قراءة في كتاب

محمود محمد علي: سعيد الغانمي وقراءته لألف ليلة وليلة (2)

نعود ونكمل حديثا عن سعيد الغانمي وقراءته لألف ليلة وليلة، ومن هنا تبدأ أول ليلة تقضيها "شهرزاد" في بلاط الملك شهريار، حيث تبدأ كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، برواية الحكايات، ويبدأ كتاب "ألف ليلة وليلة" بروايتها على لسان شهرزاد. فهذه الحكاية الإطارية كانت الحكاية السابقة على رواية الكتاب. فالحكاية التي يبدأ بها كتاب "ألف ليلة وليلة" كانت "حكاية إطارية"، ومضمونها كما أوضحت لكم. ويتضح مثل ذلك في كتاب "مخاطبات الوزراء السبعة".

وهنا يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، بأن الحكاية الإطارية لا تكتمل إلا بعد اكتمال الكتاب كله، ولكن كتاب "ألف ليلة وليلة"، كما قلت، هو مدونة كتب وليس بكتاب. ومن الصعب على أي راوٍ أن يبقى محتفظاً بالموضوعات التي تتعلق بموضوع الخيانة الزوجية، وهذه الخيانة من المستحيل أن تبقى في كتاب بهذا الحجم الحكاية المهيمنة على سائر الأعمال السردية التي يحتويها الكتاب. ولذلك بقيت الحكايات الأولى القريبة من الحكايات الإطارية، تحمل موضوع الخيانة الزوجية، وتلح عليها إلحاحًا كبيرًا.

ولكن هناك موضوعات أخرى تقودنا كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، سرًا ودون أن نعي، إلى أن ننهي الكتاب بالموضوع الذي ابتدأ به؛ إذ تنتمي عشرات الحكايات إلى مختلف صنوف الحكايات، حيث نجد فيها حكايات تتعلق بالجن، وحكايات تتعلق بالحيوان، وحكايات تتعلق بالرحلات إلى أماكن فردوسية وخرافية، وفيها حكايات عن الطفولة، وكل أنواع الحكايات الموجودة في الكتاب، وتشمل: حكايات تأسيسية، وملاحم، وحكايات عن سير الأنبياء وقصص الأنبياء، وكل هذه الموضوعات منضوية داخل هذا الكتاب.

بيد أن هذا الكتاب كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، يبدأ بموضوع الخيانة الزوجية، وينتهي في حكاياته الأخيرة بدءًا من الليلة الستمائة والستين فما بعد إلى نهاية الليلة الأخيرة من الكتاب، بالموضوعة نفسها، أعني موضوعة الخيانة الزوجية. لكن الحكايات الأخيرة تركز على الإخلاص، لا على الخيانة. فكل موضوعات هذه الحكايات الأخيرة تتعلق بإخلاص النساء الفضليات، وليس بالخيانة، وقد استغرقت عددًا كبيرًا من الحكايات.

إذن كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، فإن موضوع الحكاية الإطارية، هو الخيانة الزوجية، وهى التي تنقل موضوعاتها إلى الحكايات القريبة، ولاسيما في عمل صغير، مثل "مخاطبات الوزراء السبعة"، ولهذا كان الكتاب مكرسًا لأن تكون كل موضوعاته تمثل "الحكاية الإطارية"؛ ولكن مع "ألف ليلة وليلة" نجد أن الكتاب ضخم جدًا، ومن ثم يبقى تأثير موضوعه لصيقًا بالحكايات القريبة من الحكاية الإطارية، وكلما ابتعد نجده يتناول موضوعات أخرى، إلى أن ينتهى بها مرة أخرى ويعود لها بطريقة أخرى.

وشهرزاد هي التي تروي الحكايات لشهريار، وهي لا ترويها إلا ليلًا، فتصبح شهرزاد في الليل كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، هي المتحكمة، وهي الملكة، وشهريار هو من يتلقى الفعل، بخلاف ما يحصل في النهار. ولهذا نجد الليل يقلب الأدوار تمامًا، وذلك لكون تلك الحكايات لا تُروىّ إلا ليلًا.

وفى النسخة المعيارية المتأخرة من الكتاب في طبعة بولاق يقول الأستاذ "سعيد الغانمي": "فلما أصبح الصباح سكتت شهرزاد عن الكلام المباح". نجد هذا التعبير يتكرر في الطبعات المتداولة، وأقصد الطبعات الشعبية المتداولة من "ألف ليلة وليلة"، وهو يتكرر بكثرة كبيرة جداً، ولكن في المخطوطات لا يوجد مثل هذا التكرار، حيث نجد التعبير يتنوع في كل مرة ويعدّل من هذه الصيغة: "فلما أصبح الصبح سكتت عن الكلام". وهنا نتساءل: لماذا تسكت شهرزاد عند إشراقة الصباح؟، ولماذا لا تتكلم إلا ليلًا؟

هنا يجد الأستاذ "سعيد الغانمي"، أن السرد يفرض قوانينه وأخلاقه، وتصبح هي الملكة ليلًا، وتتحكم في مصائر الشخصيات. لماذا يعطي السرد هذه القدرة لشهرزاد؟ لأنها راوية الحكايات. ومن هو شهريار؟ هو المرويُّ له، أي المخاطب الذي يتلقى منها السرد. وهذا يعني أن السرد ينطوي على مقايضة بين الراوي والمروي له. تروي شهرزاد الحكايات، وينتظر شهريار منها مكافئة السرد. فالسرد ينطوي دائمًا على مكافأة للراوي وأخرى للمروي له؛ بمعنى أن هناك مكافأة لشهرزاد وأخرى لشهريار، أي للراوي والمروى له. والآن في كتاب "ألف ليلة وليلة" يورط السرد الشخصيات، حيث نجد الآن شهرزاد لا خيار لها إلا في الدفاع عن حياتها برواية الحكايات، لأنها تدرك أنها في الصباح التالي سوف تقتل. وهذا مصير النساء الخمسمائة اللواتي تزوجن بهنَّ قبلها شهريار، وكانوا فى الصباح يقتلون. إذن هي مهددة بالقتل ويجب أن تدافع عن نفسها، فما هو السلاح الذى تستخدمه للدفاع عن نفسها؟

في اعتقاد الأستاذ "سعيد الغانمي"، هو "السرد"، أي سرد الحكايات. فهي الآن متورطة، ويجب أن تدافع عن نفسها بالسرد، وشهريار أيضاً متورط .. لماذا؟ لأنه مصاب بجرح نفسي، أو مصاب بعقدة نرجسية، لأنه مطعون في صميم شخصيته، بعد أن رأى زوجته تخونه. ولذلك قتل نساء بريئات عددهنَّ خمسمائة امرأة، لم ترتكب معه واحدة منهنَّ أي جرم. بل قتلهنَّ بجرم امرأة واحدة معه. إذن هو أيضًا متورط؛ بمعنى أن الراوي متورط، أي أن شهرزاد تدافع عن نفسها بالسرد، والمروي له متورط، وهو شهريار الذي يجب أن يعالج علاجًا نفسيّاً بالسرد.

هذه هي المهمة التي أسندتها "شهرزاد" للسرد، وينبغي أن يقوم بها، وهي كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، المهمة التي تركز عليها الحكايات. ويقال إن رواة كتاب "تحولات الجحش الذهبي" لأبوليوس عند الرومان كانوا يأخذو، المال مقابل سرد الرواية، حيث يقول الراوي "أعطني قطعه ذهبية أو نحاسية وأروي لك حكاية كذا وكذا"، أي أن تقديم الرواية الرواية كان مقابل ثمن. ولذلك قيل لرواية أبوليوس "الحمار أو الجحش الذهبي". وهي في الحقيقة ليست بهذا الاسم. وفيها يتحول "أبوليوس" الإنسان إلى حمار، ويظل يرى الأشياء كما يراها بعقل إنسان وبجسد حمار، ويعامله الناس كحمار، مع أنه يمتلك ذاكرة إنسانية.

وبالطبع فإن موضوعة التحول موجودة في "ألف ليلة وليلة"، حيث يجد الأستاذ "سعيد الغانمي"، هناك الكثير من الشخصيات تتحول، أي تمسخ إلى مخلوقات أخرى سواء إلى كلاب، أو حمير، أو بغال، أو قرود. وفي الوقت نفسه يظل للحكايات أثمان. ولكن ما الثمن في حالة "ألف ليلة وليلة"؟ إنه الحياة، التي لا يضاهيها شيء آخر. أنا كراوٍ أريد أن تعطيني المال، أي أن تعطيني قطعة ذهبية، لكي أروي لك الحكاية، وأيضًا أنت كمستمع سوف تحصل على فائدة تعينك على أن تشفى من أمراضك النفسية بسماع الحكايات. فالسرد يدخر مكافأة للراوي وللمرويِّ له.

وهنا الأستاذ "سعيد الغانمي"، دعونا ننظر للحكايات الأولى ولاسيما الحكاية التي تتعلق بجني أو شخص تاجر كان يمشي، وألقى تمرة، وفجأة ظهر له جني عملاق شاهرًا سيفه، يقول له: أنت قتلت ابني وسوف أقتلك، لماذا؟ لأنك عندما رميت النواة جاءت في صدره فقتلته، أي أن هذا الإنسان الجالس لكي يأكل التمر قتل ابن الجني، فارتكب جريمة يجب أن يتحمل وزرها، وهو لا يعلم بها، فقد رمى النواة في الطريق، فقرر الجني قتله. إلا أن التاجر أعطاه عهد الله وميثاقه، ووعده أنه سوف يعود في اليوم الفلاني بعد أن ينهي ودائع الناس لديه، واقتنع الجني، واتفقا على يوم ينهي فيه أشغاله، ثم يأتي له.

ويستطرد الأستاذ "سعيد الغانمي"، وفى اليوم الموعود يأتي التاجر محملاً بالأحزان والهموم، ولكن قبل مجيئه، وجد ثلاثة شيوخ: الشيخ الأول يأتي ومعه بغلة، والشيخ الثاني يأتي ومعه كلبتان، والشيخ الثالث يأتي ومعه حيوان، ولكن الشيخ الأول يستغرب من التاجر لجلوسه في الطريق، فيقول له، ما هو سر جلوسه في هذا المكان، وهو مكان معمور بالجان ومسكون، فقال له: إنني متورط، وأود أن أرى النتيجة التي ستحصل لك، ثم يأتي الجني، وهنا نجد الشيخ الأول تخطر بباله فكرة، فيخاطب الجني، قائلًا: يا ملك ملوك الجان، إذا رويت لك حكايتي مع هذه البغلة، ووجدتها حكاية جميلة، فهل تتنازل لى عن ثلث حياة هذا التاجر؟ يوافق الجني فيتنازل له عن ثلث حياته، ويروي الشيخ الثاني أيضا له حكايته، ويتنازل له عن الثلث الثاني، والشيخ الثالث يروي له حكايته، ويتنازل له عن الثلث والآخر.

هكذا استطاع جميع الشيوخ الثلاثة كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، أن يخلصوا التاجر من سيف الجني. فيتضح لنا أن السرد يستطيع أن يشتري حياه الناس. وهذه أولى الحكايات، ولكن في الوقت نفسه السرد يحذِّر، أي يروي حكاية عن انتقام السرد. وكما أنه ينطوي على مكافأة، فهو كذلك ينطوي على عقوبته. فعدم احترام قواعد السرد يجعل السرد ينتقم لنفسه. وهذا ما حدث في حكاية الحكيم (دوبان) مع الملك "يونان"، حيث الملك يونان كان مصابًا يمرض لا شقاء منه، فيتطوع الحكيم دوبان بأن يشفيه من هذا المرض، الذي ربما كان نوعًا من الجذام القائل.

ويستطرد الأستاذ "سعيد الغانمي"، يقرر الحكيم دوبان أن يشافي الملك من هذا المرض فعلًا. وهنا يقول له كما يذكر الأستاذ "سعيد الغانمي"، أستطيع أن أشفيك، ولكن من دون دواء أو عقار. فقط أعطيك صولجانًا (عصا) تمسكها ويسري الدواء في جسدك، وتغتسل وبعد ثلاثة أيام تشفى تمامًا من دائك. وفعلًا تنجح هذه العملية، ويشفي الملك شفاءًا تامًا. وقد كان عند الملك وزير شرير، يقول للملك عن الحكيم: لقد داواك من دون علاج، ويمكن أن يقتلك من دون سلاح، فينبغي أن تقتله قبل أن يقتلك. وبعد أن قرر الاثنان مقتل الحكيم بلا ذنب، يسأل الحكيم: ما هو الجرم الذى ارتكبته لكي تقتلني؟ .. فقال لا يوجد جرم، ولكن لابد أن أقتلك، لأنك من الممكن أن تقتلني في المستقبل. فيقول له إذن أعطني مهلةً، أنهي بها كل متعلقاتي وأهديك كتابًا خالدًا. وهو كتاب إذا قرأته بعد أن تقتلني يكلمك رأسي، ويجيبك عن كل ما تسأله عنه. فيذهب الحكيم، وينهي متعلقاته، ويأتي لبلاط الملك لكي يقتله، ولكن قبل قتله يأتي له بالكتاب، فيقول له: هذا هو الكتاب الذي يجيب عن كل ما تسأل عنه. فأسأل الرأس بعد قتلي ليجيبك!.. وفعلًا يقتل الملك الحكيم، ويتناول الكتاب، فيقلب أوراقه ويسأل!.. فقد قُتل الحكيم "دوبان" على يد الملك "يونان". وحين يسأل الملك الرأس يقول له قلِّب أكثر في الكتاب.. ويرد عليه فيقول له هذا الكتاب فارغ، فيقول له قلب. وكلما قلب يبل يده بريق فمه لينتقل للصفحة الأخرى، ثم فجأة يموت الملك، حيث اتضح أن الكتاب مسموم، وقد تعلق السم بفمه. كلما بلل يده، وقلب أوراق الكتاب، تعلق السم به أكثر، وانتقل من أصابعه إلى يده .. فمات الملك.

والآن يستطيع السرد كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، أن يجعل ميتًا ينتقم من قاتله الحي. هذه قدرة السرد. كما أنه يدخر مكافأة للراوي والمروي له عند احترام قواعده. وعلى النحو نفسه يستطيع أن ينتقم فيه الميت من الحي إذا ما أخل بقواعده. فإذن شهرزاد تقول للملك ضمنًا دون أن تستخدم أية كلمة صريحة: عليك أن تحترم قواعد السرد، فهذه مكافأة. ولهذا فقد حرصت شهرزاد على امتداد ألف ليلة وليلة أن لا تنتهي رواية حكاية مع انتهاء الليلة. دائمًا تنتهي الحكاية في منتصف الليلة، وتبدأ حكاية أخرى قبل أن تنتهي الليلة، بحيث تحرص على أن تبقي شهريار في حاله تعليق مستمر إلى ما لا نهاية. ومن ثم لا توجد حكاية واحدة تحدث عقب انتهاء الحكاية والليلة في وقت واحد. إذ تنتهي الحكاية في أول الليل، ثم تبدأ بحكاية جديدة لكي تترك المروي له في حالة تعليق مستمر، وذلك كي لا تموت أو تخيّب أو تطفيء فضوله، ويبقى في حالة تعليق مستمر لاستماع نهاية الحكاية في الليلة التالية.

إذن يدخر السرد مكافاة للراوي، والراوي كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، هي "شهرزاد" التي هي متورطة، حيث يجب أن تدافع عن حياتها برواية الحكايات. وكلما نجحت في تحفيز فضول "شهريار" وإبقائه متعلقا، نجحت في مد حياتها يومًا آخر جديدًا. وبالمقابل يتورط "شهريار" بفضوله في هذا السرد، وذلك لأنه بمجرد انتهاء الليلة الأولى (حين يوشك الصباح على الإشراق) يفكر شهريار مع نفسه، ثم يقول: والله لا أقتلها حتى أسمع نهاية الحكاية، وهنا نجده قد تورط من خلال فضوله بهذا السرد. ومن ثم تظهر للسرد مكافآت، وكذلك يستطيع السرد الانتقام.

ولهذا يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، إن موضوع الحكاية الإطارية تنتقل إلى الحكايات الضمنية. ولكن هذا الكتاب ضخم في بعض الطبعات، وهو يقع في "اثني عشر" جزءًا، ومن الصعب الاحتفاظ بموضوعة الحكاية الإطارية على امتداد كل هذه المسافة الزمنية والسردية الطويلة. ولذلك انتقلت "شهرزاد" في رواية حكاياتها بين موضوعات مختلفة؛ حيث روت حكايات تحتوي على السخرية؛ وبالذات السخرية من الخليفة "هارون الرشيد"! وكانت هناك حكاية تسمى (خليفة الصياد) مع الخليفة "هارون الرشيد". وهذا الصياد هو صياد وضيع اسمه خليفة، ولكنه يستخف بالخليفة "هارون الرشيد". وهو نموذج الملوكية في كتاب "ألف ليلة وليلة". لكن هذه الحكاية ترد في كتب أخرى عدا "ألف ليلة وليلة" بصيغة مماثلة وليست مطابقة، حيث تسمي الصياد باسم "باسم الحداد". وهناك أيضًا موضوعات أخرى من انقلاب الأدوار، وهي تتحدث عن ملوك تنحط أدوارها إلى حمالين، وإلى صعاليك متشردين. وحكايات "حاسب كريم الدين"، وحكايات ملكة الحيات، وبها ثلاث حكايات ضمنية، وهي تمتاز بنوع من السرد المكتوب بلعبة الصناديق الصينية، وحكاية في داخل حكاية، وأبطال حكاية لم يلتقوا، ولكن تجمعهم فقط ملكة الحيات، وبعضهم لم يرَ ملكة الحيات، وإنما حدثهم عنها "بلوقيا"، (وبلوقيا ابن ملك من بني إسرائيلَ في مدينة مصر كان يحلم بلقاء النبي محمد قبل عصره بمئات السنين). ولكن الآلية التي اتبعتها هي تقنية رواية حكاية في داخل حكاية، أي ما يشبه لعبة الصناديق الصينية، كما سميتها. ولا يفوتنها أن نذكر حكاية حسن الصائغ البصري، وهي حكاية طويلة جدًا.

ولكن بعض الحكايات كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، مأخوذ من كتب أشرت لها، ومن مصادر متعددة كثيرة. وعندما نعود إلى الكتاب، حين يصل إلى الليلة "ثمانمائة وستين"، نجد أنه يعود إلى الموضوع الذي ابتدأ به، وهو موضوع" الخيانة الزوجية". ولكن من وجهة نظر أخرى.. ليست الخيانة وإنما الإخلاص، أي إخلاص النساء الفضليات (بمعنى أنه يبدأ بخيانة النساء القذرات وينتهي بإخلاص النساء الفضليات). فيبدأ برواية حكاية مريم الزنارية (وزنارية نسبة إلى الزنار وهو الحزام وهو نوع من الأحزمة العريضة). ومريم هي ابنة ملك الفرنجة، تقع في الأسر، ويأخذها القراصنة، ويبيعونها في تونس، ويشتريها رجل أعجمي، ولكنه يمرض، فتتمكن أن تشفيه وتعالجه بذكائها، حينئذٍ يقرر ألا يبيعها مطلقًا إلا بأمرها، أي أنها برغم أنها في البدء كانت جارية ولها ثمن، لكنها لا تباع إلا بموافقتها؛ فإذن هي ليست بجارية، وإنما هي حرة تبيع نفسها.

ويستطرد الأستاذ " الغانمي"،  بيد أن الأعجمي سافر بها ليبيعها في الإسكندرية، وفى الإسكندرية تشاء الأقدار بأن تلتقي بشخص اسمه "علي نور الدين"، وهو من أهل مصر، كان ضرب أبوه عندما كان مخمورًا، فأعطته أمه مبلغًا من المال يعادل ألف دينار، وقالت له اذهب واهرب، لأن أباك أقسم أن يكسر يدك إذا رآك. فيهرب إلى الإسكندرية. وفى الإسكندرية تراه هذه الجارية "مريم الزنارية"، فتعجب به، وتقول للدلال: هل دفع هذا الفتى فيَّ شيئًا من المال؟ قال الدلال: لا لم يدفع شيئًا، هذا ابن تاجر مصري، وجاء إلى الإسكندرية وهو غريب هنا. فقالت اعرضنى عليه؛ وهنا خلعت محبسها وأعطته للدلال. ثم سألت الغريب وقالت له: لماذا لا تزيد عليَّ؟ فقال لها أنا غريب. فسأل الدلال: كم وصل ثمنها؟ فقال الدلال: تسعمائة وخمسين. فقال الغريب "على بألف"، (وهي الألف التي أعطتها له أمه، فأخذها). وهكذا لم يعد عنده أي شيء، وصار يقترض دراهم معدودات. فقالت له اقترض عشرين درهماً، واشترِ أنسجةً ننسجها. فاقترض واشترى النسيج، فحاكت منه زنارًا، وقالت له: هذا الزنار، اذهب به لتبيعه بعشرين دينارًا. وفعلًا باعه بهذا المبلغ. غير أن مريمَ حذرته من لقاء أعجمي أعور، وقالت له: "احذر أن تبيعني إلى أعجمي أعور". وحين قابل الأعجمي، ورأى الزنار، طلب منه الأعجمي أن يبيعه له، فقال: لن أبيعه، وأنكر أن تكون مريم الزنارية هي التي صنعته.

ولذلك يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، لا أريد أن أدخل في التفاصيل. لكن المهم أن الأعجمي ينجح في إغراء "علي نور الدين" ويشتري مريم الزنارية منه. وبعدها يندم "علي نور الدين". ثم يأخذها الأعجمي إلى بلاد الفرنجة. فيلحق بها علي نور الدين، ويقع في الأسر، ويدعي الجنون. وهنا نلاحظ المفارقة؛ فالعقل هو الذي ضيع مريم الزنارية في الإسكندرية، والجنون هو الذى استطاع أن يستردها في الفرنجة، ويستطيع أن يخلصها مرة أخرى ويستردوها. وبعد سلسلة من الحوادث والمغامرات، تحارب مريم إخوتها وتقتل اثنين من أخوانها وتهرب معه. وبعد ذلك تسافر إلى دمشق، ثم إلى بغداد، ثم تلتقي بالخليفة هارون الرشيد، الذي يدافع عنها. وبعد ذلك يرجع علي نور الدين وزوجته مريم إلى مصر.

وكما يرى القارئ، فالنموذج الذى قدمه "سعيد الغانمي"، نموذج عن ملكة تضحي بكل شيء، بما فيه دينها وأخواتها والملوكية والبلاط، من أجل زوجها علي نور الدين. وبالطبع فنموذج مريم الزنارية هو النقيض الكلي لنماذج الخيانة التي كانت تعرفها. ثم تروي له حكاية أخرى هي حكاية "جارية الفتى البغدادي"، وهذه الحكاية منقولة من كتاب "الفرج بعد الشدة" للتنوخي. وهي أيضًا حكاية مماثلة عن إخلاص جارية، تقترح على صاحبها أو مالكها أن يبيعها حتى يحصل على نقود. لكن طبعًا يُسرق منه ثمنها ويجتمع بها بالمصادفة، ثم يفقدها وبعد سنتين يجد أنها ظلت مخلصة له طوال مدة غيابه.

وهناك حكاية "زوجة الجوهري" وهي أيضًا تتعلق كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"،  بـ"حكاية النفق"، ومادتها قديمة أصلاً. إذ تعود بعض صيغها السردية إلى العصر الهيليني. وهناك رواية مشابهة لرواية لاتينية حول امرأة تحفر نفقًا، ويشترك معها ضابط بحفر نفق من أجل الوصول إلى محبوبته. وهي تماثل تمامًا قصة الجارية البصرية والجوهري وزوجة الجوهري، وهي تقدم نموذج مقارنة بين الجارية الخائنة والجارية المخلصة، إذ هي حتى بعد وفاة زوجها تبقى مخلصة له.

وينتهى كتاب "ألف ليلة وليلة" كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، بحكاية "معروف الإسكافي". وقد تعلمنا أن ننظر إلى هذه الحكاية بوصفها "حكاية سخرية". والحقيقة أنها تنطوي على جميع العناصر الموجودة في "ألف ليلة وليلة"، كما تنطوي على "حكاية رحلة"، و"حكاية الجن". والوظيفة الأساسية لحكاية "معروف الإسكافي" هي أن تقارن بين زوجتين: زوجة "معروف الإسكافي" الأولى التي هاجمته، وجعلته يلجأ إلى مكان يبعد عشرات السنين عن القاهرة، وزوجته الثانية التي أخلصت له حتى الممات. والحكاية تقارن بين زوجتين: زوجة فاضلة وأخرى سيئة.

وعندما تكون "شهرزاد" قد أوصلت "شهريار" إلى هذه المرحلة، لابد كما يقول الأستاذ "سعيد الغانمي"، أنه قد يكون أُبريءَ تمامًا من عقدته النرجسية، وشفي من مصابه الروحي، وهذا الجرح النرجسى النازف الذى تعرض له. فيدرك بالتالي أن العالم مليء بالنساء الفضليات، مثلما توجد النساء الخائنات في هذا العالم. وهكذا يخرج "شهريار" يخرج من تجربة خيبته، دون أن يصاب بعقدة نرجسية. ويستوعب الدرس، ويسامح "شهرزاد"، ويقول: نعم، أنا منذ زمن قررت أن أسامحك لكونك امرأة فاضلة، ويعانق أولاده، وينتهي كتاب "ألف ليلة وليلة" نهاية سعيدة بعد أن حل جميع العقد، وتمكن السرد من تخليص شهريار من عقدته النرجسية، وخلص "شهرزاد" من الموت الذي بقي يتربص بها، ومد في عمرها وحولها إلى امرأة تعيش حياة سوية كبقية البشر، واستطاع أن يساعد شهريار على تجاوز عقدته الروحية ومصابه النفسي.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- سعيد الغانمي: خيال لا ينقطع ؛ قراءة في "ألف ليلة وليلة"، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، .

2- الباحث سعيد الغانمي - الف ليلة و ليلة - 01/16/2022 - الصالون العراق بلوس أنجلس، يوتيوب.

في المثقف اليوم