قراءات نقدية

سالم محسن: التجريد في قصيدة النثر.. كشك خانم لعادل مردان أنموذجا

salem mohsen"الشعر يستحق حياة كاملة" ..  محمود البريكان

الشاعر عادل مردان في (كشك خانم) يبلغ بقصيدة النثر أعلى مراحل التجريد في استدعاءه للدلالات والإشارات المؤثرة داخل وعاء ،يستنطق العلاقات الثنائية في تقابلات و تناظرات ، يتناسق خطابها داخل نظام جمالي فريد من نوعه ،والتي جاء عبر تموضع و توتر في منطقة شغل تمتد من "فسيفساء البهجة والموت"** حتى "هدايا آب*** " والى آخر قصائده ، وما يشف هذا إلا عن لوعة ظلت تعتمل و تستعصي لتزفر عن (كشك خانم) كواحدة من القصائد المهمة في مشهد قصيدة النثر العراقية لما بعد 1991م .

 

خطوة بخطوة

 (كشك خانم) قصيدة تمتلك مرجعية ثقافية تجاوزت الكثير من المعايير لكي تعبر عن هم إنساني في مشهد مرئي في معظمه (منمنمة باكية في سماء المشرق) تَّوغل المخيال فيه تجاه أفقي بدافع من علاقة (المنمنمة) . البدايةً صدم القارئ (غفا نهدا بين يدي شاتوبريان) في إشارة الى الإحباط ، يقول: (نامت القينة في قراب السيف) حتى وجود (سجادة الحائط) تدل على السكون، ويعاضد ذلك (نامت غزوات أندلسية على الأطلسي) . خطاب المضمر للمهيمن عبر زمن يتبادل الأدوار. لا طائل منهما –صراع شهواني ،وغريزي ،ضمن جغرافية مقيتة باستثناء (اهجعي يا سمرقند قريرة العين ،اهجعي قريرة العين يا بخارى) . الزعيف يقتل من يحمله (المحظية تركع تحت قدمي سلامبو) وفي جانب روحي ،الإمام (ترك عمامته على الزبرجد) لم يتركها للنفس الآثمة (من يحمل الاضحيات إلى المحراب ؟) هاك السيوف (مغبرة في المتحف) إن اللوحة قاتمة في ألف ليلة وليلة (وتعود إلى بيت الببغاء) ،تكرار صورة القتل (الدجاج الأسود ساكن على مرمى الدم) (المشرفيات تؤخذ إلى النهر) ،و ينتقل ال ماضٍ قريب (نوم على الدرابزين العثماني) أي نوم؟ أي درابزين ؟عند (خيزران من وجع القسطنطينية) يمارس سطوته (في شوارع فاس) بلا رغبة (مدن مبنية على النسخ) إن السبات (في فسقية القياس يشهق (ابن بكار) (قمرات مبللة بالتواشيح) .خيال يريد ان يعوض ما فاته ، (الزنود مرصعة بثعابين الذهب) .إن الشاعر يسخر من كل هذه الصراعات ويرثى ابن بكار، ورامبو (في عدن ينتحب شاطئ الشاعر،المستشرق جاء به إلى هرر) ،وتلك الجارية التي تعد الحمام الى القنصل .من هي؟ ريحانةُ (يا قهرمانة الغد) !،أعدّي الحّمام للقنصل ،محاربٌ برتغاليٌّ يبحثُ في أرخبيلك ،زيتٌ من الدنمارك يدهنونَ به ظهركِ الذليل) في نهاية القصيدة الشاعر يلمح : (إلي أيّ جهةٍ تريدُ أيّها الحاخام ؟ القباب الحمر تركتها في قرطبة) وجهة الحاخام الجديدة .الى أين ..؟

 

الصور الشعرية

 كثافة الجُمل الشعرية وتقاطعها لبعضها البعض ، تظهر الإشارات والدلالات كصور في زمن معلق لم يستقر، كون الشاعر يبث استعاراته بما يعكسه من توتر ،وبلا هوادة يغطي أوسع مساحة من الهزائم والانتصارات ،من خلال ضربات متعددة الاتجاه.إن هذا التقاطع سيفرز لنا صوراً ساخرةً -كاريكاتيرية Caricature ،لا فوتوغرافية ، يسخر بوعي حين يستخدم الانتقال مابين الأزمان للوشاية عن تعدد زوايا الانهيار ،ان الشاعر معروف باستخدامه للصيغ البلاغية ذات الإيحاء والكناية والتورية ، وان تفرده هذا جعله متميزاً عن باقي أبناء جيله من الشعراء ،اي ان الصورة الكاركتيرية جاءت متطابقة مع طريقة التجريد التي يستخدمها في إيراد إشاراته وعلاماته مع توتر جاء ملبياً لفكرة القصيدة ،بالإضافة الى كون قصيدة النثر في بعض خصائصها المعتادة هي قصيدة تقطيع ومونتاج ،يراد منها إعادة إنتاج ما موجود وفق رؤية يطرحها من خلال آلية الحذف والإضافة في إيقاعية متسارعة تتلائم مع تشفير هذا الكم الهائل من المرئيات ، مابين فرح وحزن ، في صوت مدو ،يريد منه الشاعر إشهارا على الملأ، إضافة الى ذلك ،نجد تنوع استخدام الجملة الاسمية والفعلية والوصفية زاد من تكثيف محمولات النص ـوان قلة أدوات الربط والعطف أعطى للقصيدة قراءة مقطعية (ومض) وتخليصها من الحواشي والزوائد ، وهو شرط من اشتراطات قصيدة نثر .

في مقالنا هذا، أردنا ان نعزز ما ذهبنا إليه في مقال سابق حول بعض الجوانب في الشعر بشكل عام ،وفي قصيدة النثر بشكل خاص ،حيث نجد بان التجريد والتجسيد خاصيتان مهمتان لهما من دلالات وبراهين، وقد أوضحنا الجوانب التجريدية لدى الشاعر عادل مردان في قصيدة (كشك خانم) وتلمسنا بالنص حقيقة مهمة وهي :إن الصورة الكاريكاتيرية جاء بمستو متواز مع النسق الخطابي الساخر ما جعل القصيدة لديه عبارة عن عجينة متماسكة ومتلازمة ،وقد ساعد طول القصيدة النسبي أن تكون ذات بناء محكم بمروره على مضامين تشكل كأسئلة تطارد القارئ العراقي والعربي على حد سواء .سوف نتناول في مقال لاحق التجسيد في قصيدة النثر ،هو اقرب ما يكون ملبيا لما ذهبنا إليه في مقالاتنا السابقة مع الاستشهاد بالنص .

 

كشك خانم*

" مُنمنةٌ باكية ٌفي فضاء المشرق

سقط َالموتُ على الحاجب

رَفرْف جفنٌ أخضر

غفا نهدُها بين يدي (شاتوبريان)

نامت القينةُ في قُراب ِالسيف

نامتْ قرونٌ على سَجادة الحائط

نامتْ غزواتٌ أندلسيةٌ على الأطلسيّ

أهجعي يا سمرقند قريرةَ العين

لقد اخذتِ كُلّ شئ حتى الزّخارف

اهجعي قريرة العين يا بخارى

البخورُ من الهند

و المحظيةُ تركع تحت قدميّ (سلامبو)

المهراجا المنحني في شركةِ الطيران

فيله يسحب خرطومه على الارض

تقدّم الإمام الى المنبر

وترك َعمامته على الزّبرجد

نامَ طفلٌ ألثغ على دكّة الخان

من يحملُ الأضحيات الى المحراب ؟

أقواسُ النصر تجلسُ مغبّرة في المتحف

العباءاتُ تهرعُ في استدارةِ الشوق

شهرزاد تتوضّأ بفجرها الأخير

وتعودُ الى بيتِ الببغاء

دجاجٌ أسودُ ساكنٌ على مرمر الدّم

المشرفيّاتُ تؤخذُ الى النهر

لِتُطفئ صرخات النسوة

نوم ٌعلى الدّرابزين العثمانيّ

خيزرانٌ من وجع القسطنطينية

يدورُ في شوارعِ فاس

مدن ٌمبنيّةٌ على النسّخ

في فسقية القياس يشهق (ابن بكار)

قمراتٌ مبللة بالتواشيح

زنود ٌمرصعة ٌبثعابينِ الذّهب

تتنفّسُ باردةً في صلاة الجمعة

في عدن ينتحبُ شاطئُ الشاعر

المستشرقُ جاءَ به إلى هرر

الوصيُّ يُطعمُ طواويسهُ في السقيفة

ريحانةُ (يا قهرمانة الغد) !

أعدّي الحّمام للقنصل

محاربٌ برتغاليٌّ يبحثُ في أرخبيلك

زيتٌ من الدنمارك يدهنونَ به ظهركِ الذليل

إلي أيّ جهةٍ تريدُ أيّها الحاخام؟

القباب الحمر تركتها في قرطبة "

 

سالم محسن شاعر عراقي من البصرة

......................................

* قصيدة من مجموعة الشاعر عادل مردان (من لا تحضره السَّكينة) 2006 –طباعة :مكتب القبة – البصرة

** (فسيفساء البهجة والموت) مجموعة من القصائد القصيرة للشاعر نشرت قبل 1991م

*** (هدايا آب) قصيدة للشاعر ،نشرت بعد 2003م

 

في المثقف اليوم