قراءة في كتاب

نبيل الربيعي: هاشم مطر وقطوف التجربة النقدية في أدب سهيل سامي نادر

صدر عن دار قوس قزح في كوبنهاكن مطلع عام 2024 للناقد والأديب هاشم مطر كتابه الموسوم (قطوف التجربة.. نقد النقد في أدب سهيل سامي نادر) بواقع (190) صفحة من الحجم الوسط، كان بتقدم الكتاب من قبل الدكتور خالد السلطاني بمقدمة مؤازرة وحميمية. يتناول الكاتب في هذا الكتاب جهد الاستاذ الكاتب والناقد سهيل سامي نادر النقدي والكتابي والمعرفي. ويعد الكتاب مساهمة في مجال (نقد النقد) وحركية النص. وجاء الكتاب بواقع ـ(37) عنواناً، تناول فيها أغلب اصدارات سهيل معتمداً على أكثر من (55) مصدراً مهماً.

لغة الكتاب سلسة للقارئ الكريم البعيد عن القراءة النقدية، حيث اتبع الكاتب المقارنة والمقاربة بالنصوص النقدية الصارمة، وهو عمل أثير يستحق المتابعة والقراءة. في البدء لا بد من التعريف بالناقد والأديب والصحفي سهيل سامي نادر؛ ولد سهيل في البصرة عام 1943؛ كان أبوه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي في البصرة، حصل على اللجوء في مملكة الدنمارك في الفترة التي اقدمت فيها على اللجوء في المملكة مع الأستاذ احسان أدهم. أصدر عدة مؤلفات منها: التل (رواية)، عن دار المدى، بغداد - 2007. التل: رواية. دار المدى. سوء حظ: ذكريات صحفي في زمن الانقلابات، عن دار المدى للنشر والتوزيع، بغداد - 2020. ونزولا من عتبات البيت، عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد - 2020. وشاكر حسن آل سعيد: سيرة فنية وفكرية، عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد - 2016. والخشن والناعم، عن دار الأديب، عمان - 2013. ومؤلفات أخرى، ومقالات كثيرة.

استعرض الكاتب في المقدمة ص13-14 قائلاً: "محتويات الكتاب ليست مبنية على فصول.. فالكتاب لم يأتِ على نحو دراسة منهجية حسب آلية البحوث الدراسية التي تبتغي التأهيل.. خصوصاً وإنني إزاء أعمال كاتب كبير ومعروف هو سهيل سامي نادر... وجسد البلاد الذي أوشك جسد سهيل أن يحاكيه بحديته واضمرار هيأته.. إنما توزعت تجربته على الصحافة وانقد الفني والأدبي، كذلك النقد السياسي ثم جهده الروائي"، فقد ابتلى المثقف والأديب في هذه البلاد بكل شيء محزن بسبب ألوان الأنظمة والاستهتار السياسي، فكان للمثقف المنتصر لمبادئه النبيلة قد تكلفه حياته أو الهجرة أو الاعتقال أو خارج البلد وهذا ما حدث مع الأديب سهيل سامي نادر.

وفي ص17-18 يسلط هاشم مطر الضوء على كتاب سهيل نادر (نزولاً من عتبات البيت) الصادر عن دار المدى 2021، اشار إلى لغة الكاتب كونها "لغة مركبة بالرغم من جهد الكاتب لجعلها مبسطة وواقعية تساير موضوعاته المختارة في كتبه... فالجملة لديه ليست شاعرية أو فضفاضة المعنى... بل هي اشتقاق للمعاني على وفق سيميائي... وهي مهنية نادرة قوامها التلاقح المعرفي". وهو يبين بموجبها سيطرة الكاتب سهيل على خزينه المعرفي المترامي الأطراف وقدرته الاستنطاقية للأشياء مما يضعنا على مستوى من المساواة.

ويرى الاستاذ مطر أن كتاب سهيل (نزولاً من عتبات البيت) يلتمس من مقاله الأول في ص19-20عن "بغداديات جواد سليم وقدرته التعشيقية المذهلة لماضِ وحاضر... واستوفى شروطه المؤسسة آنذاك من حيث بؤر المعرفة والحياة... أفرد له الكاتب مساحة معتبرة من كتابه وأعماله". لكن نجد في كتابات سهيل الظاهرة والحلول الجمالية فتكون سلطة النقد أكثر مضاءة ودون مجاملة، كما أثث الكاتب من جانب آخر جمالية اشتقت طريقها كبذور نابتة في الأرض.

ويرى هاشم مطر أن ما كتبه سهيل بهذا المعنى هو "رحلة مشاركة رصد أثرها حداثياً بمنجز فني صادم، فيما كان هو ذاته يتحرك سردياً كما تتحرك المدينة باتجاهات عدة" ص22. إلا أن سهيل نجده في سياحة أمام عالم الصور وكثافتها وابعادها، ويؤشر على دائرة الصراع الأخلاقي والاجتماعي، بما فيه من اضطراب سياسي في جدارية جواد سليم، وقد رحل الأخير دون أن يكن له حضور عند افتتاح منجزه الفني. لذلك يرى هاشم أن سهيل يلتقط في مبحثه كناقد "لمعنى الرسم في البغداديات فكرة تفكيك العزلة، وهي الفكرة التي أسست إلى ثقافة أوربية ناهضة بعد الحرب العالمية الثانية... ومع أخذه المواجهة الصريحة التي سخّر لها الكاتب عصارة ذهنه المتقد ليبدو مغرداً خارج السرب الذي بدأ برحلة نقدية اتسعت فيما بعد" ص24. لذلك أجد من خلال النص الذي كتبه هاشم يحتاج سهيل إلى رحلة نقدية تفكيكية لما يحصل في التاريخ.

ويرى الناقد هاشم مطر في مادة سهيل المعنونة (الصورة المؤجلة لشارع الجمهورية)، في ص25 المطلوب "بعث الماضي بازدهار عمراني في الحاضر، وعليه سينحو سهيل في نصه إلى رؤية تفكيكية يكتنفها الحنين (كتذكارات بصرية) تشكل في الأغلب ذكريات منقبضة ترسم صورة حديثة جداً، خربة، لانعدام الجدوى في التخطيط العمراني الجديد". لذلك نجد التخطيط العمراني لأي مدينة لا يمكن أن يتم من دون مختص آركيولوجي، فما بالك بمدينة عتيقة ذات شرايين متقطعة ورئة مدمرة مثل بغداد، مع غياب ذهنية متّقدة جعلت كثيراً من مدن العالم معالم سياحية أثيرة إلا بغداد، فالبعض يرغب بتغيير أسماء شوارعها كونها لا تنسجم مع توجهه الطائفي مثل شارع الرشيد. لكن سهيل نجد له حنين وتساءل عن الفوضى التي حصلت في بغداد وشارع الجمهورية وأزقة أسواق الشورجة والغزل.

وفي مقال لسهيل (عتبات دائرية تصعد إلى البصرة)، يستطلع الناقد هاشم المقال ويجد أن البصرة تظهر في مقاله ص28-3- "كترميز مكاني لغياب دائم الحضور كحفر لأثر هيروغليفي يبدو طلسماً من دون شفرة. بل آثر سهيل بنفسه على إضاعة الخارطة التشفيرية حتى في طواعيتها. المطرقة لا تهدأ والحديد لا يلين، فيما يتحمل قلب الكاتب الضرب الشديد!... في وقت لن تبقى النخلة نخلة من دون مكان هو (البصرة) كما لن تبقى البصرة جغرافياً من دون ذاكرة متحولة تستدعي (حزن مشترك)". فضلاً عن أن هذا يقع في خانة الاشتغال الذي ألزمنا به أنفسنا لتوضيح آلية باختصار. وكقاعدة عامة إن كنت تقرأ مادة لن تلهب مخيلتك ولن تستدعيك لمشاركتها فأترك القراءة واستمتع بشيء آخر. فالمتابع لكتابات سهيل يرى بوضوح مغامراته في تناول أي عقدية لا تفتح رتجها إلا بمفتاح يمتلكه بنفسه لوحده. ولذلك نجد سهيل كناقد يقوم بعملية جراحية واجتراحية في نصه تقابله ميسرة بين النص والمرجع وقراءته النقدية.

فالناقد هاشم مطر نجده يأخذ بتفكيك اغلب مقالات سهيل سامي نادر ومادته من النصوص للحد الذي يكون فيه أعلى دراية باللغة واستخداماتها، ففي مقال سهيل (أحيا وأموت ع البصرة)، وهي مادة استكشافية لما يحدث وحدث عام 2008 في مدينة البصرة من اغراق أهلها بالحرب والاطلاقات النارية والصراع والفوضى والفقر والنذالة ووأد النساء من قبل المتريّفين أصحاب اللاوطن والهوية بعد حصولهم على مكافأة الديمقراطية، يتساءل سهيل "والسؤال للكاتب: فما الذي امتلكته مدينة يسرقها متدينون؟ سوى أن البصرة مليئة بالفقراء والوحوش"، لكن نجد الناقد هاشم يرى في ص37 أن "أهل البصرة الحقيقيين الذين ملاذهم (العمق اللامرئي) غير العابئين لقلة حيلة ومقام أرفع". لذلك نجد سهيل قد حشر نفسه بين سواد الأفكار، فهو الباحث عن صورة الإنسان بصفة التفوق والإتقان.

وهكذا يأخذنا الناقد هاشم مطر بسياحة في المادة الجميلة للكاتب والروائي والصحفي سهيل سامي نادر، فقام بتفكيك مادته بشكل جميل يرضي القارئ وأنصاف الأستاذ سهيل، ذلك الصحفي والناقد والأديب العاطفي والباحث عن الذخيرة المعرفية لكشف الحقول المعرفية كمنقب آثاري. فقد تناول الأستاذ هاشم الكثير من مقالات سهيل ومنها: (تأملات الآثار، الموت، السلطة)، ومقاله عن (جبرا)، و(الأطروحة الفنتازية لعلي الشوك: حكة جرح منسي)، و(الذي زارني في احلامي) وهي مقالة عن المخرج سامي محمد، و(ليث متي)، و(الجدلية)، و(غير المترابط)، وغيرها من المواد التي كتبها الأستاذ سهيل سامي نادر.

والموجز لمقالات سهيل سامي نادر نجدهُ مغامراً من خلال عرض أفكاره، ودائماً ما تبدأ مقالاته بخبر يجتهد أن يضع فيها ما سيكون خادماً لسرديته.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

في المثقف اليوم