قراءات نقدية

الشاعر حسن المطروشي ثورة انفعالية اصابها التشظي

wejdan abdulazizسيبقى الشعر تتعدد رؤاه بتعدد رؤى شعراؤه والواقع المحيط بافرازاته التي تحاول محاصرة الشعراء، لكن في دواخل الشعراء طاقات تحاول التفوق على سطوة هذا الواقع، ليكون المبدع أي الشاعر بمثابة التفاعل الوسطي بين العمل المنجز والعمل الخام بكل مواده والمستمدة اكثرها من اثار الواقع . التي قد تتداخل فيها نصوص سابقة وتجارب مختلفة لذوات أخرى ، لأن الرسالة الشعرية موجهة الى أكثر من مرسل اليه، لهذا فالشاعر مجبر لاختيار لغة مغايرة بكلمات انشطارية لتصيب اكثر من معنى، وتحمل اكثر من تأويل، ولهذا فـ (ان القصيدة الجديدة تحررت على صعيد تشكيل خطابها المستقبلي من احتلال وسطوة اللاوعي المجرد القائم على الانفعال البدائي، واصبحت خاضعة في مرحلة مهمة من مراحل انجازها الى الوعي بشكله المعتمد على الحرية والمتفاعل جدليا مع اللاوعي، تلك الحرية القصوى التي تخضع للجهد والتنظيم الخفي، الذي لايحصل بمنأى عن رؤيا الذات الشاعرة وحداثة مختبر المخيلة فيها)ص10 تمظهرات، فاختلاط الوعي باللاوعي يعطي للشاعر حرية اضافة لحضور القصدية في طرح الرؤى والافكار .. من هذه المنطلقات سادخل الى عوالم الشاعر حسن المطروشي من خلال ديوانه (لدي ما انسى) بقصائده المختلفة المتعددة المستويات والرؤى، حيث كانت تنحو نحو التناص والمثاقفة، فنلاحظ الشاعر المطروشي قد تناص في القول اللاحق، وهذا مدلول على ان الشاعر اصابته المؤثرات القرائية وتركت بصماتها على نصوصه الابداعية يقول:

 

(... وما كان أصْغَرَ إخْوَتِهِ

كَيْ يُدَلِّلَهُ الأَبُ،

ما كان أَجْمَلَهُمْ

كَيْ تُشَبِّهَهُ أُمُّهُ بالْغَزالْ

 

وما افْتَقَدوهُ مِنَ البيتِ

ـ مِنْ يومِها لَمْ يَعُدْ ـ

مُنْذُ مَرَّتْ عليه القصيدةُ هاربةً،

وأشارتْ إليه: تَعالْ!)

 

هذه رؤية قصدية في استحضار القصيدة الهاربة نحو عزلة الشاعر في معالجة قضية وجودية من خلال قصيدة (السرير) ذات الرمزية الواضحة في تعاملها مع الوجود، فالسرير لقاء مع الزوجين لايجاد حياة ووجود اخر بدليل قوله:

 

(سريرُ التقاليدِ:

زوجٌ جديدٌ يُتِمُّ فتوحاتِه،

كي يُقالَ ...!

وخادمةٌ في الخفاءِ

تُفَتِّشُ عن نُقْطَةٍ مِنْ دماءِ القتيلةْ

 

لِتُعْلِنَ للفَجْرِ نَصْرَ جِيادِ القبيلةْ

سريرانِ يحْتَفِلانِ بـ(زايِ) الزواجِ

وبينهما قُبْلةٌ مستحيلةْ)

 

وبقي في قصيدة (سميني العواصف) قلقا بين الطبيعة التي تحاصره بمقابل الحبيبة التي تحاول مكاشفة القميص بلغة مغايرة وتحمل قدرا من الغرابة والغموض لايقدر فيها على المكاشفة التامة ، لذا يقول : (شَفَتاكِ أَوْلى بي/مِنَ الطُرُقِ البعيدةِ دونما هَدَفٍ،)، وكأن الحيرة اصابته بالدوار بين شفتيها التي تمثل الواقع وبين الهروب نحو طرق السفر كملاذ للعزلة والابتعاد عن هذا الصراع، وكان ديدن الشاعر طوال رحلته الابداعية في ديوانه، هو الصراع القلق .. والربط بين اقواله السابقة (عَجِبْتُ لآدمَ:/دُونَ سريرٍ وأَنْجَبَ هذا العددْ!/سريرٌ لِأَفْتَحَ قلبي،سريرٌ لِأقْفِلَهُ للأبدْ!)، فهنا صراع وجودي يستمر ويستمر .. وتصاعدت عنده الحيرة وتصاعد ذلك القلق الذي جعله يدعو حبيبته الى فردوس اخطائه، لان احلامه سواحل والمقتولُ لا يَعْلَمُ عنْ مَقْتَلِهِ، ومن هنا يحتاج للرجوع الى لغة الطفل في قصيدة (اتركي بحرا) .. وحتى قصيدة (فقد) قد نحت منحى البحث القلق عن خبر عاطل كما هو لقاء المد والجزر، هكذا اصبحت القصيدة النثرية تسجل محنة ضياع الزمن وصراع الوجود واللاوجود ليبقى (النص الشعري الحديث حوار دائم ودينامي مع الاشياء، حوار ثر مبني على ديالتيك خاص، مشحون بقيم اصيلة تتسم بالتشابك والعمق والتعقيد، يقوم بمهمة تشكيل النسيج الداخلي عن طريق ربط الاجزاء المتوازية والمتقاطعة والمتضادة في النص الشعري، وينعدم في هذا الحوار ذلك التواطؤ التقليدي القائم بين عالم القصيدة ومساحة الفاعلية الذهنية المستقبلة عند المتلقي، والمعتمدة على خاصية الاشباع المحايد لمراكز الانتظار والتوقع فيه، لذلك فهي تصدم ذوق المتلقي التقليدي بما لاينتظر ، بمعنى ان المتلقي سيفقد فيها لذة تعود عليها، وتأسس نمط ذوقه على اساسها، لذلك فانه سوف يحتاج على هذا الاساس نوعا من تطبيع العلاقات مع عوالم النص الشعري الحديث،الذي ينهض بذوق المتلقي ويرتفع به الى مناطق جمالية طرية وطريفة ومباغتة، تضج بسحر غير قابل للنفاد فيكبر وعيه نحو استثمار قدرات العقل على نحو اكبروافضل واكثر جذبا ومتعة. على هذا الاساس يخرج النشاط الشعري من اطار اشباع الحاجة، فليس هو تمرينا جماليا مجردا، انما هو فعل خلاّق خصب، يلد قدرة لامتناهية على الابداع والخلق واستمرارية الانجاز)ص9 تمظهرات القصيدة، كان هذا هو مسلك الشاعر حسن المطروشي خلال مسيرته الشعرية الحافلة بالحوارات ومحاولة تدجين النصوص كما في قوله:

 

(وحْدي الضلالةُ، وحْديَ القُرْبانُ

               صَوْتي الفلاةُ، وظِلِّيَ الرُّهْبانُ

لُغتي أضاعَتْني هناك، ونَزْوتي

             تِلْك الوحوشُ، وجَدَّتيَ الكثبانُ

عَجِلاً أرَتِّبُ للغيابِ، وصُحْبَتي

             أَخَوايَ: هذا الذئبُ والثعبانُ

لي يأسُ حَطَّابٍ وأنتِ بعيدةٌ

             لا الشعرُ، لا الأمطارُ، لا العربانُ)

 

فهو يعيش هذا الضياع والغياب ويستثمر النص في تهيئة ذائقة المتلقي في قبوله، أي انه يعيش حالة الغياب واحيانا يستدعيها، وسرعان ما يعيش حالة الحضور، وقد يستدعيها ايضا، هذا الصراع والتضاد جعله يعيش القلق الذي نوهنا عنه سلفا .. ويعيش فجيعة الوجع ايضا في بحث مضني كقوله:

 

(أَبْصِريني

عاطِلاً عن كلِّ أدوارِ النبيينَ،

وحيداً في التضاريسِ،

أنا العارفُ بالأنهارِ،

سَمِّيني نَحيباً أَزَلياًّ،

وابْدَأي النزهةَ في الغاباتِ

حيثُ الليلُ يُغْويني كَفَهْدٍ،

أيَّ خَيْلٍ نَمْتَطي

كَيْ تَعْبُري نَهْرَ دَمي؟

يا امرأَةً/ سُنْبُلةً/)

 

فعبارة " سَمِّيني نَحيباً أَزَلياًّ،" دلالة واضحة على فجيعة الواقع الذي يكتنف الشاعر، الا انه يستدرك الحال بامرأة سنبلة ، ورغم هذا يبقى يعاني القلق والبحث عن الملاذات هربا من السياسات الحقيرة ، ثم يردد :

 

(والوطنُ المُحَنَّطُ في أغاني التلْفَزاتِ

وفي المراقصِ،

في نشيدِ الجيشِ،

في ذَهَبِ الخليفةِ،

في صَيارِفَةِ البيانِ

وفي بنوكِ الفنِّ،

يا وطناً تبَدَّدَ في مَواقيتِ القبائلِ

كَمْ نؤجِّلُهُ؟!

نباركُ بِاسْمِهِ دَمَنا

على الطَعَناتِ،

نفْتّحُ بِاسْمِهِ حَجَراُ ونَدْخُلُهُ!)

 

اذن نلاحظ ان ذات الشاعر متشظية تبحث عن وطن تبدد في مواقيت القبيلة وهي ذات منفعلة مبرر انفعالها (من هنا، كان الشعر اعمق انهماكات الانسان واكثرها اصالة، لانه اكثرها براءة وفطرية والتصاقا بدخائل النفس، ومن هنا كان الشعر وسيلة حوار اولى بين الانا والاخر، فهو لانغراسه في اعماق الانسان، فعّال وملزم، انه حميا تسري في الانسان وتسري من ثم عبر سلوكه ومواقفه وافكاره ومشاعره في الحياة والواقع)ص92 مقدمة للشعر العربي، وهكذا يبقى قلقا شديد الانفعال ...

 

(بلا زَمَنٍ عندي، إليكِ أجيءُ

                         وليس معي أرضي، فأين أفيءُ؟

أنا مَحْضُ ذئبٍ، يالَفَوْضايَ، هالكٍ

                         ومِنْ دَمِ إخواني الكبارِ بـريءُ

أغادرُ مِنْ ريحٍ لأخرى تُحيلُني

                            رَماداً، وإن بَعْثَرْتِهِ سأُضيءُ!)

 

ثم يقول:

(أموتُ وأَرمي للسِّباعِ رُفاتي

                       تأخَّرْتُ، لكني حَضَرْتُ وفاتي

أتَيْتُكِ، ما تُخْفي يدايَ سوى يدِي

                       ولا مِنْ صفاتي ضاعَ غَيْرُ صفاتي

ورُحْتُ، كما لو أنَّ ما تَحْتَ جِلْدَتي

                     مدينةُ أرواحٍ وشَعْبُ حُفاةِ!)

 

وهكذا يبقى الشاعر منفعلا بين الوجود واللاوجود وبهذا قد نعثر على قصدية حين حضور وعيه في القصيدة تتلخص في ثورته ضد مرارة الواقع والمحيط .. ويبقى الشاعر حسن المطروشي في ديوانه (لَدَيَّ ما أَنْسى) ضمن ثورة كبرى يعيشها المواطن العربي خاصة ..

 

وجدان عبدالعزيز

..................

مصادر البحث:

1 ـ كتاب (تمظهرات القصيدة الجديدة) أ.د.محمد صابر عبيد عالم الكتب الحديث ـ اربد ـ الاردن الطبعة الاولى 2013 م ص9 و10

2 ـ كتاب (مقدمة للشعر العربي) ادونيس/دار الساقي ـ لبنان بيروت طبعة منقحة ومزيدة لسنة 2009م

3 ـ ديوان (لَدَيَّ ما أَنْسى) للشاعر حسن المطروشي

 

 

في المثقف اليوم