قراءات نقدية

الحداثة المعكوسة في تراجيديا مدينة

saleh alrazukلا تنتمي رواية (تراجيديا مدينة) لزيد الشهيد إلى فن الرواية ولا إلى فن السيرة. وهي تتحرك بين النوعين بحرية ودون ضوابط.

بمعنى أنها تتذكر بمقدار ما تتخيل. ويتداخل السرد مع الوقائع الحقيقية في نسيج واحد. وهذه واحدة من الخصال الأساسية في مشروع الشهيد.

و إذا كان هو شخصيا يرى أن هذا البناء هو جزء من فلسفة الحداثة في الأدب بوجه عام كما ذكر في عدة مناسبات وفي أكثر من لقاء أدبي فإن هذا يبقى في إطار وجهات النظر.

لأن الحداثة بحد ذاتها رؤية متكاملة.

لقد كانت حداثتنا العربية وما تزال نشاطا يميل لتعظيم الذات وتهويل الانطباعات الشخصية ولم تكن في أي يوم إنتاجا مباشرا لعقل الفكر الصناعي وتوسيع المدينة.

و لو ألقيت نظرة على بدايات ما نسميه حداثة ستلاحظ أنه يدين للواقعية الاشتراكية بمقدار ما هو متأثر بالوجودية.

وهذا ينطبق على هذه الرواية.

إنها برأيي محاولة ضمن خط مشروع طليعي، يعتمد على التجديد بمطلق المعنى وليس التحديث على وجه الخصوص.

وبعيدا عن هذه المماحكات واللعب بالألفاظ والأسماء أرى أنها تستند لفلسفة جيل دولوز فيما يتعلق بمعنى الصورة.

هل هي منظور أم أنها تصور ومشاهدة.

بمعنى هل هي جماد أم فعل وتخيل.

تدور الرواية حول محورين:

1- حياة ناصر الجبلاوي وهو مصور ضوئي يحتفظ بالعديد من الصور التي تتكلم عن مرحلة من حياة المجتمع والمدينة. وهذا يعني العديد من الأشخاص والعلامات المعمارية التي ارتبطت بأحداث ووقائع. وكما ورد في الرواية: إن عدسة كاميرته تلتقط الصور وتثبتها على الورق. وصوره شهادات عن خواء مجتمع منكفئ تمثله رموز بالية من صميم وجوده. ص 88. وأجمل الصور هي التي تجيء بعيدة عن التكلف قريبة من العفوية. ص 88.

لكن هذا لا يعني أنه يخلو من النزعات والميول أو أنه محايد. بل يمكنه أن يتلاعب بالانطباعات لتمرير معنى من فوق السياق.

فهو يختار الصورة ولا يسجل بانوراما المشهد. وصوره تعكس ذائقته ص 12 ، بمعنى أنها ليست محايدة تماما ولا عشوائية أو بريئة. ولكنها نتيجة اختيار. أو أنها انتقائية.

لقد كان هيامه بالصور خلاقا. ومع أنها وجوه شخصيات تاريخية أو عامة فقد كان يتخيل الأمكنة. ص 14.

2- سينما السماوة والتي تعرض أفلاما من هوليوود مع أفلام تذكي الروح الوطنية.

و كما ترى الرواية لقد شكلت السينما مفترقا هائلا ودخلت حياة البشرية لتحقق حلما هو سيل من الأمنيات. ص 59. وأعتقد أن هذه المقولة هي خلاصة ذهن الروائي نفسه.

لقد وجد في هذه الأداة التي تضيف إلى الصورة حاسة الاستماع ( الصوت) والأداء ( الحركة) فنا ينمو وينهض ليؤثر في مملكة أحاسيس إبداع يتوهج ويحلق ويكتشف ويتفاعل ويتماهى . ص 60. وكان مثاله هو صالة سينما عبد الإله التي قربت المسافة بين الخيال والشعب.ص 60. ووفرت للإنسان العادي وسيلة للترفيه والتعلم ص 60. وهذه هي وظيفة الفنون كلها منذ فجر الخليقة برأي الدكتورة وين جين أويان التي لا تستثني فنا من أداء وظيفتين أساسيتين: التهذيب والتسلية (كما ورد في تحليلها لدور السير الشعبية والحكواتي).

فالدخول إلى السينما كما ورد في الرواية: يعني الدخول إلى جنة الأحلام ( وهي وظيفة للاستجمام)، أو دعوة إلى قاموس حياة يزودك بما تتمنى وما تحتاج من مفردات التعرف على تفاصيل الدنيا ( وهذه وظيفة تعريف وتعليم). ص 62.

و لكن في الحالتين: الرؤية، في الصور والسينما،تكون من خلف حاجز شفاف وهو الذي تنظر اليه الوجودية بكثير من الاهتمام وتسميه العازل لأنه المسؤول عن حالة الاغتراب أو وعي المشاركة.

فالصور الضوئية تراها في إطار وخلف لوح من الزجاج.

و الأفلام نراها على الشاشة الفضية ونعيش معها في ظلام دامس.

و قد اغتنم الكاتب هذه الفرصة ليستعرض معلوماته التاريخية والفنية حتى تحولت الرواية إلى صندوق دنيا.

من خلالها تطلع على الماضي وإسقاطاته فوق الحاضر. وهي إسقاطات إشكالية لأنها تتكلم عن جو الرعب والقتل والدمار.

وبهذه الطريقة تحولت الرواية إلى مجموعة من المربعات. مستقلة ومتداخلة.

و الرابط بينها المكان وليس التاريخ.

و هذه أول مشكلة، أنه يبني روايته عن مرحلة بمنطق استعادة الأحداث، كل على حدة، وليس بالتسلسل.

و أيضا دون استعمال تقنية تيار الشعور المعروف.

إنه يصور لوحات هي صفحات من ذاكرته.

و إعادة ترتيبها يكون حسب أولويات هذه الأحداث من وجهة نظره وليس حسب الفرض الموضوعي.

يعني إنه يبني تاريخ المكان نفسيا ووجدانيا وليس برؤية مجردة وموضوعية.

و لو تابعنا مع جيل دولوز يمكننا القول إن هذه الرواية تهتم بمجال الحركة وليس بالحركة نفسها.

فالصور لا تزيد من فهمنا للأحداث ولكن من انطباعاتنا عنها.

و لذلك إنها رواية انطباعية قبل أن تكون تعبيرية.

والكاتب لا يعبر فيها عن فكرة ملحة ولكن ينقل انطباع شخصياته.

لقد استعمل عبد الرحمن منيف هذا الأسلوب في شرق المتوسط ولكن استعمل عكسه في هنا والآن. فبطل شرق المتوسط ينقل إلينا معاناة معتقل سياسي في بلد عربي مجهول لتوسيع وتجريد الانطباعات العامة. وفي هنا والآن ينقل بالتبادل المعاناة وأثرها على الآخر ويصنع نوعا من الديالكتيك بين المكان التاريخي ومعناه.

و إذا كانت هذه الرواية تعاني من الإسهاب وتبدو مثقلة بمضمونها السياسي، فإن تراجيديا مدينة تبدو موزعة بين عدة تصورات.

و هذا يجعل منها ما يسميه دريدا بنموذج الدي لوغو سينترزم ( بمعنى ضد بنية عقل الحداثة المركزي).. فهي متعددة المراكز. ولها بنية منشطرة وأميبية. كما هو الحال في كل أدبيات ما بعد الحداثة.

و للتوضيح إنها تجميع لحكايات مستقلة بينها علاقة بسيطة. كما فعل برهان الخطيب في كتابه أخبار آخر الهجرات. وهنا تتحول القصص بالتراكم والتجاور إلى عمل مشروع روائي.

و ربما النموذج الأقرب إلى الذهن كتابات ميلان كونديرا والتي لا تقدم حكاية مركزية إنما رؤية للأحداث.

أو كوابيس تتخللها لحظات من الغبطة وبتراكمها تشكل قوام العمل وكتلته.

و بتعبير الناقد حمزة عليوي إن زيد الشهيد يبرع بالوصف ولكنه لا يعنى ببناء الحكاية. ووحدات السرد لديه تعتمد على مشاهداته وليس على تيار الأحداث المستقلة عنه.

إنها لا تتوالى وتتجاور.

و هو ما يعتمد عليه كونديرا بالضبط. فهو يهتم بتوسيع مجال الرؤية أكثر مما يهتم بمادة الرؤيا نفسها. ولذلك تلاحظ أن رواياته تنمو من داخله وليس من ضمن الواقع، وكوابيسه تعبر عن اضطراب في بنية ومنطق الفكرة أكثر مما تعبر عن ضرورات العلاقة بين الثلاثي المعروف: بطل الرواية ومكانه وزمانه.

و إذا لم يكن هذا عيبا وهو محض اختيار فني فإن الأعمال التي تركز على إسناد البطولة لصور متفرقة ضمن جو نفسي واحد قليلة. وربما تعد على رؤوس الأصابع. ومنها كتاب الضحك والنسيان لكونديرا وتراجيديا مدينة لزيد الشهيد.

كلا العملين إسناد وإسقاط. وهما أقرب لمفهوم فصول من كتاب له موضوع واحد ولكن ليس بالضرورة حكاية واحدة.

 

صالح الرزوق

كانون الأول 2015

في المثقف اليوم