قراءات نقدية

تبعثر الفحم والطباشير عند تخوم السيل والايقاع

في جهده المثابر (الشاعر فلاح الشابندر) يضع العالم تحت نصوص من فوضى وايقاع وتموج وانسلال افكار، ولا مكان للفحم دونما طباشير أو قصبة جيء بها من ماء الجنان وصاغها فحم كتابة. تلك هي واحدة من مساحات العرض الشعرية ذات المقاصد الهادفة ان يكون النثر الخالص شعراً خالصاً، بموجب نصوصه (فحم ... وطباشير).

لننظر في بعض اشكالاته الشعرية .

أولاً: تفتيت الشعرية

نفهم من قراءة (فحم ... وطباشير) ان رحلة الشعر من البدء (من مرحلة الفحم) حتى مرحلة الطباشير (مرحلة التعليم المنتظم)، هي رحلة الكتابة من جانب التسجيل والتجميع، وقد توزعت بحسب التطور الحضاري والتقادم الزمني:

ـ (التاريخ والفنون= الفحم ) .

ـ ومن ثم (الفنون والفلسفة = الطباشير) .

ـ من ثم (المعرفة التجميعية الجديدة = الالكترونيات) .

هذه المبادئ في الاشتغال الشعري توهمنا، او تقرر لنا طريقاً في الفهم شديد الوضوح والتضليل، غائرا في تفاصيل جديّة تحتمل الكشف المخادع او المؤكد، لكن كل ذلك يجيء على اثر تفتيت الشعرية بتقسيمها بين الكتابة والخطاب .

أ ـ تاريخية وفنية وتجميعية الفحم

الفحم، منه وفيه عرف الانسان البداية لتاريخ الحضارة، بمسريين هما النار والنور، النار طورت الاغذية ومن ثم طوّلت العمر، والنور وسّع مدارك العقل، وكلاهما اخرج الانسان من الكهف الى الفضاء الأرضي المتسع مما اكسب الشعرية إبّانهامعرفة الاتساع فقط . لننظر:

[ اتدري يا صاحبي ....؟

على قيد الغيبِ

يمضي البحرُ ...!

والليلُ الى سواه

فراغاً ..

يتناظر....، و..... .... ... اللافتة ........! ] ([1])

في المقطع المتقدم متجهات عدة تخص النظام الشعري منها:

1 ـ كلها ترتبط بشعرية الكتابة (اللفظ والمعنى) .

2 ـ الفراغ ثلاثة انماط:

ـ المصرح به = الليل الى سواه فراغا .

ـ الفراغ المعوض عنه = و.....

.... ... اللافتة .........

ـ الفراغ المخمّن = قيد الغيب تناظر الفراغ .

3 ـ قيمة التبعثر شكلية تخص

التسطير مثلما نراه في توزيع الجمل والنقاط . وتركيب التبعثر يأخذ قيمته من تشظي المعاني مع احتفاظها بدلالتي الفحم (البدء الحضاري) ورمزية الشعر (الشعور الانفعالي).

4 ـ المقطع يؤرخ لمضي الزمن (اتدري ياصاحبي)، وتلاحق جدب البحر والليل (يمضي البحر والليل الى سواه) وتراكم خيبات البشر (يمضي البحر والليل الى سواه فراغا).

5 ـ تقنية تروس الفراغ تساعد على تثبيت قيمة التبعثر .

6 ـ تتأكد قيمة الاتساع بكونه تاريخاً مصنوعاً بالكتابة عبر التناظر واللافتة .

7 ـ النار والنور والعقل ينسحبان نحو مجهول الفحم (البدئية) كونهم مدركات هيّأت الفعلَ الشعري وسحبته من ظلمة العتمة الى متسعة التبعثر التي تلتم بقوى الانسان كدفقة حياة تقترب بأثرها من نور الفحم (كتابة وانارة ودفء) .

8 ـ يتم الشاعر منظومته بجعلها مقاطع قصيرة مشفرة تشبة تجميع اللقى، تحتمل ترجيحاً متناوباً للدلالات، قابلة للتحكم والفرز ليصير التجميع فنا للجمال، يبين هذا عبر قابلية المقطع والمقاطع اللاحقة على الانتشار السريع لتوافق جملها ومضمونها مع الوسائل الشبكية الحديثة.

ب ـ تاريخية وفنية وتجميع الطباشير

الطباشير كمرحلة وسيطة بين التعليم المنتظم لفترة ما قبل 2000 وفترة ما بعد 2000 يعدّ مرحلة حضارية زمنية مهمة قد استوعبت العصور الحديثة وأرست أُسس التوجه العقلي لجميع مناحي النشاطات البشرية، وحتى الكتابة على الورق لم تنافسها إلّا بقدر ما ينقصها من حيوية في النقل والتنقل .

سيتعامل الشعر مع هذه المنظومة بشيء من المغامرة الفنية. لننظر:

" المحكي السردي (هو المتواليات السردية ذات النفس القصير) "([2])

التاريخ في الشعر هو المحكي القصصي من الشعر يأخذ باللقطة القصيرة ذات اللفظ المقتصد.

ولأن التبعثر سمة عامة في مجموعة الشابندر (فحم وطباشير) فقد ارتكن الى البعثرة المنضبطة للأهداف ذاتها المنوّه عنها سابقاً.

لنتقصَ بعض مضامر الشعرية القصصية وما سيفيض عنها من مضامين تأريخية وفنية ومعلوماتية تجميعية، في مدونات الشابندر عبر المقطع الآتي:

[ ستون نافذة مشرعة

 لمروياتِ الريح

تنادو..، ا

من اقصى

المدينةِ المعدومة بأنفاس أهلها

تنادوا:

لقد أظْللتنا ..،

فما معناك

في صباح

الحديقة ..؟

فرطةٌ

عصافيرَ تدنو ... تدنو ... تدنو

تلتقطُ

مساقطَ حلواه ...

يصفعُها بسيف الريح ..!

تتقافزْ ..،

تتطايرْ

يتطايحُ ضحكاتٍ ... طفلُ الحديقة ] ([3])

المظهر المخادع ببساطته لا يستجيب للقراءة المتعجلة. انه بسيط المظهر معقد العلائق، إذ يتبنى موضعة سردية مُعَمِّدَة لمتسعة شعرية ذات اختزالات عديدة تصل حد الحرف والعلامة الفاصلة او الايقافية .

لنتخيل القصة صورة شعرية . فالقصة (القصيرة جدا) تبدأ بـ ((شخصية تدوينية لها ستون مصدر لمعلومات عن مرويات تخص الريح، ولأن الريح لها اتجاه وحركة وتقادم وجودي فيمكن أن تصير بطلاً لقص سردي شعري، ويمكن للريح أن تتجه لأهدافها بتحريض ممن اوصاها (اي الشاعر) وعيّن لها وجهتها التي تتعكز على وجود مادي هو المدينة، لكن المدينة معدومة لأن أنفاس أهلها تستغيث دونما مغيث فالريح لاهية بمصائر أخرى تلقي عليها الضوء والمطر فيستغيث أهل المدينة محتجين بأن الشاعر ـ مُوَجَّه رياح التغيير والتدمير، قد ظللهم بغمام كاذب، وبصباح لا يجمع العصافير إنّما يفرط بها، فما ان تقترب من حلوى النور حتى يصفعها ويَهمُّ بذبحها مثلما فعل بأهلها تواً . لكنها عصافير شجاعة تفلت من سيف الريح وتتضاحك على سذاجتها، تضحك مثل طفل الحديقة جذلى فالطبيعة مُلكُها مهما حاولت الريح او البشر ان تهم بامتلاكها ومن ثم تخريبها.)) هذه الصورة السردية المُوَسِّعًة لشعرية القص في الشعر هي صورة شعرية ذات قوى جمالية تتصف بها من جانبي دلالة البعثرة (توزع الجمل والمعاني) ودلالة التشفير القصصي، انها بهذا قص قصير جدا يتوالى بحسب الايقاع الشعري . في التأني القرائي سنتوصل الى:

1 ـ ستون نافذة هي ستون رواية تاريخية تحتاط بالفن التدويني الخالص دون حاجة الى تنصيص كونها هي من يُمَوّل المُدَوِّنَ بما يلزمه .

2 ـ يتمثل الجهد الفني في، أن بطل الروايات ومدونها متآمران على الحقيقة، متجاوزان عليها فهما من جعلها مدينة موتى لأنهما ـ ولثلاث مرات ـ يقتلان الخير في النفس البشرية:

ـ الاولى عندما أهملا نداءَ أهل المدينة حتى الموت .

ـ المرة الثانية عندما ظللا أهل المدينة بغمام كاذب .

ـ المرة الثالثة حينما أوقعا بالعصافير تحت سيف الريح ومنعوها من حلوى الضوء.

3 ـ في الجمع بين القص والشعر وتاريخ الحكي يبرز جانب التذكير بالتدوين والتعليم، أي بالورقة والسبورة، والقلم والطباشير، وما يسببانه من تعلم منتظم يدقق ويحصي ويستنتج الوقائع (الحياتية والنصية) . هذا هو من جعل الشاعر معلماً يُنَبِّهُ عن خطر الغمام الكاذب، والضحكات الطفولة في غير أوانها، يجمع المعلومة ويصنفها من ثم يبثها حانية مُهَذَّبَة مُهَذِّبَة.

هذا التجميع ينتظم في سيرورة الفعل الأهم، ترميم وجدان الشعر بالحكي، الشعر الصالح للانتشار السريع كونه شعراً وقصاً قصيرين متواليين في الروي، منسجمين في الرؤية والايقاع، حتى التبعثر الكلمي يبدو مثل سيل يتوزع ليجتمع عند ساقية جديدة، قد يكون النت واحداً من دواعي نظمه وليس التعليم بالمخاطبة والطبشور فقط .

 ثانيا: أرخنة الفنون وتجميع النت

منذ عام 2000 والعالم يحتفي بمنجزات الاتصالات السريعة، لكنما الآن هي وسيلة عادية لا تثير الانبهار كثيراعلى الرغم من انها الآن وسائل اعلامية وتقنية وصورية متسعة الاستخدامات تكاد تهيمن على جميع الانشطة العملية والعلمية والمعلوماتية .

الجديد لدى الادباء والشعراء هو أنهم وصلوا الى قناعة كاملة بجدوى الانتشار السريع والاختزال وتنويع الأثر ليكون تجميعياً، فيمكن الاستعاضة عن مرحلة الفحم الثقافية بالانتاج شبه الفطري المنظم، ويمكن تعويض مرحلة الطباشير بالتعليمات والوصايا التي توجه الكُتّاب وتصحح وتترجم مآثرهم تلقائياً . ويستمر العمل بالتجميع الورقي ثم يتم تحويله الى معلومات في حافظة (النت).

فنية وتاريخية وتجميعية هذه (المحفوظات) تصير ملفات قابلة للزيادة والحذف والتوليف والارسال والترافق مع فنون اخرى، اهمها الصورة والخبر والارشفة والسرد .

إذاً (النت) غيّر المنظومة الادبية شعراً ونثراً، ترى كيف استوعبته المقولة الآتية:

" قوانين التواصل الاجتماعي تفرض نوعاً من التخاطب المُشَفَّر عَبْرَ علامات يتم الاهتداء بها لكون الشفرة تمتلك خاصية إبداعية متفردة " ([4]).

قد نجد بؤراً دلالية تلائم قوانين التواصل الاجتماعي من جانب الابداع المتفرد والعلائم والتشفير، فضلاً عن التبعثر التفاعلي والمعلوماتية .

بؤر دلالية

[من وسع

قلبي ... فكرتي ... جمرة دمي ... وبعضي الطفل

طفل اكبر مني ............الحب

السجايا رعوية تلتقي الريح والمطر ..! ـ فحم وطباشير ص38]

نرى البؤر الدلالية نمطين بمظهرين هما: طفولة الحب وفطرة الريح والمطر . كلاهما عفوية منظمة، ولهما نظام تعلمي ولهما مبدأ تجميعي، يجمع تاريح الحب وفنية الشعر واستثمار النت (السرعة والقصر) بطفولة الموجودات..

إذاً الدمج بين المعقلن وغير المعقلن هو الشيفرة التي تنحت القيم عَبْرَ علائم (القلب، الفكر، الزمن، السجايا) .

 قيم تفرد ابداعية

[ايتها التلقائية الخيرة من هنا الممر..

خيوط الفجر ريشة عائمة

تفتح نوافذ ضوء لحمامات مساقة

الى المطلق . ـ فحم وطباشير، ص38]

يؤر القيم نوعان، التلقائية والمطلق، وهما قيم تتضمن تطوراً من عصور الفطرة العفوية الى التقدم الفلسفي، ثم عبوراُ الى التجميع الفني للنت، إذ الفن مرحلة تجمع التلقائي والمطلق بضمر واحد هو شيفرة الخير .. هذه الشيفرة تلم وتبعثر وتعيد تشكيل القول ليلائم الانتشار الجديد السريع . تلك القيم تجيء مضمورة ومصاغة كفعل شعري له مظهر: (الممر = الاتجاه، العوم = التيه، الضوء = المعرفة).

مفاتيح المضامر:

[ امرأة من ندى

تتقاطر على الصمت ندى

ورشح الضوء في قطرة

ندى صحو يمطر ندى. ـ فحم وطباشير، ص39]

البؤر الرئيسة لمفاتيح المضمر القولي هي علائم (الندى) التي يتفرغ اليها (الصمت والضوء) ثم (المرأة القطر)، وتكاد المنظومة تخفي كل المراحل (الفطرية والعلمية والتقنية التجميعية) وراء سيولة واختلاط هذه المراحل برؤية الصحو المقابل لشيفرة ستأتي لاحقاً .

الآن يمكننا التطرق الى موجبات فك اشتباك الصورة كونها هي مجمع العلائق، ومن ثم هي الجذب التسويغي والتسويقي . نجمل الصورة بالقول الآتي:

(امرأة الجمال تَلُمُّ ندى الطبيعة فتسري بنداها نحو الصمت، ترشه فيتحول الى ندى امرأة، يرش نفسه على الضوء فيصير الضوء امرأة ندى ثانية، ثم يصير ثالثة، مع الصحو انثى من جمال تمطر نعمة وجودها على الارض، لأن الندى لا يمطر، انما يبرق بالبياض لحبيباته عَبْر السطوح الملساء شبية النساء) .

شيفرات:

[لحظة عطر .... عصفور ينفلت خيط السحر ............ وأتيه

تمرق من بيني ...،

وبمودة يشاكس قميصها الريح

اشهى ما فيه .. سرٌ فيه، نهدٌ فيه، ثمرةٌ مدلاة . ـ فحم وطباشير، ص40]

تشكل المضمرات الدلالية (السر) الأساسي لكلمات المظهر الكتابي عدا كلمة واحدة هي (نهد) ولولاها لانغلق المعنى وضاع نهائياً . وهي بتنظيمها الصياغي موزعة كأنها مراحل تموج متنقلة بين فطرة وتعلم ومعرفة تجميعية في (النت)، لكن توجد في النص مضمرات تشفيرية مظهرها الكتابي يتوزع على: (لحظة عطر، انفلات عصفور، خيط سحر، تيه، مروق بين منشطري ذات، مودة قميص، مشاكسة ريح، تشهي اكتناز، توقع سر، تدلي ثمرة) .

لو أعدْناها الى معادلاتها الاقرب لشعرية استعمالها، لتمثلت لدينا بالمقابلات الآتية:

لحظة عطر / تقابل / دهشة افتتان .

انفلات عصفور / تقابل / اندفاع رغبة الجذب الجسدي.

خيط سحر / تقابل / العجب والاسغراب .

تيه / تقابل / حيرة .

المروق بين / تقابل / المرور المستحيل .

مودة قميص / تقابل / الاشتهاء الحميم .

مشاكسة ريح / تقابل / الوضوح الشديد لموجودات الاغراء .

تشهي اكتناز / تقابل / التعطش للملامسة الجنسية .

توقع سر / تقابل / اسطرة الإعجاب .

تدلي ثمرة / تقابل / انكشاف صدر الانثى .

وحتى عندما نوجز الشفيرات كمقابلات دلالية فسنحتاج الى كشف آخر وآخر، عندها نعي بأن التلغيز الشعري يحتمل التشفير المختلف حد التنامي التأويلي المستمر، مما يعني أن المقطع الفائت يمكنه أن لا يستقر معنى ولا دلالة.

تقنية تبعثر المعلومات:

[ برقة يتأملها ....،

 ...

تحث دبيب التنمل ..!

فائرا .. شهد الرضابِ

يلوّن ملاطفته

... خوفاً من .. ذاك الغيابْ

نرد..

لا يبوح لسبابة

عصيّ على الغواية

وعلى هذا القدر من القدر

معمارها الرقمي

يرتطم بحواف المتاهة . ـ فحم وطباشير، ص58، ص59]

تتضمن قائمة المعلومات على مجموعة من مواصفات تقنية منها كتابية ومنها رقمية (ألكترونية) وكلها مجازات غير مباشرة معوّضة عن اصول دلالية، بعثرها وقننها وجمعها الشاعر في محتوى وعي (الكتابة).

لو فَصَّلنا المعلومات الى مستويات تطورية حضارية لصارت متعامدة بحسب الآتي:

ـ مرحلة فطرة الفحم: انها تحتوي الرقة والتأمل والتنمل مذابات في رؤى تشكل ماديات متخيلة . ـ مرحلة التَعَلُّم المُنَظَّم بالطبشور: كونها خطابية فهي عبارة عن التقابل بالحضور، تضم كلا من، الشهد، والرضاب، والملاطفة، والخوف والغياب .

ـ المرحلة الرقمية: تحتفي بالسبابة والغواية والقدر والمعمار والمتاهة، وجميعها تتسم بالتجميع والتصنيف ومن ثم التقنين بقيود اللغة الشعرية كتقانة استثمار للمضمرات ذوات الأثر الخاص في القول والسلوك. ومن جمالياتها الاستثمارية، أنها تحتفظ بذات الروحية في التبعثر والالتمام ضمن شيفرات خصوصيات امرأة الندى القاطرة.

 ثالثاُ: نشر مضمور الخطاب

الخطاب ـ اجتماعياً ـ ينحو باتجاه توضيح الفعائل التي تخص التماسك الاجتماعي والتفاهم الاتصالي، فالفكر اللغوي اجتماعياً ـ في الادب خطاب رسائلي ـ يشير الى:

"وجود صيغ تشير الى قوة اللغة التي تتجلى فيما تتركه من اثر على المتلقي وفي النسب الكمية ـ يقصد الدلائل ـ وفي الروابط المنطقية . والسمة اللغوية الاساسية للوقائع المرتبطة بالمؤسسة ـ يقصد المؤسسات الاجتماعية ـ هي وجود صيغ رمزية كالكلمات، التي تعارفنا على انها تعني شيئا يتجاوزها ."([5])

اللغة اذاً هي مؤونة الخطاب الاجتماعي بوقائعه ككلمات ورموز ومنطق ونسب دلالية . وهو لدينا ـ بموجب المنثورات المبعثرة في (فحم وطباشير) يأخذ مستويين من التطور التدويني والمعرفي والشعري هما:

 أ ـ خطاطة النثر التدوينية

نرى ـ شعرياً ـ أن لها اربع مراحل من التتام المعرفي هي:

ـ البياض:

يُخْتَطُّ له مسرىٍ وتصريفاً يخص قوى البياض بعثرةً وتلميحاً وتصريحاً وإضماراً /

* ففي البعثرة نجد بياضاً يجمع ألواناً شتى/

 [ فرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااغ

ليس اكبر من رأس خنفساء ...!

 ... أمننت عليه في الجرّار

جرّااااااااار ... ـ فحم وطباشير ص44]

لون البياض لا يضم بياضاً إنّما هو دلالة للبياض كون البياض يدل على البساطة والعفوية والانشراح، والغريب انه بياض لرأس خنفساء وجرّار، وهما لونان خليطان من البني والاسود والرمادي، والرمادي خليط الاسود بالابيض. وفوق هذا كله يجعله الشاعر إطاراً للفراغ والفراغ يصيره إطاراَ للتبعثر وكأنه يلعب بخطوط قائمة، أو حركات قافزة من الوجود الى الفراغ، من ثم الى البعثرة النهائية . ومن ينظر الى تسطير الأحرف والكلمات بصرياً سيدرك ما وراء افق حرف الالف القائم في كونه الطاغي تماماً، المبعثر توزيعاً، المظلل للخطاطة النثرية الى حد ما كون حرف الالف تكرر في 54 موضعاً . (اداة التعجب ضمنها).

تلك البعثرة كقيمة لرسالة خطاب ـ نرى ـ أن لها أهمية نفسية أكثر من أهميتها العلائقية كشكل من التوزع الكلمي، تكمن شعريتها في انضباطها التام بمحور تصاعد وتراكم نسق القص التجريدي للمقطوعة النثرية الإزاحية . * والبياض تلميحاً يتضح بأن معناه يخصص لموضعه فقط، يخدم جملته:

[ ان المجردً لهوُ المرايا ـ فحم وطباشير ص77] .

 التلميح (هنا) لا يتعدى جملة القول كونه بياضاً شفافاً وهو مجرد، اي لا وظيفة له سوى اللهو المساوي للمتعة في البعثرة بين مصقول المرايا، كأن الجملة محتفية بدخائلها من اللامعنى والتسطح وابراز الوجوه البيضاء. * وفي التصريح يصل البياض حد البعثرة البائنة دونما بلاغة بعيدة فهو أب لكل حركة لونية، اي أن الحروف هي خطاطة كتابة بالطباشير على لوح المنثورة النصية.

[ يقرئني السلامَ ........... يقرئني الماءَ

يقرئني هذا، هذا مغتسلٌ وشراب

يقرئني بذرةً

من جوهر مفارق

تنبتُ نسغَ طباشيرٍ

يتصاعد

أعارَ بياضَهُ ضد عدم

حملتُ قرطاسي وقنطرتي ومضيتُ

مفعمٌ بالطباشيرِ

منتشرٌ فيه

يقرئني أقرأ الفراغ . ـ فحم وطباشير، ص84]

المنصص اعلاه يصرح بالبياض كأب للألوان عَبْرَ مظاهر غرضية واخرى عرضية، فالغرضية اخذت الصفات للأشياء في الفاظ (السلام، الفراغ)، وكلاهما لا يتوافقان مع متجه نظام المنثورة إلّا من باب الدلالة، والدلالة ليس للمعنى إنّما للبعثرة التي تماسك أجزاء القصيدة بدءاً من نقطة التبطين النفسية التي أشرنا إليها في مكان سابق، الى نقطة التبطين النهائية المقاربة للا جدوى، وهما يحفظان للقصيدة متحهها الفكري كونهما لن يضعا سطحاً حقيقياً بشكل مطلق . بينما توجد وظيفة عمودية تبني وتوزع وتلاحم دلالات المعاني دونما حاجة لمبررات بلاغية، فهي مظاهر لونية وجواهر استعمالية تشمل (الماء، المغتسل، الشراب، بذرة،جوهر، طباشير، البياض، القنطرة). الفحص الايقاعي للدلالات سيرينا ـ أن الشاعر ـ كمرسل لخطاب ذي قضية ـ وظّف المشهد كله لبياض عتمة الموت الذي يخلد القراءة، القراءة التي تنشر وتنبت ثمرات النور في كل شيء وتتبنى التواصل البشري صوريّاً وألكترونيّاً، بهذا ينهل الشاعر من منظومته السابقة بنسق جديد هو (الولادة = الفطرة = الفحم، ثم التعلم المنتظم = الطباشير = مرحلة الحضارة الفنية، ثم التجميع = الارخنة والتبعثر والرسائل والتواصل السريع).

ـ الصوت:

يظهر فعله عبر الاهتزاز ليكون صوتاً فيزيائياً، او يظهر بكونه شخصاً يُبَلِّغ رسالة عبر خطاب الروي، او يظهر بكونه صوت تفكير عَبْرَ قص الحكي المتوالي السريع .

سنرفق كل نوع بنص دون تفسير لأن هذا النمط صار شائعاً في الكثير من النصوص النثرية الشعرية. وهو هنا له رسالة تضمر حلاً للكبت التعبيري المفروض من بيئة الشاعر على قيمه الفلسفية لوجوديته العدمية الصوت الفيزيائي / مثاله:

 صفقتُ البابَ

 فتحتْ البابَ شهقةٌ

الصوت الرسائلي / مثاله:

رأسك صندوق ذاك البريد..!

بجهات اربع

تراسلك الريح ..،

فراغا باردا ...! فحم وطباشير، ص89

الصوت السردي المتسارع / مثاله:

يتلوى الصفر غبارا

 هامة ضامرة بالغة الطول ..!

 عمودُ غبار

 كأنما يدور

 يدور

 هناك ...

 اسمك تكتبه الريح على الرمال

 والريح تسف الرمال ـ فحم وطباشير، ص88،ص89

ـ الصورة:

الصورة الشعرية هي لأوجه المعنى الدال على الحركة او الوجود او الترميز او مجازات الاستعارة وغيرها، او كلها معاً. ولعل أهم ميزة للصورة الشعرية، لا الميزة المطلقة إنّما الشائعة كثيرا، أي الصورة المتأتية بالإزاحة والاستعارة. ولكن ثمة صور بصرية فيها شعرية أيضاً، لذا سنتقيد بالصورة الشعرية في النص الشعري الآتي: [ يعومُ المركبُ، فأتمتمُ ناظراً إليها

أنا وأنتِ ..

أبعدُ ما فيكِ صوتي

وإن نلتقي، نلتقي

كلانا ماضياً وحاضراً

نلتقي في وحدتها،

في غرق واحد وفرار واحد . ـ فحم وطباشير، ص62]

تلك الصور لا يمكن تخيلها كصور كاميرا مهما حاولنا تجسيمها وتقريبها .

هي إذاً صور كتابية، وهي كتابة شعرية لا تُمسك إلّا عَبْرَ تصور معنى تخفيه وراء مظهرها . ترى ما أهم تلك الصور وما أهميتها ؟

لعل في التوالي القولي الآتي توضيحاً مناسباً للمنطق التأويلي النافع الدقيق:

يعوم المركب / تتبعثر في / عوم المركب بالتمتمة .

اتمتم ناظرا / تتبعثر في / تمتمة النظر في الـ (أنا ـ أنتِ) .

أبعدُ ما فيك صوتي / تتبعثر في / بُعد الصوت (أنا) في اقتراب الصوت من (أنتِ) .

وان نلتقي، نلتقي كلانا ماضياً وحاضراً / تتبعثر في / لقاء الماضي في لقاء الحاضر .

نلتقي في وحدتها، في غرق واحد وفرار واحد / تتبعثر في / لقاء التوحد بلقاء التوحيد بالغرق الواحد والفرار الواحد لكل من المطلق والمصير .

ـ الحركة: سنكتفي بالافعال الانفعالية كونها اصل الشاعرية لا الشعرية الشاملة .

لنحتكم في اجلاء القصد الى المقطع الآتي:

[مزدحم فيك ....... ومزدحم حولي تتلفت فيَّ

أراك قريبا . تراني بعيدأ

من يحفر فيك ويزرعك دغلاً

وتنبذك

حتى الخفافيش ...!

.............. ـ فحم وطباشير، ص108]

الملاحظة العامة الاولى هي هيمنة بعثرة النقاط وهي ـ بالعرف الشعري ـ دلالة توزع واضطراب وحيرة، وهي ثانيا، ارتجاف من مجهول، فضلا عن أنها تعبير عن صراخ مكتوم داخل كلمات او جمل صودرت بالقسر . يتبقى لدينا المساحة الاوسع للحركة، وقد خُصِّصَت لها الافعال الانفعالية الآتية:

(اكون مزدحم فيك، تكون مزدحم بي، تتلفت بي، اراك، تراني، يحفر، يزرع، تنبذك)، هذه الافعال الحركات كلها متشنجة مشوبة بعاطفة العتاب والاتهام والتوجس والتماهي المبالغ فيه، لكأن الشاعر يخاف من انشطاره الى ذوات متخالفة بصورة حقيقية، وهو ما يجعل الافعال انفعالية بدرجة طاغية، تحمل الى الآخرين ألم الغربة بين الكثرة اللاهية باللامبالاة واجتاح التيه لرغبة الفناء من اجل رخاء ابناء البلد الغريق الموحش المتوحش كليل الغربة والغرابة!

ب ـ شعرية اللا معنى

لنركز باصرتنا في الموجهات القولية الآتية:

 " لا أحد بإمكانه أن ينجو من الابتلاء باللا معنى والمعاناة بالمحنة ... أن الجميع يعيشون بمعنى قريب من الصفر ولكن لا أحد يبحث عنه ولا أحد يطلب الدرجة العليا من المعنى"([6]).

" التعبير ... يرتبط لدى الشاعر المعاصر بالموقف الجدلي من الحياة والعصر، وما يشوبه من صراع يجعل الفعل يرتمي من أحضان اللا معنى، حيث تصبح المفارقة هي الوسيلة الوحيدة التي تقرر المعنى بافتراض خلفية لجميع مظاهر الصراع في هذا العصر([7]).

الموجهات تلك تضعنا على خطى محددات اللا معنى ثم تغادرنا دون ان تعطي فهماً يسهم بوضع اسسا للشعرية عبر اللامعنى .

لنلخص شروط ومبررات قصيدة اللا معنى في كونها لغة من جمل نافعة وأدبية، ولنعطي مثالاً، من ثم نوجزها لاحقاً:

[ ويخرج العمدةُ على الناس:

أينَ العالم الحاني على وجهي

هجروا وجهي ..؟

الحلمُ في خطر

الحلم في خطر ..،

هذا خصامي

هذا انقلابي

واتفرق في البحر..! ـ فحم وطباشير، ص144]

مثل هذا النص يستجيب لمبررات وشروط قصيدة اللا معنى التي موجزها:

1 ـ التعبيرعن اللا جدوى الفلسفية . مثلما هو في التساؤل: أين العالم...؟

2 ـ الاستجابة لشكل من اشكال السلوك الشعبي . مثلما في: هجروا وجهي.

3 ـ احتواء القصيدة على مفارقة جملية او جمالية .مثلما في نظام الجملة الدائرة على نفسها:

الحلم في خطر

الحلم

في خطر..،

4 ـ وانها تعبير عن موقف الشاعر من مظاهر الصراع في هذا العصر . مثلما هو معبر عنه في: هذا خصامي . ويمكنني اضافة شرطين آخرين فتكون الشروط ستة هما:

5 ـ الانغلاق النصي بالغموض الكلي المدهش . اذ أن ذلك مدسوس في: اتفرق في البحر.

6 ـ استقرار السلوك على التذمر والشكوى .

المقطع كله يعبر عن سلوك مستقر في عمق الروح الشعبية للناس حيث الشكوى والتذمر الدائم هي السجايا الأكثر تعبيراً عن اللا معنى من نشاط الفرد والمجموع على اختلاف أماكنهم وتاريخم وحضاراتهم وسجاياهم الخلقية ورغباتهم الانسانية .

* وفيما يـ الإزاحات الست المقدرة التي مظاهرها الاشارية في (عمدة الناس، العالم الحاني، تهديد الحلم بالزوال، الخصام مع العالم، الانقلاب على العالم، الضياع في البحر) .

ـ الدلائل الاربع (دلالة الزعامة، دلالة غروب العالم، دلالة الإنزواء، دلالة اللا جدوى من المعنى واللامعنى). ـ الفحص البصري للظاهر التدويني يبين المقدار الأكثر وضوحاُ جمالياُ للتبعثر الكلمي والجملي، مما يؤشر باطناً موزعاً بلا جدوى الوجود نصياً وسلوكياً بما يشبه التمزق النفسي.

 

اسماعيل ابراهيم عبد

....................

[1] - فلاح الشابندر، فحمم ... وطباشير، شعر، دار العراب، ط2، 2016

[2] - محمد معتصم، المتخيل المختلف، ضفاف ـ الاختلاف، بيروت ـ الجزائر، 2014، ص136

 - فلاح الشابندر، فحم ... وطباشير، مصدر سابق، ص16، ص17 [3]

 - د. سمير الخليل، تقويل النص، دار غيداء للنشر والتوزيع، عمان، 2015، ص13[4]

[5] - جون ر سيرل، بنا الواقع الاجتماعي، ت. وتقديم حسنة عبد السميع، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012، ص96

 - زهير الخويلدي، فلسفة واقع اللامعنى، موقع انفاس نت من اجل الثقافة والانسان، تأريخ الزيارة، 20/1/2017 [6]

[7] - ا.د. علي مجيد البديري، شعرية ... نماذج من قصيدة النثر في البصرة، تاريخ الزيارة 20/1/2017، الموقع الالكتروني http://basrahcity.net/pather/report/basrah/59.htm

 

 

في المثقف اليوم