قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. سلوك (4)

madona askar"إذا كانت شراهة الأكل في الرّشد تعويضاً عن حرمان في الطّفولة، فالحرمان في الطّفولة هو عقاب على ماذا!؟" (*).

الاختبار الأقسى والأشدّ ظلماً في حياة الإنسان هو ذاك الّذي يتمثّل في الحرمان في مرحلة الطّفولة. الحرمان من الحبّ، من العاطفة، من الأم، من الحرّيّة، من الوطن، من الطّفولة.

يفتح تساؤل أنسي الحاج جرحاً بليغاً في أغوار راشدين كثيرين محطّمي الأعماق حتّى وإن بدا عليهم ظاهريّاً التّماسك والاتّزان والاستمتاع بالحياة. أؤلئك المناضلون في العلن مهشّمون في السّرّ، يترجّون من ذاكرة بائسة لحظات فرح طفوليّة تنعش  رصانة تتلاشى في مخدع الذّات أمام صور مهشّمة  وملامح متعبة.

الطّفولة هي الحياة، وإن اتّسمت بالحرمان، وافتقدت لمقوّمات المرح، والبراءة، والتّلقائيّة، اتشّحت الحياة بالخوف، والوحدة، والألم. إنّها مرحلة استدعاء الكمال الإنسانيّ، إلّا أنّ الحرمان يعزّز النّقص فيها ويلقي على كتف الإنسان أثقال مستقبل نفسيّ مضطرب. وكأنّي بالطّفولة الممزّقة حالة استباقيّة لرحلة وعرة في عالم أقلّ ما يقال فيه أنّه مرعب. فإذا كانت الطّفولة سلسلة محطّات مرعبة ومتعبة، فكيف ستنمو المراحل اللّاحقة؟ وكيف يفهم الإنسان سبب الظّلم ويتفادى ممارسته؟

"كلّ منّا يريد أن يحافظ في ذاته على ولد كأنّه ولا يزال يرعاه. وأحياناً يَدفع ويُدفع في المقابل ثمناً لا يستحقّه ذلك الولد." كلّ منّا يتمسّك بالطّفل السّاكن فيه لأنّه مدرك أنّه الحياة. إلّا أنّه غالباً ما يتوه عنه، أو يُفقده إيّاه ثمن أهداف لم يسعَ لها، أو واقع لم يختره. قد لا يغيب هذا الطّفل من داخل الإنسان لكنّه ينعزل، ويفتقر للنّشاط والدّيناميكيّة. لذا  نرى عالم اليوم في خلل عظيم، ذلك لأنّه باع طفولته في سوق الرّشد الخبيث، بل قتلها ليحيا الظّلم والقهر والعنف.

الطّفولة الحيّة تفهم لغة الله تلك الّتي يجهلها الرّاشدون، وتجتهد عقولهم لفهمها  ولا تبلغ إلّا اليسير. ألا يقول السّيّد المسيح: "إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السّماوات"؟ (متى 3:18). الطّفولة تعلم السّبيل إلى الله، وتعاين قلبه وتسكنه. والمحرومون من الطّفولة يظلّون في حالة بحث عنها وإن دون وعي وإدراك منهم. يقسون على أنفسهم، ويفتقدون لدفء ذلك الكائن الّذي لا يعلم سبب عقابه على حرمانه من الطّفولة.

 

..............

(*) سلوك- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 104

 

في المثقف اليوم