قراءة في كتاب
عبد السلام فاروق: قهوة صباحية.. وقطع من نار!

كان جدي -رحمه الله- يقول: "إذا أردت أن تعرف قوة الرجل، فانظر إلى حجم السكين التي يحملها، وإذا أردت أن تعرف قوة المجتمع، فانظر إلى حجم الأكاذيب التي يصدقها". وهذا بالضبط ما يكشفه كتاب "صعود الوحشية المنظمة" لـ"سينيشا مالشيفيتش"، الذي يقلب الطاولة على كل من ظن أن العنف يتراجع في عالمنا كأنه موضة قديمة!
الكتاب لا يحمل بين دفتيه تحليلاً جافّاً، بل يمسك بيد القارئِ ليريه كيف تحول المنظمات الحديثة الدم إلى حب، والقتل إلى إحصاءات، والحروب إلى خطابات مذهبة. العنف هنا ليس غريزة حيوانية -كما يروج البعض- بل هو "صناعة بشرية دقيقة" تقوم على ثلاثة أركان: القدرة التنظيمية (كأن تحول دولة مواطنيها إلى ترس في آلة الحرب)، والتغلغل الأيديولوجي (حيث تصبح الجريمة فضيلة إذا غطيت بشعار مقدس)، والتضامن الجزئي (تلك الروابط العاطفية بين أفراد المجموعة التي تجعل القاتل يشعر أنه بطل حين يذبح غريباً) .
لماذا لم يعد تعذيب القرون الوسطى يفزعنا؟ سؤال يطرحه الكتاب بإلحاح. في الماضي، كانت المشانق تنصب في الساحات العامة، واليوم تنصب في غرف مغلقة بأرقام سرية. الفرق أن التعذيب لم يختف، بل تلبس ببدلة بيروقراطية. مالشيفيتش يذكرنا بأن المجتمعات القديمة -رغم قسوتها- لم تكن تملك أدوات تنظيمِ المذابح كالدول الحديثة. فـ"الهمجي" الذي يذبح عدوه بسيف بدائي أقل خطراً من "المتحضر" الذي يوقع على قرار إبادة بينما يحتسي قهوته الصباحية! .
"القاتل لا يحتاج إلى شر.. بل إلى أصدقاء!"
أكثر ما يقشعر له الظهر في الكتاب هو تحليله لـدور التضامن الجزئي في العنف. الإرهابي لا ينضم إلى التنظيمات لأنه يحب الموت، بل لأنه يحب رفاقَه! الجنود الذين ينفذون الإبادة الجماعية لا يفعلونها كمجانين، بل كـ"زملاء عمل" يخشون أن يخيبوا ظن رفاقهم. حتى العنصريون لا يكرهون ضحاياهم بقدر ما يحبون تشبيك الأيدي مع من يشبهونهم. هذه "أخلاق القبيلة الحديثة"التي حولت حتى الحقد إلى شعور جميل إذا قدم في إطار جماعي .
هل نحن حقاً أفضل من أجدادنا؟ الكتاب يجيب بـ"لا" كبيرة. نعم، لم نعد نعلق رؤوس الأعداءِ على الأسوار، لكننا اخترعنا "الإبادة الجماعيةَ المبرمجة". لم نعد نحرق القرى، لكننا نصنع مجاعات بالحصار. لم نعد نقتل بالسيوف، لكننا نبتكرُ أسلحة تميت دون أن تلوّث ضمائر القتلة. الفرق الوحيد أن عنفنا صار "عنفاً نظيفاً" يمارس بمفاتيح وأزرار بدلاً من الدم والعرق .
"الوحش يرتدي بذلة.. فاحذروه!"
في آخر الكتاب، تذكرت مقولة لأدونيس: "الحضارة ليست أن نصنع طائرات، بل أن نصنع إنساناً لا يستخدمها لقصف الأطفال". مالشيفيتش يعلمنا أن الوحشية لا تموت، بل تتطور. قديماً كان العنف فوضوياً كالبركان، أما اليوم فهو منظم كخط إنتاج في مصنع. السؤال الأهم: هل سنستيقظ قبل أن نصبحَ جميعاً عمالاً في هذا المصنع؟ من يقرأ التاريخ يعرف أن القتلة لم يختفوا.. بل تعلموا الكتابة والتوقيعَ!
الوحشية الحديثة: عندما يصبح القتل رياضيات!"
يقولون إن الحضارة تقدمت، وأنا أقول: نعم، تقدم سلاحنا، لكن هل تقدمَ ضميرنا؟! مالشيفيتش يجيب في كتابه بأن العنف لم يتراجع، بل تطور من الفردي إلى المؤسسي، من السكين إلى القانون، من الغضب العفوي إلى الخطة المرسومة. الفرق بين وحشية الأمس واليوم هو أن الأولى كانتْ تعترف بأنها وحشية، أما الثانيةُ فتلبسُ عباءة "الضرورة التاريخية" أو "الدفاع عن القيم"!
هل تعرفون لماذا نستيقظ كل صباح على أخبارِ مجازر جديدة ولا نصاب بالذعر؟ لأن "العنفَ المؤسسي" صار جزءاً من روتيننا، كالقهوة والجرائد. الدول لا تقتل شعوبها بالسيوف الآن، بل بالقوانين الجائرة، وبالصمت الدولي، وبالإعلام المزور. مالشيفيتش يذكرنا بأن النازيين لم يبدأوا بالمحارق، بل بـ"تطبيع الكراهية" عبر خطابات تبدو "عقلانية" في البداية!
لماذا نصدق أننا مسالمون؟ لأننا ندفع الآخرين ليقتلوا نيابة عنا!"
أحد أهم أفكار الكتاب هو "التفويض الجماعي للعنف". نحن لا نريد أن نلوث أيدينا بالدماء، لكننا نوافق على الحروب بالتصويت، نمولها بالضرائب، ونشجعها بالصمت. العسكري الذي يضغط على الزناد في ساحة المعركة ليس أكثر وحشية من السياسي الذي يوقع على الأمر، أو المواطن الذي يهتف "كلهم أعداء"!
وهنا يأتي السؤال الأهم: هل العنف غريزة أم خيار؟
مالشيفيتش يحطم مقولة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، ويقول إن المشكلة ليست في طبيعتنا، بل في كيفية تنظيم المجتمعات. العنف ليس رد فعل عشوائي، بل "تكتيك مدروس" تستخدمه النخب لتحقيق مصالحها. حتى الحروب الأهلية ليست فوضى، بل "إدارة للفوضى" من قبل من يربحون منها!
هل يمكن أن نعيش بلا عنف؟ أم أن السؤال نفسه وهم؟"
الكتاب لا يقدم حلولاً سحرية، لكنه يطرح فكرة خطيرة: "طالما يوجد تضامن جزئي، سيوجد عنف منظم". المشكلة ليست في كراهية الآخر، بل في حب الذات الجماعية إلى حد التضحية بكل من هو خارج الدائرة. الدين، القومية، الانتماء السياسي – كلها هويات يمكن أن تتحول إلى "رخص للقتل" إذا جعلت مقدسة!
هل نستحق أن نسمى بشراً؟"
في آخر الكتاب الصادر عن مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، يتساءل القارئ: هل العنف جزء من الحضارة أم أن الحضارةَ نفسها وهم نخترعه لنغطي عنفنا؟ مالشيفيتش لا يعطينا إجابة سهلة، لكنه يدفعنا لننظر في المرآة. نحن جيل يعرف كل شيء عن التكنولوجيا، ولا يعرف شيئاً عن الإنسانية. نرسل الصواريخ إلى المريخ، وننسى أن الأطفال يموتون في اليمن. نصنع روبوتات ذكية، لكننا لا نستطيع صنعَ سلام!
ربما كانت أعظم جريمة في عصرنا هي أننا حولنا القتل إلى شيء ممل. لم نعد نرتعب من الأخبار، لأن العنف صار رقماً عادياً في نشراتِ المساء. لكن مالشيفيتش يصرخ فينا: "لا تتعودوا! لا تتطبعوا! لا تنسوا أن الدم دم، سواء سال بالسيف أو بالقانون!"
كلمة أخيرة: هذا الكتاب ليس للباحثين فقط، بل للمستعدين لمواجهة أنفسهم. اقرأوه، ثم اسألوا: هل أنا جزء من المشكلة؟ هل أستطيع أن أرفض "التضامن الجزئي" حين يطلب مني كراهية إنسان؟ هل لو كانت لي السلطة، كنت سأصبح وحشاً منظمًا؟ "الوحش الحقيقي ليس من يقتل، بل من يجعل القتل مقبولاً!"
***
د. عبد السلام فاروق