قراءات نقدية

قراءة تعريفية لديوان: إرفان للشاعرة حنان أمجوض

ibrahim ohseenكان الشعر ولايزال ذاك التعبير الإنساني العاطفي الصادق، النابع من الشعور الداخلي، والناتج عن مختلف المؤثرات الخارجية المحيطة بكل ذات شاعرة . إذ لا مناص لكل ذات من تبادل مظاهر التأثير والتأثر مع محيطها، مهما بلغت من درجة الانطوائية والانعزالية، ومهما تبنت منطق الفيلسوف المقدوني "ديوجين" الذي آثر إتمام ما فضل من حياته في برميل !!

ولئن أردنا  تعريف الشعر بالشعر أتينا في هذا المقام بأبيات اختصر فيها الشاعر حقيقة هذا الإبداع البشري بقوله:

الشعــر عاطفــة تقتـادُ عاطفــة == وفكــرةٌ  تتجلــى بين أفكـــــار

الشعــر إن لامس الأرواح ألهبهـــا ==كمــا تقابــل تيـــار بتيــــار

الشـعر أنشـودة الفنــان يرسلــه  == إلى القلوب، فتحيا بعــد إقفـــــار

فقل لمـن راح للأهـرام يرفعهــــا  == الخُلْدُ في الشعر لا في صف أحجـــــار

وعليه يستقيم قولنا كون الشعر وجدانا يخاطب آخر في المتلقي المتعطش للجمال والرقي اللغوي، وإن كان كذلك يستطيع مخاطبة المنطق والعقل العلميين في أحايين أخرى. وسوف لن نسهب كثيرا في موضوع الشعر ومنابعه، لأنني متلهف في الحقيقة لأن أقدم للقارئ الكريم هذه الباكورة الشعرية الأمازيغية، التي اختارت لها الشاعرة الشابة " حنان أمجوض " عنوان "إرَفانْ" (العطش)، والعنوان كما يبدو يحيل على ظرفية دقيقة ترصد مختلف الأوضاع الحائقة بنا من كل جانب .فكل منا على الأرجح يعيش عطشه الرمزي، كما أن لكل منا ماءً رمزي يطفئ به ويخفف وطأة لهيب العطش ذاك. فما أكثر العطشى في زمن شحت فيه الآبار والنفوس على السواء !! فكانت الكاتبة بهذا الاعتبار موفقة إلى حد كبير في اقتناص عنوان عملها.

1029 hanan

الشاعرة "حنان أمجوض" في مجموعتها الشعرية الماثلة بين أيدينا، حاولت ما أمكن أن تقارب المعاناة الإنسانية، من خلال المعيش اليومي المكابد على المستوى الشخصي، ومن ثم على مستوى الإنسانية جمعاء، وكأن الإنسان في كل زمان ومكان يفترض أن يجتزئ لنفسه نصيبه من المعاناة البشرية الوجودية الكبرى، ولله در القائل:

وكلنا في طباع النفس منفردٌ == لكننا في بلاءِ الدهر نشتركُ

فعندما ندلف لقصيدة ( تكاسْ= الآلام ) و( تبضيتْ = الفراق ) و(تمَّارا أومسيفاضْ= معاناة الهجر) و(إكيكيلْ= اليتيم) وقصيدة (أزواكْ=السفر)، فلا شك أننا نستشعر قدر ووقع المحن اليومية على الذات الشاعرة المحترقة. تقول في قصيدة (أزواكْ):

نيغاسنْ إستوفامْ أييتافيمْ أفسّايْ

إيولينو ليجْدْرنْ سْكَارْ تيمتارْ.

وتضيف في قصيدة (يُودا= كفى) متسائلة:

إزدْ تودْرتادْ أوركيس أبْلا كارْ؟

والشواهد في هذا السياق عديدة تتخلل قصائد عدة، مما يسمح لنا أن نؤكد كون الشاعرة في ما يقارب نصف الديوان، باتت تتقمص دور "سيزيف" المتألم أبد الدهر . بل ولم تضع قلمها دون التعريج على الألم القديم والحديث في نفس الآن، ووضع الأصبع على الجرح العربي المشترك المعروف بالقضية الفلسطينية. هذه القضية التي أبت إلا أن تمتد منذ اندلاعها إلى يوم الناس هذا، وكأنها حكاية ببداية وبلا نهاية. تقول الشاعرة في قصيدة (أناروزْ ن تدرفيتْ= أمل الحرية) داعية الخالق عز وجل أن يعيد غزة لحضن فلسطين، إيمانا منها ربما بأننا أمة لا تملك إلا أكف الدعاء والرجاء والعويل، في حين تفتقد سواعد العمل والإيجابية حسب ما يقتضيه الواقع. تقول:

رْبي رداغْ ياوسْ أدنرارْ غزة ليكانْ-

تينغْ دْ تنونْ أرْ تِكِيرا أوسانْ.

كما تضيف في قصيدة (غْتكيرا تِنْغْ أتْكا= أخيرا هي لنا):

ماشْ هياغْ ديسْنْ أرْ أسّْنَّا ديوي ربّي تدرفيتْ إ فلسطين.

وتتوالى الانكسارات على بساط القصائد المذكورة، وحُقَّ لها ذلك نظرا للأوضاع المعاشة على مدار الدقيقة، والتى تجعل الإنسان يلتحف المزاج المنخولي الذي لا يرى إلا السواد. لكن يبقى الأملَ خيطُ "أريان " المضيء القادر دوما على مرافقتنا للاهتداء إلى أفق الخلاص والانعتاق. وهنا تنعطف بنا الشاعرة انعطافة ذكية إلى أنهار الأمل الدائمة الجريان، رغم المتاريس التي تنصبها أمامنا الأتراح والأحزان. كأنها إذن تريد أن ننتصر على ذواتنا وأن لا نستسلم للسواد، وهو أعظم انتصار كما ادعى أرسطو.  فتأتي القصائد المعنونة ب: (توادا= المسير) و(تومرتْ= السعادة) و(أزُوزْوُو=استجمام) و(أفولْكِي=الجمال) كاستراحات مقاتل على أديم الحياة، لاستعادة الأنفاس والانطلاق من جديد. تقول الشاعرة في قصيدة (توادا):

ربي دوماغْ أفولكي

هان إلكمْ أوزمزْ نتيدْ عْدْلنينْ .

وتضيف في قصيدة (ياواسْ غوسَّانْ=يوم من الأيام) قولها:

لحنانْتْ أتْعُمُّو أكالْ والا إكنْوانْ .

ويبدو أنه قول، بل حلم أفلاطوني ربما،لكنه على كل حال قد لا يدخل في باب المستحيلات.

هذا نزر قليل من أفياء الباكورة الشعرية الوارفة، وإلا فديوان " إرفان " حافل بقصائد تناسب كل من ملك ذائقة شعرية ولهفة لاستكناه المعاني المبطنة بين ثنايا القصائد والأسطر الشعرية المنطوية على فلسفة شخصية وحكم بليغة، كأن الشاعرة رغم صغر سنها بلغت من العمر ما يجعلها قادرة على قراءة الحياة بهذا النضج والوعي الكاملين.لذلك لا أريد أن أساير شغفي بحرق كل أعواد الثقاب، وأترك الوقت الكافي للقارئ الكريم ليهيئ عُدَّتَهُ ويستعد لفك شيفرات القصائد قصيدة قصيدة، ليعلم أن الشعراء لا يحترقون ولا ينزفون عبثا. فالشعر في آخر المطاف كما قال الشاعر الإنجليزي "بيرسي تشيلي": ليس  مجرد كلمات مصفوفة يقرؤها الناس فيطربون لنغمتها، أو يتسلون بأفكارها، إنه يجمع بين الانفعال والإلهام الإلهي والقانون الوضعي والمعرفة البشرية .

وبهذا يكون الشعر أخلد من حجارة الأهرام ومن حدائق بابل ومن كوليزيزم روما، وهنيئا لرفوف المكتبات بديوان "إرفان" للشاعرة حنان أمجوض،هذا الوافد الجديد الذي يزيدك عطشا كلما ارتشفت منه رشفة.

 

إبراهيم أوحسين

 

في المثقف اليوم