قراءات نقدية

انتصار عبد المنعم في كبرياء موجها

قال بابلو بيكاسو: "أترك جسدي بالخارج لأقوم بأداء عملي"

تذكرت هذه العبارة وأنا أقرأ "كبرياء الموج" منزلقًا إلى هذه الدوامة الروحية شبه الخالصة، متيقنًا بأن انتصار عبد المنعم قد تركت جسدها خارج غرفة مكتبها وهي تنجز عملها هذا.

هي المسحورة بشذى النور المنحدف عليها من طاقات الأضرحة، والمتأجج في مشكاوات الهيام بدفقة المعاناة اللذيذة التي تؤمن الكاتبة بأنها تتموقع في بؤرة الكون تنتظر من يكشف عنها الغطاء.

وإذ كانت تعرف معرفة يقينية أن الحضور أحيانًا لا يكتمل إلا بالغياب، وأن العلم اللدنِّي يمكن أن ينقذف إلى القلب من وراء حجاب، وأن العقل قاصر، والوجدان بمقدوره الرؤية عبر ألف باب، إذ كانت تعرف كل ذلك فقد اختارت عمدًا لبطلة قصتها هذه أن تفقد الذاكرة تدريجيًّا لتحصل على "غيبوبة" هي والانجذاب الصوفي سواء. لكأنها تغمض العين لتتعمق رؤيتها، لكأنها تنسى الأعراض لتتوحد بالجوهر المكنون. حيث الغرق لا يعني الغرق والموت لا يعني الموت. أليست حياة الصوفي احتراق الفراشة في نار المصباح كما يقولون؟!

 

**

هي انتصار عبد المنعم التي تتشابه مع بطلة قصتها في أنها ابنة مكان وتعمل به وتقيم في مكان آخر، هي من حصلت على جائزة الدولة التشجيعية كبطلة قصتها، هي ابنة ادكو القريبة من رشيد والمقيمة في الاسكندرية، وربما كانت ابنة الضابط الذي يصطاد بنفسه من شاطئ الكلية الحربية حيث يعمل.

هذه الشخصية التي تغلق على نفسها الباب لتحفر في قاع الروح عميقًا هي التي ستعَبِّر بها الروائية القديرة عن مكنون روحها.

**

في أربعة عشر فصلا أبدعت "انتصار عبد المنعم" روايتها "كبرياء الموج"، وبأنوين احتل الأنا الأول منهما ثلاثة عشر فصلا تاركا الفصل الأخير للأنا الثاني. وتكليلا لكل فصل من تلكم الفصول أتحفتنا الراوية بسطرين أو ثلاثة حيث الخط أكبر وأكثر دُكنة، وعلى درجة رفيعة من الشاعرية والتكثيف وإن كانت الشاعرية لا يخلو منها سطر من سطور الرواية.

على سبيل المثال يُستهَلُّ الفصل الأول هكذا:

مـوجٌ من فوقه مـوج..

ونُتَفُ السحابِ لنا أيك.

نتأمل في السطر الأول فإذا به يستحضر الآية القرآنية "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور" (سورة النور آية 40)

أما السطر الثاني فهو بمثابة النجوة العالية أو سفينة نوح الآمنة حيث تشكل نتفُ السحاب أيكة إنقاذٍ تظلل الأحبة وتمنعهم من الغرق في بحر الظلمات.

لينفرط علينا بعد ذلك براح الفصل الأول حيث اللاوعي أو الحيرة  "وأنا مثل عصفور خيروه بين الطيران في قلب الشمس أو الحياة بين مخالب أسد." ص10

انزلاق إلى القاع أم صعود بلا شراع، أما الرؤية فهي ليست سوى تمعن في داخل الـ"أنا".

وتتوالى بيارق المواكب الصوفية....

"تتجلى لي عباءة أبي العباس المرسي، وتستحيل بُراقا أرتقي عليه، وأنظر إلي من بعيد." ص9

فهل تجيبني يا "شاذلي" وتقول لي من سيشدُ إليَّ الرحالَ وأنا لا أعلم لي مثلك مقاما؟ ص9

"وجدتني إلى جوار البدوي الأحمدي، حيث صالحتني الدنيا ذات ليلة، ومنحتني وجه الحقيقة سوارا يحرر معصمي". ص10

"أتلمس الطريق عائدة حيث ينتظرني بساط المُرسي بُراقي الأخضر، سيعيدني حيث مكاني الذي أنساه ويذكره هو دوما. روحي تائهة تجوب الكون ترتقي قباب الأولياء، تيمم شطر مقاماتهم قلبا تاق لانعتاقه قبل أن يكون الكون وقبل أن توجد الحدود. وأنا مثل عصفور خيروه بين الطيران في قلب الشمس أو الحياة بين مخالب أسد". ص10

وكثيرًا ما يحدث التجلي والانكشاف بعد غمرة التردي في النسيان:

    "ينكشف الغطاء، وتتجلى الوجوه الغائبة، صور تتهافت أمام ناظري، تومض ثم تخبو، خدر يتسرب إلى مفاصل روحي رويدا رويدا.." ص10

كم هي خائفة مرتعبة من الرحيل والغرق في الظلام، تواقة إلى الحفاظ على صورة الكون الوضيء:  نقرأ: "جفناي يقاومان لقاء ثقيلا، يجاهدان كي يحافظا على صورة الكون المضيء خشية الرحيل والغرق في الظلام.." ص10

إلى أن تدخل في مقام الخَدَر!:

"خدرٌ لذيذٌ يثقل الرأس ويجسد الأحلام ويجعل لها صوتا ورائحة. أذكر جيدا أول مرة تعرفت فيها على هذا الخدر، عندما أفقت في غرفة العمليات وجسدي لم يتخلص بعد من أثر المخدر. في منتصف المساحة الفاصلة بين الحياة والموت، على أرجوحة الحياة كان الموت يلهو بي، يجذبني إليه، وما إن أشعر وكأني صرت جزءا منه، يدفعني بعيدا، وتنسل روحي عائدة من فراشه الوثير، لأغرق مرة أخرى في لجة اللا مكان واللا زمان." ص10

والفصل رقم 12 معنون بـ "سيدي عبد الرازق" وسنقرأ فيه مدى تغلغل النظرة التبتلية الشعبية في قدرات أولياء الله الصالحين:

"على البحر، مقام سيدي عبد الرازق، لا أحد يقيم له مولدا، ولكن زميلتي منى، تداوم على زيارته، تقدم له الهدايا من الشموع من أجل قريبتها التي لا تنجب، فالعجائز يقولون إنه يشفع للعاقر فترزق بالولد، ويقولون أيضا إنه رد البحر، ووقف في وجهه مدافعا عن البلدة حين أراد البحر إغراقها وطمس معالمها " ص123

**

تؤكد نظرية النقد الموضوعي، والتي كان من دعاتها "عزرا باوند" و "ت. س. اليوت" على أنَّ الأدب ليس تعبيرًا عن شخصية الشاعر وعن أحوال مجتمعه، وإنما هو خلق، وصحيح أن الأدب قد يعكس ملامح من شخصية خالقه أو من بيئته، ولكن وظيفة الفنان هي أن يحيل هذه العناصر كلها إلى شيء جديد وهو العمل الفني المستقل بوجوده عن كل ما أسهم في صنعه" (محمد عزام، المنهج الموضوعي، ص16)

وما قيل عن الشاعر هنا يمكن قوله عن الروائي أيضًا، وينطبق ذلك تمامًا على "كبرياء الموج". فرغم التشابه الممتد عبر الرواية بين انتصار عبد المنعم وبطلة روايتها والتشابه البيئي أيضًا إلا أن ذلك لم يقف عائقا أمام عملية "الخلق" تلك، بل أضفى عليها عمقًا وزادها حميمية وغمسها في بوتقة الواقع المعاش فأظهرت ما في باطنها يموج حياة وإقناعًا.

**

انتصار عبد المنعم في هذه الرواية شاعرة كما هي حكاءة، لغتها الشعرية تأخذك من مطلع الرواية إلى منتهاها. تلك الرواية القريبة من السيرة الذاتية. البطلة امرأة تضمحل ذاكرتها باطراد فتكتب لكيلا تتلاشى. حتى اسمها ما عادت تتعرف عليه. أسيرة الفقد. نقرأ: "وأي حزن أعظم من فقد الأخوة يا زينب؟ ولكنها عبرت قبلي، خانتني؛ تماما كما فعل حسن، تركتني هي الأخرى. المدهش أن الأمر لم يعد بعد ذلك محزنا كما ظننت. مؤخرا فقط، أدركت أن توالي صفعات القدر على أرواحنا، تعطينا مناعة في المستقبل، تحررنا من قيود القلق والخوف على أحد." ص83

"هي التي دخلت غرفة العمليات مرات وفي كل مرة يسلبها طاقم التمريض كل شيء يربطها بالحياة ص84 "ظننت أني اعتدت طقوس الدخول وترقب النهاية بينما أخضع لمفعول السحر الذي يخلفه المخدر علي. خاضعة خانعة رغما عني مستسلمة لأيد تنزع، وأخرى تعدل من وضعية الكانيولا التي اخترقت يدي اليمنى. ألمح نافذة صغيرة في الباب المؤدي إلى هذا الممر الذي ينتهي بحجرة العمليات، أتلمس وجها ينتظر عودتي بعدما رحلت زينب، أجاهد ذاكرتي كي تنسى اسما بعينه، أخشى حضوره في غياب الوعي. تراودني أمنية الموت وأنا مُغيبة." ص85

**

لا تسلسلَ زمنيًّا في كبرياء الموج، بل دفقات شعورية وانجذابات إلى حوادث يتفتق عنها الوعي السردي، واتكاء على واقع موجود في داخل النفس البشرية ذاتها حيث "ظلت الواقعية قائمة ولكنها اتخذت بعدا مغايرا، فبدلا من أن كانت بعدًا خارجيًّا، وهو ما يحدث في الطبيعة، في الكون، في التاريخ، إلى آخر ذلك، أصبحت بعدًا داخليا، وهكذا تحول السرد من حوادث تتسلسل زمنيا إلى مشاعر تنبثق دون إعداد مسبق داخل النفس البشرية. وأصبحت الرواية عند فرجينيا وولف وجيمز جويس وغيرهما تتكون في غالبها من تداعيات تنطلق من اللاشعور متجاوزة تقاليد الحبكة والقصة إلى الأحلام والمخاوف والآمال الفردية التي ... داخل النفس البشرية. ص17/18

**

وعلى مدار الرواية نلمح توترَ لغةِ الحكي في إيقاعها الجموح، وإيغالها في آفاق التخييل المبدع، والرغبة في إعادة صياغة العالم على أسس من الطهر والنقاء وتخفيف آلام البشر. ولا يخفى استثمار أديبتنا لـ"فضاء" الأضرحة المثقل بالرمزية الأسطورية في خلق عالم روائي خاص بها، ندلف إليه فإذا بنا إزاء تقابل كوني ما بين الذاكرة والنسيان، الحياة والموت، البر والبحر، الأرض شبه الجدباء والحدائق الغناء، كل ذلك مجدول بأنفاس العرفان الذي هو سبيل الصوفي وصولا إلى المعرفة الخالصة.

إنها اللغة الشاعرة التي تموج بها كبرياء الموج، حيث "يمكن القول بأن الحياة المعاصرة التي اجتمعت فيها شتى التيارات المتناقضة والتي أصبحنا فيها نترك الشواطئ الآمنة ونخرج إلى بحار الفن والأدب التي تبتلع فيها الدوامات أعتى المراكب وتلوح جزر لا يلبث أن يبين ألا وجود لها في مواصفاتها التي بدت للملاحين، ولهذا تلاقت القصة والرواية بالقصيدة وأصبح الراوي أو القاص الذي كان في وقت من أوقات تطور القصة مجرد ملتقط لأحداث يومه منافسا جسورا للشاعر في شطحاته وأحلامه وبدت القصة الحديثة كقصيدة نثرية اختلطت فيها أنفاس الشاعر والقصاص" (د. مراد عبد الرحمن مبروك، الظواهر الفنية في القصة القصيرة المعاصرة ص76)

ألم يقل "ابن عربي" في الفتوحات المكية "إن الحروف أمة من الأمم، مكلفون ومخاطبون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقتنا، وعالم الحروف أفصح العالم لسانا وأوضحه بيانا". الفتوحات المكية ج1 ص260

الاغتراب:

كان "محيي الدين ابن عربي" يرى الاغتراب في انفصال الإنسان عن الله وهبوطه من الجنة، "إن أولَ غُربة اغتربناها وجودًا حسيًّا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا، ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة" (شعبان أحمد بدير: جدلية الاغتراب في الشعر الصوفي)... فما بالكم وبطلة قصتنا مشحونة بالغربات:

"غريبة وحيدة أنا منذ ودعتني، والغريب يا مولاي كما تعلم، زاده الأحلام، إن دغدغ الموج منه الأقدامَ، تردد في قلبه صوت الوجع القادم من غربة المكان والزمان.. فهل أتاك أنين المــوجِ حين أودع أشواقَه العطشى، قواربَ أدمنت الرحيل إليك وحدك؟" ص19

"لا بيت لي يا حسن، هي منازل تنقلت بينها، كلما دخلت واحدا أعددت العدة لمغادرته إلى آخر. من رحيل إلى رحيل لا أملك سوى حفنة من الأمنيات أغلقت عليها قلبي، والكثير من الزهور والنباتات أحملها معي كأوراق هوية أتعرف بها على نفسي". ص35

"اشتهيت أن أقابلني ذات يوم خارج المرآة التي يرون ذاتي فيها، وخارج أحلامهم التي لا أشاركهم فيها، أصابني سأم التواجد بالنيابة عن الغائب في واقعهم، بينما واقعي خال إلا من بعض حكايا، وبحر أصادقه، وموج أعلم أنه ينتظرني بفراش من لؤلؤ ومرجان". ص125

وكانت المغتربة تحلم وتحلم....

تحلم بحياة من نسج مخيلتها...

تحلم بالحرية:

" سنوات طوال شربت فيها ما يزيد عن مئة ألف موجة، كل موجة عاشرت مئة ألف سمكة، كل سمكة كان لها- مثلي- حلم في العيش في البحر حرة بلا قيود". ص42

الأحلام:

بين حلم اليقظة وحلم النوم وغيبوبة إجبارية أو متعمدة يتهادى ركب السرد في هذه الرواية مما يضفي عليها شيئا من الضبابية المحببة أو حالة من الإلغاز الذي يحتاج إلى تفكير أو تفسير:

"وحيدة أقبع داخل حلم لم أجد من يشاركني فيه، فنسيت كيف أخرج من الحلم وكيف أقفز إلى الأحداث وفوقها" ص18

"حلمت مرات عديدة بنفس الحلم، أن هناك الكثير من الثعابين المرقطة مثل تلك التي كنت أرى أثوابها ملقاة على أبواب جحورها تركض خلفي في المسافة بين بيتنا وبيت خالتي، كنت أركض وهي تركض خلفي، وعندما أستيقظ، أحكي لأمي فتسألني والقلق يملأ قلبها سؤالا واحدا كل مرة: هل لدغك واحد منهم؟ أجيب بالنفي، فينبسط وجهها وتحمد الله وتخبرني أن هناك من يريد الكيد لي ولكنه لا يستطيع... "

ص40/41

"لم أنس ذلك الحلم الذي رأيت نفسي فيه أرسم جدران المستقبل البعيد. رسمت الكوخ وبجواره بركة للمياه تسبح فيها بعض أوزات، وأسماك، وورد النيل، ولدهشتي تسربت المياه من كراسة الرسم لتبلل نورسا كان يقف وحيدا يستظل بزهرة. غضب النورس وهام على وجهه في كل البحار بعيدا عن أرضي التي مهدتها له. وبقيت وحدي أرسم بيتي تارة بالقلم، وتارة بالقرميد الأحمر، أراقب النورس في رحلة التيه ما بين سماء لا يقدر على الوصول إليها، وبحر لا يجد الشجاعة في نفسه ليخترق موجه. وعندما أفقت من الحلم أدركت أني لا أزال أتأرجح بين نصف روح تلبستها يمامة وديعة تسكن حافة العالم، و نصف آخر غشيه نورس يدفع به نحو جنون الموج. ومضات ذاكرتي تحتفظ بمفردات البحر ونوارسه، بقيت عصية على التلاشي بصورة كاملة، ما إن تجد فرصة حتى تقفز وتأتيني كالبرق تنير الذاكرة لدقائق ثم تخبو..  ص74

الفضاء الروائي:

وانتصار عبد المنعم في كبرياء موجها لا تستعرض أمام مخيلتنا الفضاء أو الحيز الروائي في رؤية هندسية إو إقليدية أو بهدف أن يكون المكان أمامنا مطابقا للواقع، بل كانت تمرره عبر قناة الوعي الذاتي للراوية. تأمل معي هذا الفضاء الذي وُلدت فيه الأنا الأولى في هذه الرواية:

"ذات بحر، ولدت بين ماءين، تحت شجرة رمان، وبجوار شجرة زيتون عتيقة. منذ الميلاد ألتفت ولا أرى سوى الماء، البحر عن شمالي، والبحيرة عن يميني. وما بينهما مدينة جافاها النيل فانحنى مبتعدا مغازلا مدينة رشيد المجاورة، لترث رشيد حب الحياة وبهجتها الحلوة كماء النيل، وترث إدكو الشقاء مِلحا يوميا. وأنا ولدت في مدينة الشقاء حيث لا شئ سوى الماء والرمال. في الصيف كنت أختلس الزيارة لخالتي "رشيدة" التي أطلقوا عليها لقب "السمرة" لأنها جاءت قمحية اللون في عائلة ورثت بياض البشرة والعيون الملونة من الأجداد النازحين من المغرب العربي قديما. تقيم خالتي في منزل تحيط به مساحات شاسعة من الأرض الرملية تنتشر فيها أشجار النخيل والعنب، وحولها العديد من الكثبان الرملية.. بين بيتنا وبيتها مسافة كبيرة منبسطة خالية من البيوت، تكثر فيها الحشائش الخضراء والتي تمتلئ بالزهور الصفراء شتاء، وفي الصيف لا يبقى سوى القليل منها وسط الأعواد الجافة الكثيرة التي تغوي مخلوقات الأرض فتسكنها.. كنت أرى هنا وهناك شقوقا واسعة تمتد تحت الأرض، بلا نهاية.  كثيرا ما صادفت بالقرب منها جلد ثعبان في الفترة التي تغير الثعابين فيها أثوابها وتستبدلها بأخرى جديدة.. كانت أمي تخشى علينا الذهاب إلى خالتي فرادى مخافة الثعابين والعقارب التي تندس تحت كل شيء. هذه الثعابين سكنت أحلامي بعد ذلك." ص40

تبدأ بـ"ذاتَ بحر"، وذات هذه لا يعقبها سوى ما يدل على زمان؛ فنقول: ذات يوم، ذات ساعة، ونقول ذات صباح وذات مساء مع وجود من يصوب لنا لنقول ذا صباح وذا مساء، وليس هذا مجال تحاور الآن، المهم أن انتصار جاءت بذات وبعدها مكان لتقول ذات بحر، ولدت بين ماءين، فنحن إذن بحضرة بحر كبير ضاج بالماء وماء آخر هو البحيرة، بينهما ولدت الساردة لتتخير لمولدها الاقتران بشجرتين مباركتين مذكورتين في القرآن هما الزيتون والرمان،  لتعود وتؤكد أن ميلادها كان بين الماءين وأن الماء سيناديها طوال رحلتها الحياتية. المكان غاص بالسحرية المائية، وها هي تأتي على ذكر رشيد الملغمة بالتاريخ، والمغرب العربي وما تحمله الكلمة من دلالات قبل أن تعرج على الكروم والعنب والحشائش الخضر والزهور الصفر وصولا إلى النهاية الحتمية في الأعواد الجافة ولوجا إلى شقوق الثعابين!

نقرأ:

"أنا، المحكومة بالوحدة، وجدت شمسي في ساحة البدوي الأحمدي. تركت فراش الفندق الوثير وجلست إلى جوار مولاي حتى مطلع الفجر على رصيف المدينة. في ليلة مولد البدوي الختامية، أصبحت مدينته آمنة هادئة إلا من أشعار وأهازيج ومديح.. نستمع ونسبح في الملكوت لعل الزمن يتمدد ويستطيل قبل أن يحين موعد الرحيل.. بتنا تحت سماء الكون، بين شمس هاربة، وقمر يتلصص، نقسم على أناجيل اللؤلؤ، وآيات المرجان، بألا نغمض منا الأعين، فيغيبُ كلانا عن كلينا طرفة عين. ص21

بل كان الحيز الروائي يُحمل إلينا عبر "هدير الموج" أو "قطار الجنوب" حيث لم يعد مجرد مكان ذي مساحة بعينها وإنما تحول إلى "رؤية فنية". (نستعير هذا المصطلح من د. عبد الملك مرتاض من كتابه "في نظرية الرواية ص127)

ثم إن الزمن في كبرياء الموج لم يكن إلا كما ارتآه ميشيل بوتور "صورا منضدة للأمكنة، وتوفيقية فضائية" (حسن نجمي، شعرية الفضاء السردي ص48)

 

محمد محمد السنباطي

 

 

 

في المثقف اليوم