قراءات نقدية

رائد جبار كاظم: تحطيم ثنائية الأنا والآخر في (حبر على قلق) لنادية الدليمي

raid jabarkhadomوحدها هي الكلمات، بقداستها وفخامتها، من كانت تقف وراء سر أنجذابي وتفاعلي النفسي والفكري والشعوري منذ لحظة القراءة الاولى لـ (حبر على قلق) تلك المجموعة الشعرية ذات لـ (22) قصيدة بصفحاتها لـ (58) من الحجم المتوسط، في طبعتها الأولى عام 2013، والتي نشرت ضمن مناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية، للشاعرة العراقية (نادية الدليمي)، تلك الشاعرة التي لا أعرف من سيرتها الذاتية شيء الا ما هو مدون على الصفحات الأخيرة من مجموعتها الشعرية هذه.(**) ولكنني عرفت شيئاً كثيراً وكبيراً عنها وعن سيرتها الفكرية والشعرية والعاطفية من خلال قراءتي لـ (حبر على قلق)، فهي تنتمي الى جيل الشباب الذي يخفق بالحيوية والعاطفة والفاعلية، وهذا ما تُخبرنا عنه أشعار المجموعة ونثرها، التي فيها من الجماليات الشيء الملفت للمتلقي، في الاسلوب واللفظ والمعنى، وتُسحرك وتُبهرك الدليمي في أقتناء أفكارها وموضوعها وألفاضها، حتى لتجد في تلك الاشعار الشيء الجميل والفني والمريح، في الفلسفة والحكمة والتصوف والحب والجنون والشعور واللاشعور، وفق أسلوب فني وشعري عالي الجودة، أسلوب فيه من العاطفة البليغة وبلاغة العاطفة، وقد كان لموضوع الأنا والآخر حضوره الواضح في هذه المجموعة، والذي سعت الشاعرة لتفكيك وتحطيم تلك الثنائية لتبقي على (أنا) واحدة، وهي التي تتكون من ثنائية أول الأمر لكنها في مرحلة الفناء تصبح ذاتاً وأنا واحدة تضم الاثنين معاً، روحاً وقلباً ومشاعراً، لتحلق في عوالم سحرية متعالية تغيب عنها لغة الوصف والتعبير والكلام.

ولا أطيل عليك الكلام بهذا المقام، فستخبرك كلمات الدليمي وأبياتها وحكمِها بذلك السحر والحب والجنون، الذي يفوح من عطر تلك المجموعة الشعرية الأنيقة، فكراً وأسلوباً وعاطفةً.

 

 (مدخل) (1)

قالَ : أُحبكِ كيفما تكوني

قُلتُ : سأكونُ كما تُحِب

أنتَهِزنِي غيمةً لم ترتَكِب الهطولَ

لأفيض حُباً على أخاديدِ ظمئكَ

فقد أنتظرتُكَ

قاب عُمرينِ،

أو أقصَى

من التَلهُف..

كُل الأشياءِ من نسلِ الـ (لا شيء)

كُل الأشخاصِ من نسلِ الـ (أحد)

كُل الجهاتِ تُفضي الى الـ (لا مكان)

كُل الساعاتِ تَمضي نحو الـ (لا جدوى)

وحَدكَ

تحملُ كُلَ معاني الأشياءِ

حتى غيابُكَ

كائنٌ لهُ حُضُورهُ..

هذه هي القصيدة الاولى التي قدمتها الدليمي لتكون مدخلاً أولياً لمجموعتها الشعرية، وفيها من المشاعر والعواطف والفلسفة ما تجعلك تهيم في عالم الخيال والتجريد وتغوص في مدن ميتافيزيقة تجعلك مطمئناً أكثر فأكثر من الواقع المعتم الذي نحياه. لاحظ ما تقوله :       

 

كُل الأشياءِ من نسلِ الـ (لا شيء)

كُل الأشخاصِ من نسلِ الـ (لا أحد)

كُل الجهاتِ تُفضي الى الـ (لا مَكان)

كُل الساعاتِ تَمضي نحو الـ (لا جدوى)

ولكن الدليمي تحطم  كل تلك الـ (لآت) واللامعنى  لتجعل من الحبيب كُلها الذي لا يُحطم ولا يُهشم ولا يُهمش، ليكون الكل الذي يجمع كل تلك القوة الملهمة والملهبة للقاء الأنا بالآخر ليُشكل (أنا) أكبر تصنع الحياة والوجود والبقاء، كما وتجعل للغياب قيمة ومعنى ولذة نستطيع شعوره والتمتع به والعيش معه، لاحظ ما تقوله الدليمي :

وحَدكَ

تحملُ كُلَ معاني الأشياءِ

حتى غيابُكَ

كائنٌ لهُ حُضُورهُ..

الغياب الذي لا نطيقه، وأي غياب هذا وأي غائب، أنه الحبيب الذي لا يطاق غيابه، لقد حضر موضوع الغياب عند الدليمي ولكنها جعلت منه حضوراً روحياً ووجدانياً لا يغيب مهما كان غيابه طويلاً أو بعيداً أو صعب المنال، لتصنع منه حضوراً يأبى الغياب، وهذا ما نلاحظه في قصيدة (إلهُ الحُضُور) التي تقول فيها : (2)

تُتقنُ المكوثَ

بقُدرةِ طِفلٍ لائذٍ

فيعتِنقكَ الحضُور إلهاً

تُخفِقُ في الغيابِ

لأنكَ لن تَبُلغَ سِنَ القسوةِ

بالكادِ،

تتَقمَصُ دورَ غَيمةٍ

ثُم تَسُجدُ عندَ أصابعٍ عَطشِى

إصغِ

لأنحتَ لكَ عالماً من أربعةِ حروفٍ

ونبضةٍ

إفتَح قلَبكَ، وحَدق

لتَسمعَ ما يجولُ حُلُمِي من جُنونٍ 

يا أنَا

يا نَحنُ

يا كائني المخلوق من طينةِ النقاءِ

أذعِن

لأُرَصَعكَ بالحُبِ

ثُمَ

أنهلُ منكَ الحياةَ..

هكذا هو الحبيب الذي جعلت الدليمي من غيابهِ حضوراً ذو قيمة ومعنى وجمال، الذي تنهل منه الحياة، ويُشكل وجوده الغائب الحاضر كينونة وجودها وحياتها وكل ما تبتغيه من معنى واشياء، ليكُون دائرة متكاملة بأشتراك الاثنين معاً تحت مظلة الحب والصداقة والوئام، وذلك هو نوع من الحب الأفلاطوني الخالد الذي طرحه في فلسفته المثالية العالية، والذي تطمح أليه الشاعرة أن تناله.

تلك (الأنا) المشتركة أو الأنا الكبرى أو الأنا الواحدة بين الحبيب وحبيبه، بين العاشق ومعشوقه، حين تنصهر لتكون ذاتاً واحدة بكل معنى الواحدية، وفناء الذات في الذات والانا في الانا، لتكون كينونة واحدة ترتقبها الدليمي من خلال قصيدة (لأنكَ أنتَ) التي تقول فيها : (3)

لأنكَ لا تشُبِهُني

لأننا منجذبانِ بِفعلِ التناقُضِ

كُنتُ مَا لَم أجرُء أن أكونهُ

إحتمالٌ لما كانَ يُمكنُ أن أكُونَهُ

إحتمالٌ لما كانَ يجبُ أن أكُونَهُ

أنايَ الأُخُرى

قبلَ ولادةِ التنقيحِ

أحببتُكَ

عشَقتُ

ألغام الدهشةِ التي تفُجرهُا فيَ

لمَساتُكَ

فلا تحُاول أن تَكونَنِي

وأبق أنتَ..

نعم لقد شغلَ وشكلَ ذلك الآخر أنا الشاعرة وكينونتها الوجدانية والفكرية وكلها الذي لا يتجزأ، وشدة البحث عن ذلك (الآخر الأنا) وكينونته الفريدة العجيبة أصاب الدليمي بـ (دُوارُ الَوجدِ)، تلك القصيدة التي تحمل معاناة وعمق خطا وخطوات الباحث عن أناه في الآخر، الغائب في الواقع والحاضر بعمق في مخيلة الحبيب، حيث تقول الدليمي فيها :(4)

تَنثُرني الحَقِيقةُ بَعيداً

أُلَمِمَ بقَاياَيَ

وأَسلكُ مجَازاً يأخُذنِي أليكَ

أضيقُ بما حَولِي

أجترحُ حُلماً بِرحاَبةِ كونٍ  

لأضمنَ فُوضِويةَ التحليقَ مَعكَ

أتوكأُ على ما أدخرتهُ من هُنيهَاتٍ

لونتُها في غفلةٍ من شحُوبٍ

تحَتشِدُ فِيَ

أئِنُ

أنضُحكَ من مسَاماتٍ تفُضي أليَ

أرتدي الصمت وأمضي

يَشربُ من حلكَتِي

 الليلُ

يالهُ من هيامٍ وجنونٍ ذلك الذي يحُلق في فلك الأنا الآخر، والآخر الأنا، ليشكلان ذاتاً تليق بالأثنين معاً من فرط عشقهما لبعضٍ، ليصلا الى مرحلة الاتحاد والفناء، ومن أنا الاثنين تكون أنا الجماعة، ،أنا ألـ (نحنُ) لتقول لنا الشاعرة في هذه القصيدة : (5)

أنتَ :

ـ مِرآتِي

ـ الناطِقُ بأسمِ القلبِ دُونَ تخويلٍ

ـ حشرجةُ الـ (ترحل أرجُوكَ) في حناجرِ أصابعي كُلما همَمتَ بالرحيلِ

ـ جسدُ الكلامِ الذي لم أُسمعكَ سوى ظِله

ـ نزقُ المشاعرِ المصفدةِ بأغلالِ الكتمانِ

الى أن تصل الشاعرة بالقول :

ـ قُربكَ في البُعدِ، وبَعُدكَ في القُربِ

ـ طريقي المُعبَدةُ بإحتمالِ خُطاكَ

ـ سمائي المُلبدةُ بالأمنياتِ

ـ خُضرةُ حُبي الدائمةُ

ـ شذا النرجسِ المُتفتَحِ في روابي قلبي لحظةَ هُطُولكَ

ـ الشيءُ في كُلِ شيءٍ

ـ أختصارُ الكونِ

وأنا :

شيءٌ من أنتَ.. 

ها هي تُدرك أذاً أنها جزءٌ من حبيبها الذي يعد كل شيء في وجودها، أنها لا تستطيع البقاء من دونه، أنه أكسير الحياة والبقاء، والفناء فيه لا يعد موتاً وعدماً، بل بالعكس يتحول الفناء فيه الى بقاء، لأنه ديمومة القلب والروح والوجدان، ولذلك خولته تخويلاً مطلقاً في كل شيء، حتى يصل المحبوب الى يكون كل شيء في حياة الحبيب، فهو يمث قوة له، في حركاته وسكناته، في نومه ويقظته، والتسليم المطلق له والذوبان فيه، فتقول الشاعرة في قصيدة (إحتيال) : (6)

بحيلةٍ ما

أقنعَ خَريفُكَ أغصاني بالتعَري

وأَغرى أمتدادُك

رُوحي

لتِنسابَ نَهراً بلا ضِفتينِ..

يالهُ من ولهٍ وعشق وذوبان في هذا الكائن الذي تذوب فيه كل المشاعر والامنيات، والروح والجسد، الذي تخاطبه الشاعري بـ (قديسي)، ولكنني أجد فيها (قديسة) أيضاً لتكون كفؤاً لذلك القديس السماوي الارضي الذي يمنح حبيبته خبز الحياة وطعمها ورونقها ولونها، ويالَ هذا القديس المحظوظ بتلك العاشقة الفانية التي تُشعل نفسها شمعاً في طريقه، وهو دائم الحضور في خطاب ووجدان وفكر حبيبته التي شنقها حبه لتصل الى درجة الاحتراق به من فرط ولهها وعشقها، فتقول الدليمي في قصيدة (تُهجُدات عاشقة) :  (7)

هَا جِئتَ تُشاطرنِي كُلي

يا أقتراحَ الفجرِ

تُشذبُ غوغائيةَ ولَهِي،

أنامِلُ أحتوائِكَ

تُحاورُ سنابلُ لهفتي،

هَسهسَات حنانكَ

قديسِي

لا تأخُذ جمري بأثمِ التوقدِ

دَعني أُطلِقُ عصافيرَ رغبتي

تَفضُ سماوات المُحالِ

لا تُسرج نبضاً علمتهُ الوُثوبَ

مَوتانِ يفصلاني عنكَ

فَذرني أجدلُ تراتيلِكَ

طوقَ أمانٍ

نعم هكذا كان الآخر في نفس وقلب الأنا، أنا ليس له مثيل، أنا كبرى بها تحيا هذه الأنا العاشقة، حتى لكأنني من فرط حبها وعشقها له لم تعد أنا الآخر أنا مغايرة، بل أنا واحدة وتوأم له في كل شيء، ففي (ومضات) الشاعرة نجد تلك الغيرية التي تتحول الى أنا مفعمة بالحيوية والحياة والديمومة، اذ تقول في حبيبها : (8)

(حُب) 

أحببتُكَ حالما رأيتُكَ

كما تعشق أُمٌ طِفلاً ولدتهُ تواً

(شوق)

بنهمٍ جهنمي

ألتهمُ ـ إشتياقاً ـ كُلَ ما يطرأُ منكَ

(طُمَأنيِنَة)

طِب حباً

إنكَ في قلبٍ أمينٍ

(صَمت)

لِصَمتكَ وقعُ الضوءِ على مرآةِ رُوحي   

هذا ما أبصرته من كلمات وعبارات الدليمي في (حبر على قلق)، الذي تكشفت لي من خلاله جماليات الاسلوب واللفظ والمعنى، وحضور الأنا والآخر بصورة ملفتة ومغرية بصورة عاطفية مميزة، مُحاولةً الغاء هذه الثنائية وتحطيمها بين الحبيبين (أنا / أنت) و (هو / هي) و (الانا / الآخر) الذي أدركته وأنكشف ليَ من تلك المجموعة، بما أمتلكه من تحليل متواضع ومنهج وأسلوب وكلمات بسيطة، أتمنى أن تصل بوضوح الى قلب المتلقي ووجدانه، فهو غايتي وسعادتي ومُناي من وراء ذلك.

 

د. رائد جبار كاظم

.....................

الهوامش :

 (*) كاتب وباحث أكاديمي عراقي وأستاذ مساعد في الجامعة المستنصرية ـ كلية الآداب ـ قسم الفلسفة. [email protected]

(**) نادية عبد العزيز حمد الدليمي، من مواليد العراق ـ بغداد 1976، حاصلة على شهادة البكلوريوس من كلية التربية قسم اللغة العربية في جامعة بغداد، وقد نشرت عدد من القصائد في الصحف العراقية، وشاركت في عدد من الانشطة الثقافية في بغداد والمحافظات. 

(1) نادية الدليمي. حبر على قلق. دار ميزوبوتاميا. العراق ـ بغداد. 2013. ص 7ـ 8.

 (2) المصدر نفسه. ص 15 ـ16.

 (3) المصدر نفسه. ص 21.

 (4) المصدر نفسه. ص 23 ـ24.

 (5) المصدر نفسه. ص 39 ـ40.

 (6) المصدر نفسه. ص 41.

 (7) المصدر نفسه. ص 51.

 (8) المصدر نفسه. ص 29ـ30.

 

في المثقف اليوم