قراءة في كتاب

شمس الدين العوني: اليوم خلع عنّي الملك.. سرد مشوق يفصح عن قلق الكتابي

تجاه الساكن والعادي والرسمي والمتعارف عليه..

ها هي الكلمات في هيجانها الرجيم والناعم تبتكر معانيها خارج المألوف تدعونا طوعا وكرها الى مجاهلها المعلومة والمطموسة والبينة والخفية حيث لا يهتدي لكشف وفتح مغالقها غير عقل وعاطفة..  وهنا بين العقل والعاطفة ينبت هذا الخيال الباذخ ليمنحنا شيئا من سحر وسر وألق هذه الكلمات وهي تقص علينا حيزا من خزف الحال وشغف العناصر وهي تفصح عن سيرتها.. سيرة ملغومة بأحداثها وشخصياتها وامزجتها الشتى.. نعم السيرة هنا عنوان جمال حكي وبهاء سرد في أسئلة تفضي الى الذات وهي تنتفض تعلن عن تبدلات أحوالها تقبلا ونظرا وفهما.. هي قوة الحكاية والقدرة السردية.. تماما مثل قصيد شعري قوي بين الغموض والوضوح..

انه فعل الكلمات في عوالمها المسرودة بجمال فائق وأخاذ غادره كل دخيل اعاقي يجعله في خانة المكتوب السهل والمجتر والمفتعل والفضفاض.. وما الى ذلك من تقليعات الخواء السردي الذي أفضي الى رداءات تعللت بالقديم والتاريخي والحكايات الملونة بالأزمنة والعصور الغابرة قديما وحديثا وذلك في غير وجد وجمال و...شعر.. فعلا الرواية الجميلة هي بنت جمال الشعر هذا الفن القديم..3218 حافظ محفوظ

ها هو الشاعر كذلك يفصح عن قلقة الكتابي تجاه الساكن والعادي والرسمي والمتعارف عليه يعلي من شأن القيمة وهي تنحت ثناياها الجديدة والبينة مثل النهر الحكاء الأمهر وهو يراقب مياهه وأصواتها تمضي لا تخاف الصخور.. تنحت فيها مجاريها..

هي لعبة الحكي في كشفه واكتشافه من جديد للعادي تقبلا وسؤالا وفهما مغايرا حيث الزمن مجال اعادة وتقليب وتعيير.. الحرفي يعير ما يعرض عليه قبل شرائه ووضعه في مكانه تراه أعين المحبين والباحثين ومتقصدي ما هو جميل ورائق وثمين..

هكذا ندخل العوالم.. عوالم العمل السردي الأخير للكاتب حافظ محفوظ والذي عنوانه " اليوم خلع عني الملك ".. عمل روائي في 170 صفحة صدر عن دار مسكيلياني للنشر وهو بمثابة الفسحة الجديدة / المتجددة في سياق تجربة الشاعر والروائي حافظ محفوظ الذي أخذنا في متنه السردي ومنذ سنوات الى مجالات من المتعة كتابة وأسلوبا ونهجا في تناسق وتواؤم تامين مع ذائقته المخصوصة في شعره وهو الشاعر الذي وسع من زوايا النظر لفهم ما الشعر وما الكتابة وما الابداع وفق عنوان لافت وهو الجوهر والكنه بما يحيل على حمال ودلال المعنى والمكتوب والمتخيل..

المتخيل الشعري استعاره بل هو ذاته لدى حافظ محفوظ لحظة الكتابة ان في السرد أوفي القصيد أو حتى في النقد والدراسة ولعل كتابه السابق " وصايا سارتر " يدعم ذلك..

دعنا من سارتر ووصاياه.. هذا الكتاب الجميل..  نعود الى الرواية.. لغة جميلة محبذة في الأدب والوصف والحيرة.. هادئة في غير تكلف وتشنج وافتعال تترك في القارئ جمالا وحرقة وسخرية وأسفا.. جمال في حبكة وطريقة السرد يقابل حرقة تنفذ للقارئ وهو يكتشف الزيف المعشش في التواريخ والكتب والحكايات.. وسخرية نتبينها في التعاطي مع الرسمي الكاذب والمغشوش وهو يحبر ما يراه هو نفسه وهما وزيفا.. وأسفا على سنوات الضياع في تواريخ الشعوب والبلدان لسبب طمس الحقيقة وهذه الحقيقة شبيهة حقائق تدفن لأيامنا هذه واللاحقة..  لماذا.. لا نعرف.. بلى نعرف.. وكل ما نعرفه هو أن الانسان ظلوم جهول.. يزين له ظلمه وجهله كبرياء غاشمة تهوي به عميقا في مجاهل تعاني منها الأجيال والأوطان.. وهكذا..

هذه رواية بمثابة مرثية زمن حيث يقول عنها كاتبها حافظ محفوظ ".. كتابة رواية هي تماما ككتابة مرثية لزمن مضى. زمن نحاول إحياءه أو نحاول نسيانه أو نحاول تصحيحه. (اليوم خلع عنّي الملك) رواية تحاول كلّ هذا. تفضح الأكاذيب السيّاسيّة التّي تربّينا عليها في المدارس والمعاهد والكلّيات وتضيئُ مناطق معتّمة من تاريخ تونس القريب. وهي إلى ذلك قصّة حبّ سريّة ومغامرة وجود ورهان حياة..

الرواية تنطلق مع الراوي وهو يطل من شرفة البيت متأملا تجاه لعب طفلين بالكرة لتتواتو الللعبة منتهية بحيرته ووعيه المتأخر ومعرفته للتأكد من هو الضحية من بين الطفلين اللاعبين مستنتجا أن من افتك الكرة هو الظالم.. مشهدية بسيطة ولكن عميقها حين يتسع المجال من لعب بالكرة في شارع محدد الى لعب آخر في مسرح الوطن وعبر السياسة وتقلباتها وأحداثها المدوية أحيانا.. وغالبا..

هكذا من شرفة عمارة بلافيات بالعاصمة التونسية حيث يسكن يطل شمس الدين العانمي على مشهده هذا الملخص ل 170 صفحة من الرواية حيث يلقى القارئ ل " اليوم خلع عني الملك " الكثير من الحنين والأسى والشجن وفق أحداث في شيء ذي بال كبير من متعة وبذخ الحكي..  "شمس الدين غانمي" الذي يعمل بالوكالة الوطنية للتراث والمختص في التاريخ القديم ينقب في رسائل تصله من "الدكتور خياط" صديقه.. هي رسائل "الشاذلي باي" إلى أخته "ليليا" الأميرة التي تقيم بفرنسا.. في هذا البيت بمنوبة.. بيت جنينة زوجته تمضي الحكاية مع التاريخ.. العائلة..  خديجة وعائشة وزليخة وهادية وليليا ومحمد وصلاح الدين وعز الدين وصوفية وزكية وفاطمة وكبورة..  التفاصيل بين الأحداث والهواجس والاحساس بزوال الملك.. الخلع.. وهو الذي فقد ابنه "عز الدين" ولي عهده عام 1953 الذي قتله "الهادي جاب الله"..  التنكيل ب "جنينة" ومرض الباي ليشل ويفصح بمرارة العزيز الذي تم اذلاله : "اليوم خلع عني الملك".

.شخصيات ومشاعر وانفعالات وحنين وما الى ذلك في سياق من الانسيابية التي تجعل قارئ هذه الرواية منشدا ومأخوذا تجاه سرديتها وهي تطرق أبواب تاريخ نونسي.. تحاوره وتحاوله مسائلة متسائلة.. كل ذلك باشتراطات الكتابة الابداعية في أرض الرواية وجسدها الناعم.. كالشعر تماما.. هو سرد كحياة الناس والأحداث الحافة في تبدلاتها ومفاجآتها وتلويناتها الشتى.. في حقبة من أحوال تونس السياسية والثقافية والاجتماعية.. واذا كانت الرواية التاريخيّة هي من أشكال الرواية الحديثة التي تُعبّر بشكل ما عن وقائع تاريخية في سياقات انسانية واجتماعية فان حافظ محفوظ وفي هذا العمل الأدبي تخير اللعب وفق ذائقته وتخييليته في التعاطي مع الومن والوثائق والتاريخ والوقائع بشيء من سخر الكتابة وتقنياتها وفق شاعرية ترفع من مراتب السردية الى ما هو وجداني وعاطفي ورمزي وهذا من مزايا كتاباته السردية السابقة واللراهنة فهو الشاعر ينهل من شعرية الحال والأشياء والعناصر والتفاصيل ليكون الحكي في غير تكلف وافتعال تستبد به حالة من شاعرية الكشف واعادة القراءة وتعرية ما يخاله الآخرون عين الحدث والحقائق..  تماما كفعل الشعر يبتكر رؤاه وجمالياته وصرامته تجاه الذات والآخرين والعالم..

في رواية (اليوم خلع عنّي الملك) إعادة نظر وفق سرد وأمام كثير من الأحداث بحسب تصوّر الكاتب الذي يضعنا أمام شخصيات أتقنت تصريف عواطفها ومعارفها وأمزجتها في سياق يراوح بين التاريخ في بعض دقائقه والخيالي واللامنتظر حيث يأخذنا بالنهاية الى ما يشبه جلد الذات حيث السذاجة وسخافة الواقع الذي ما يزال يثق في جانب من المدون والمكتوب من جهة واحدة ووحيدة.. هي سردية ما هو أدبي وتقني وفق روح تخييلية تمتن العلاقة الجمالية الابداعية بين الرواية والتاريخ والواقع.

حقبة تاريخية معلومة من تاريخ تونس تخيرها الكاتب هنا تشير اليها الرواية ب".. تستقل البلاد، تتأسس الجمهورية، يصير بورقيبة زعيما، لكن ليس في نظر الامير الشاذلي بن الامين باي، الذي راسل الامير اخته ليحدثها عن امور كثيرة تهم العائلة وشخصية بورقيبة.. "

أحداث الرواية تمسح فترة بين نهاية الحقبة الحسينية وأوائل فترة الاستقلال في كثير من اللوعة والشجن لدى آل الباي محمد الأمين حراء ما حصل لهم من تشويه وظلم واهانات.. و.. و.. وما لم يبلغنا ولا / لم نعلمه والى الآن.. فترة عصيبة وغير هينة من الانتقال من نظام البايات الى الحكم الجمهوري وما لف ذلك من خطاب شيطنة وتحقير فضلا عن التنكيل بتعلة البحث عن ثروات وكنوز العائلة..

"آخر البايات في تونس و" الملكة جنينة والمعزول " سيدي المنصف باي " و"الشاذلي الامين " و" ليليا " و"روبار فينستان ".. تاريخ واحداث في كون من الحكي حيث الباحث التاريخي شمس الدين الغانمي في مجال عمله بالوكالة الوطنية للتراث وقد تخيره حافظ محفوظ للمكان السردي الملائم كشخصية جوهرية حيث السردية الأنيقة بين الوقائع والأحداث والمظالم والهواجس "..  اولا اقوف جرايات كل افراد العائلة الحسينية في 31ماي 1956، ثانيا قام بمحو شعار المملكة التونسية حاذفا منه كل ما له علاقة بعائلتنا في 21جوان من نفس السنة، ثالثا اصدر امر تحويل كل سلطات الباي اليه شخصيا واجبره على التخلي عن ممتلكاته لفائدة الدولة، تمّ ختم كل هذا بالغاء النظام الملكي وعوّضه بالنظام الجمهوري، بعد ذلك طردونا بشكل وحشي.. "

" اليوم خلع عني الملك " نص الفجيعة تبتكر سرديتها قتلا للزيف وكشف المظالم مثلما كان يتحدث الشاذلي ابن الباي عن كل ذلك في الرسائل الى ليليا أخته في أسف ولوعة وأسى..  ولعله حيز من " تاريخ الأسى " التونسي يجترحه الروائي حافظ وهو يتنزه بمرارة الانسان وشغف الكاتب ووجدان الحقيقة في زمن تونسي معتل بفعل النرجسيات.. وهنا أستذكر الراحل هششام جعيط العلامة والمؤرخ الجهبذ حين قال كلماته في لقاء خاطف بعيد الثورة التونسية ".. على التونسيين مغادرة التخميرة والخروج منها واعادة كتابة التاريخ.. " طبعا تاريخنا التونسي..

هذه الرواية لمحفوظ تضعنا هنا في عين الحدث والمطلوب والمنتظر.. علينا تصويب تاريخنا وترميم ما علق بذاكرتنا من زيف الاحداث والقائع لأجل انسان جديد بتاريخ حقيقي.. فهل يستوي الظل والعود أعوج.. حاضرنا يتطلب تاريخا شجاعا بحقائقه وصدقية كتابتها من جديد.. ولذلك ارتأى " شمس الدين الغانمي أن يصحو ويغير نظرته لينهي مع الفشل.. النظر والقراءة والتعاطي تجاه التاريخ والاحداث مجالات تمحيص وتثبت حيث ما نراه يتطلب التثبت والتقليب مثلما حدث ل" شمس الدين الغانمي " وهو في شرفة ببيته بلافايات مع مشهد الطفلين والكرة ودلالاته العميقة..

" اليوم خلع عني الملك ".. رواية الجوهري الكامن في الذات الانسانية حيث الانسان في رحلة الكشف والتساؤل تقصدا للحقيقي بعيدا عن السطحي والزائف.. سردية خفيفة بليغة رائقة وتماما (مرة أخرى) كقصيد جميل.. نعم وهنا في هذه الرواية.. ها هي الكلمات في هيجانها الرجيم والناعم تبتكر معانيها خارج المألوف تدعونا طوعا وكرها الى مجاهلها المعلومة والمطموسة والبينة والخفية حيث لا يهتدي لكشف وفتح مغالقها غير عقل وعاطفة.. وهنا بين العقل والعاطفة ينبت هذا الخيال الباذخ ليمنحنا شيئا من سحر وسر وألق هذه الكلمات وهي تقص علينا حيزا من خزف الحال وشغف العناصر وهي تفصح عن سيرتها.. سيرة ملغومة بأحداثها وشخصياتها وامزجتها الشتى.. نعم السيرة هنا عنوان جمال حكي وبهاء سرد في أسئلة تفضي الى الذات وهي تنتفض تعلن عن تبدلات أحوالها تقبلا ونظرا وفهما.. هي قوة الحكاية والقدرة السردية..  تماما مثل قصيد شعري قوي بين الغموض والوضوح..

 

شمس الدين العوني

 

في المثقف اليوم