربعة تشكل عند عباس باني رموز إلاهية، هي تلك التي تتصف بكل صفات المنطق الذي لا يشبه الآخر، وهي الحقيقة في واقعها تماما لصناعة الحياة التي وضع هؤلاء أساسياتها في فلسفة الروحانيات والتجدد، وهي الروح التي تلامس ذاته بكل تفاصيلها الثورية، وأنا في الحقيقة أرى أن النصوص التي تصنع الحياة لا تأتي من فم عاقل أو سوي طبيعي لم يتصف بصفة من تلك الصفات الأربعة والتي تلازم نصوصه ومن حدا حدو جنونياته .

في دفتر الجنون حضورا متميزا لجملة مجانين صنعوا للحياة مزارات منها ما عبد ومنها ما استقام على أساسه الفكر فانبثقت منها السونيتات وينابيع العزف الروحاني في سيمفونيات مطولة، حضورا أنيقا لطاغور بفلسفة الحاضر ولجبران بصناعة الوجود المثالي للقصيدة ونيتشه المفعم بالحقيقة والوجود وكأنني أمام عالم من مدرسة لاهوتية تقتحم عالم الحداثة في إبداع عولمي متجدد أو انه يصنع جمهوريته ليطير بها متمردا ينعم بلحن متخصص في قراءات متجددة لإسفار التوراة والإنجيل وبعض من مفردات قرآنية.

(لان الحكماء دائما يصلبون على جذع الضوء الخارج من أرواحهم

لأنهم تعلموا كيف تتجاذب أرواحهم مع المعنى

دون أن يغلق بصيرتهم الضوء الساقط من حافة اللامعقول

لان شريعة المعنى فضيلة الغرباء).

وحين أتنقل بين أوراق القراءات في دفتر الجنون أرى أنني أعيش خاطرة الفلسفة الكونية في أحجية تهمس في أناتي لتوقظ فيها ذاكرة حاولت أن تجعل في إحساسها أسلوبا له ذات الانطلاق في تحضيرات عباس باني،إذ لم تزل الخطوط الأولى التي رسمت كتاباتي تنقش في خط الأسلوب ذاته لكنه تعثر في زحمة الأساليب فأصبح غير مستساغا ولم يرى منه النور سوى بعض مخطوطات صغيرة في كتيب اسمه (صور قيد التظهير) الذي انتهى متعثرا في أروقة الأرق والانتظار .

هنا وضع عباس كل ما حلم به وما أراد أن يوصله للقراء في صورة أدبية شجاعة وما أراد أن يوصله للحبيب المفقود في جنونياته والذي ما انفك منتظرا إياه رغم كونه متأكدا من أنه لن يأتي وضل يقول

(آتيك .. آتيك)

بعد يأس من كلمة

(تعالي .. تعالي)

ولم يزل يبحث عنها في كل قراءاته الى النفس الأخير مترجما أحزانه في البحث عنها لتشكل في قاموسه حياة أبدية وحلما من أجمل ما يكون

(بعد أن غسل النهار جنوني بحد ضياع ولادتي بين كفيك في كل حين

تعالي .. كل روحي اليك مهبطا

تعالي قبل أن تضيع براري الهوس بشرائع خرافة الألم في جبين العصور

تعالي)

هذا الحلم المفقود بنيت عليه تلك القراءات الكبيرة في جسد جنونياتها،، هذا الجنون الطفولي المكتشف في ذاته لذاكرة تدارست، لكنها لم تنقطع أحلامها ولهذا لم تزل تنتظر أملا يأتي وحلم عبر المواسم والأعوام رغم هروبها وهرمها .. هذا التاريخ الكوني الذي كتب في صفحاته المتدثرة بصفائح الروح لامرأة لا تشبهها ثانية، تعني كل أشياءه فهي التأريخ في كل المواسم وهي الفردوس والأسفار والوطن

(عيناها جدولة الكون حين ينهزم التأريخ من أوراقه، عيناها صديقة كل المواسم التي تنثر بساتين روحي بكل أزهار الفردوس، كانت امرأة خارج النساء حين ينبت ضلع الطين على أجسادهن، كانت وطن دون جدران المدن

كانت وكانت

افترقنا دون عنوان الروح بالمسير إلى وطن

دون وطن)

وللأماكن والمسارات التي قطع شوطها من الحزن الم ينشره على تلك الطرقات والقطارات والمطارات ورمل الشواطئ والمدن التي تقاذفته، والمواسم التي مر بها كمسافر دائم الأسفار حقيقة وتصور

(أنا ضيعت وجهي في زحمة المطارات التي ترتقي فوق تنفس الهواء الممزوج بالغيم أبحث عنه

ابحث في مرايا عابري السبيل باتجاه نقطة هوس البحر وقت ازدحامه على صخرة الرب

انتزع وجهي من المرايا وأعبر الشوارع دون انعكاس الضوء على عيون المكان)

وهو يحمل في حقيبة صغيرة بين أضلعه رمزا لحياة رغم كونه يعلم أنها أضحت خسارة وضلت حلما لم تأته حقائقها البتة، سوى أنها تشكل حاضرا بنيت على أساسه خاتمة التصور فأنتجت تلك الفلسفة الصوفية  وهذا العبور إلى مرحلة التيه والتوحد مع الذات التي ما انعس الحاضر ليأخذ أحلام الطفولة كأنه يضع الوجود الحقيقي لجمهورية القلب والروح كحقيقة يتلمس وجودها بين أضلع لم تزل تنظر خارج حدود الزمن.

(أصبح القلب خيط الأمس يمتد باتجاه وجوهنا التي كانت تؤشر الفرح في لقائنا

ما عادت هكذا وذبلنا من أجل لقاء قد لا يأتي أبدا الى دروبنا

وتقطعت علامات الحنين في كوابيس ارقنا

نما فقدان الذاكرة دون إشارة إني عشت أمسنا)

أما أنا فلم أزل أتيه بين الدفاتر الجنونية لعباس باني لعلي أصل الى حقيقة ما يريد رغم كونه أعط بجلية كل تصوراته لكنه لم يعط الحق بتصريح يجاز به القارئ ليصل الى كيفية التوحد بين المفترقات التي تزيح في دائرتها الثورية لعقلية الأديب المتفحص لعلة المنشور، ورغم استخدام كل أجهزتي الحديثة التكوين لكنني لم استطع تشخيص علَاته الكثر، وما زلت اعشق هذا التيه بين سطور هذه الصفحات المجنونة . ورغم ذاك فأنا لم أعط حق ما أعطيته أو يعطيه أي كاتب يقرأ (قراءات في دفتر الجنون) حقها،، فهي عمق كبير وشرخ واسع في ذاكرة الزمان والمكان والحداثة، فانا لم اعد أدرك منها سوى القليل كوني أراني أمام هرم كبير له قداسه وطقوسه .

 

الكاتب: جاسب المرسومي – العراق

 

 

في المثقف اليوم