قراءات نقدية

الشعر العربي والعقل المعاصر!!

sadiq alsamaraiهل أن الشعر فكرة وهاجة، أم ينبوع عواطف وتوصيف مشاعر؟

هل أن الشعر فكر مطلق ونظم جميل يلظم جمان الأفكار في قلادة ذات إنثيال عروضي يمنح الفكرة هيكلها ويرسلها كثيفة صافية في فضاءات العقول؟

العواطف البشرية تكاد تكون ضيقة ومحدودة ومكررة في الشعر العربي وغيره.

فالحديث عن الحب لا يمكنه أن يخرج من نطاقه المكرر عبر الأجيال، وكذلك المديح والهجاء والرثاء والإستجداء وما شئت من المشاعر التي تتكرر بكلمات متنوعة في الشعر.

أما الأفكار فأنها مطلقة كالكون الشاسع المتسع دوما.

وعلة الشعر العربي إنه إستورد أو إستنسخ الشعر الغربي أو الأجنبي بسبب إختناقه بالعواطف والمشاعر، وكل مستورد أو مستنسخ لا يمكنه أن يعيش في بيئة غير بيئة أصله، وما حصل للشعر حصل للديمقراطية وغيرها من المستوردات والمستنسخات الجوفاء.

وبهذا إبتعد الشعر عن الفكر، وكوْن الشعر مرحلة متقدمة للتعبير الفكري قبل التعبير العاطفي والمشاعري.

فالفكر البشري إبتدأ بالشعر ومن ثم تطور إلى الفلسفة وما بعدها، ذلك أن الشعر في حقيقته ميدان أفكار منظومة لكي تحافظ على كيانها التأثيري والتعبيري، ولتلد ما يساهم بتطورها وإنطلاقها.

والشعر الغربي أو الغير عربي منظومة أفكار، وليس عواطف ومشاعر منسوجة على منوال ما فينا من معتلجات النفوس، بينما الشعر العربي يفتقد التفاعل المبدع مع الفكر ويتأسن في خنادق العواطف والأحاسيس والمشاعر السلبية خصوصا والقليل من المشاعر الإيجابية، ويميل إلى البكائيات والندب والتظلم والنواح والقهر والإنكسار، بل واليأس والإنهزام وجلد الذات بأقسى ما يمكن من الكلمات والعبارات، فتلتهب العواطف ويفور تنور الويلات.

ويشذ عن ذلك بعض الشعراء ومنهم المتنبي الذي يتهمه البعض بأنه مطلع على الفكر اليوناني ويصب الأفكار في قوالب نظمه لأبياتٍ من شعره التي جرت مجرى الأمثال.

قد يقول قائل ما يقول...

لكن الواقع القائم يشير إلى أن الشعر العربي لم يساهم في تطوير الفكر وتنمية ثقافة السلوك والتفاعل الحضاري، وإنما تقوقع في دائرة الإنفعال والعواطف الساخنة المشحونة بنيران النفوس المتأججة، ولكي يكتسب الكلام صفة الشعر عليه أن يخاطب النفوس لا العقول، وأية مخاطبة للعقل وإستنهاض لقدراته تعد لا شعرا أو عدوانا على الشعر، أما المديح والتوسل والإستجداء والهجاء والرثاء والتحرّق، فهو الشعر ولا شعر سواه.

وهذه عاهة عربية صرفة...

بينما الشعر في المجتمعات المتقدمة خطاب عقلي وتوليف روحي يُخلّق الكلمات، فيستنهض ما في العقول من الأفكار ويشدها نحو الإدراك البصير والوعي المنير.

والكتابة وفقا لمنظومة البحور لا يعني أن الكاتب شاعر، لكنها قد تعني أن الكاتب ينظم أفكارا، وفقا لسياقات ذات إنتظام يمكن أن يقع في خانة الشعر.

فالشعر العربي وفقا للمفهوم السائد خطاب عاطفي إنفعالي شديد التأثير بالمشاعر ويتلذذ بالأحاسيس السلبية والقهرية، ويسعى إلى التظلم والبكاء على الأطلال، ويساهم في تكريس السلوك الخسراني التُواحي، ويمعن بالمديح السمج المشين، هذا الشعر هو الذي أسهم من حيث ندري ولا ندري بتكريس الواقع المحطم المثقل بالجراح والأنين.

ولهذا فأن الشعراء العرب وجدوا أنفسهم عاجزين عن التعبير عن المأساة التي حلت بهم في القرن الحادي والعشرين، فلا تجد قصيدة إرتقت إلى واقع الحال المرير، لأن البكائيات أستنفذت وكذلك الرثائيات، فما عاد الواقع يحتمل لسانا يوجعه وكلمات توخزه.

ولا توجد ملحمة شعرية عربية واحدة أنتجها الشعراء العرب، منذ المعلقات وحتى اليوم!!

فصمتَ الشعراء العرب وما ولدت قصيدة ذات قيمة فكرية وثقافية ترقى إلى مستوى ما جرى ويجري فوق الأرض العربية، فالشعر أخرس، لأن الحالة تتطلب فكرا وعقلا وإبداعا أعظم من الكلمات، والعاطفة فيها مهزومة منهوكة، والشاعر قد فقد حسه لهول ما يرى  فهرب وتسامى وإنقطع.

ونبقى نتحدث عن الشعر على أنه أنغام وموسيقى وإطراب وأفياض أحاسيس، في زمن أنتهكت فيه حرمات النفس والروح وتسيّدت أمّارات المساوئ والأحقاد، فاللب طار والعقل عار ،  وما أن تضع فكرا في قصيدة حتى تتحول إلى نكبة ومأساة وقتل للبحر وإهانة للإيقاع، وما أن تحاول أن تحي صريعا حتى قالوا أمات حيا.

وتلك مأساتنا التي جلبت علينا أمّهات الشرور، ونبقى نلطم ونتأوه ونتباكى وندور في دائرة مفرغة من العجز والقنوط، والأمم الأخرى في فضاءات أكون تحلق بأجنحة ذات أفكار وهاجة تنير دروب الأجيال وتستولدها المكنون.

ولن ترتقي الأمة وتخرج من مآزقها المتواكبة إلا بإرتقاء الشعر إلى مستوى الخطاب العقلي، ليكون قوة مؤثرة في رفد العقول وإحيائها ، وصناعة السلوك الحضاري المتماسك الذي يمضي على إيقاعات الصيرورات العليا، ويكون رافدا للقدرة على الرقاء والنماء.

فعندما تتحول القصيدة إلى مسبحة فكرية ملظومة على إيقاع بحر ما، فأنها تبدو غريبة وعجيبة ومتعدية على جلال البحر الشعري، ومهما حاولت أن تقرأها على أنها متماسكة أو أن كل بيت فيها عبارة عن حبة مستقلة بذاتها.

لكن الرد الإنعكاسي يكون متسيدا وممتهنا لقدرات الوعي والإدراك المعرفي، وللجهد المحاولاتي لتطويع البحر لإستيعاب مستجدات العصر، ومتطلباته الوعيوية المتفاعلة بإندفاقية تصنع تيار وجود متجدد وخلاق.

فالشعرالعربي  بموضوعاته البائسة البائدة أصبح خارج العصر وفقد قيمته الإجتماعية والسلوكية، وتقوقع أو تخندق وتنخْوَب (من النخبة)، لأنه لا يستطيع التحرر من العاطفة والإنفعال، وتكثيف المشاعر والأحاسيس في كلمات صارت مبهمة وغامضة وممقوتة، فلا أحد يحفظ شعرا عربيا معاصرا، لأنه يبدو وكأنه لوحة مرسومة بأساليب سريالية غثيثة ومحشوة بإضطرابات إدراكية.

وما حصل للشعر العربي من إنهيارات وإنعطافات أسلوبية أدت به إلى الموت المفاجئ، فالقصائد المنشورة تولد ميتة وخالية من التأثير في النفس والعقل، وبسبب ذلك ساهم الشعراء بتخريب المجتمع العربي وفقدانه للذائقة الفنية وإنعكس ذلك على الغناء والموسيقى.

وعندما يؤخذ الشعر إلى نهر الفكر الفياض تهب بوجهه العواصف العاطفية الإنفعالية، المتحصنة بالمقدسات الشعرية والتعبيرية، وهذا أسلوب معهود منذ ما بعد عصر المعلقات.

فهناك حالات شعرية تتحول إلى مقياس لما بعدها، ولا يزال النقد الأدبي بصورة عامة يدين بهذا التخندق في الذي مضى وجرى ويأبى القبول بما يجري.

وإن لم يتحول الشعر إلى صور فكرية فياضة، فأنه لن يساهم في بناء العقل العربي، وترميم السلوك والخروج به من خنادق الظلمات إلى فضاءات الأنوار المعاصرة.

فالشعر الإنفعالي المشحون بالعاطفة يمكن لأي شخص أن يقوله، لكنه لن ياتي بجديد لأن الآليات العاطفية والحسية واحدة وثابتة، وذات محدودية مرهونة بفسلجة الأعماق النفسية، فالفرح والعشق والحب والرثاء والهجاء والمديح والإستجداء وغيرها، أنفاق يندحر فيها الشعر العربي على مدى القرون، وحاول الخروج منها بتقليد بائس وإستساخ معيب لما عند الآخرين.

ولا بد أن يُدرك الشعر على أنه نشاط إبداعي يبحث في قوانين الوجود الأرضي والكوني والخلقي،

فهذا هو الإقترابب الذي تمضي عليه الصور الفكرية بطاقة وآلية الكلمات الشعرية.

فالشعر فكر ومَن لا يمكنه أن يكون مفكرا لا يحسب شاعرا.

فأدونيس أكثر مقروئية من غيره لأنه شاعر مفكر وقصائده مسلات أفكار.

قبل عدة سنوات كتب شاعر قصيدة على بحر الرمل وتعّمد أن تكون القافية فعلن، فقامت القيامة وفار التنور على أنها خلل في الوزن مع أن كبار الشعراء قد كتبوا قصائد على ذات القافية.

ما أريد قوله هو نمطية التجمد العاصفة في أخيلتنا والقابضة على تفكيرنا والمانعة لكل جديد.

قد يدّعي الكثيرون بأن الشعر الذي نسميه حرا هو حركة تجديدية، وما هو إلا شعر مستورد من الغرب، أو إستنساخ للشعر الغربي دون فهم ومعرفة وإدراك لمعاني الشعر الغربي ولماذا يُكتب بهذه الطريقة،  وغاب عن الجميع أن المجتمع قد دخل في عصر التفكير الحر وعليه أن يصب أفكاره في كلمات تستوعبها وتبديها، فالصبي في الدول المتقدمة يتعلم منذ الصغر كيف يضع أفكاره في كلمات تعبّر عنها بأدق ما يمكن، وفي مجتمعاتنا لا نتعلم هذا السلوك، ولهذا تجدنا ومنذ موجة الشعر الحر وحتى الآن لا نحفظ شيئا من الشعر، لأنه كلام بلا أفكار أو أن أصحابه لا يمتلكون مهارات وضع الأفكار في كلمات، فتشاعروا بالغموض والإضطراب الذي يسمى فنا أو إبداعا.

وأجزم أن الذين درسوا في الدول الأجنبية وتأثروا بشعرائها لم يحسنوا فهم اللغة، فأخذوا ما تصوروه ولاح في خيالهم، وكتبوا الذي كتبوه، مع أن العديد من الكتابات الأصيلة الخارجة عن الشكل العمودي موجودة في الشعر العربي منذ العصر الأموي، بل أن الجواهري لديه محاولات في بداية القرن العشرين تنحو بإتجاه التحرر من قيود البحور الثقيلة ورتابة القوافي.

ومن المعروف أن أهم رواد الشعر الحر من الذين درسوا في أمريكا وتأثروا بشعرائها في أربعينيات القرن العشرين، وإستسخوا شعرهم على أنه شعر عربي حر.

وحتى اليوم هناك قراءات شعرية منتظمة في معظم المكتبات العامة في أمريكا، يُستدعى إليها شعراء لديهم دواوين، وما يقدمونه ليس كما نقدمه في قراءاتنا، إنهم يرسمون بالكلمات لوحات فكرية وإنسانية ذات قيمة ثقافية وتحفيزية وتنويرية، وما سمعت منهم غرضا كالأغراض المتداولة في الشعر العربي المعاصر والذي يُسمى حرا.

إن النهضة العربية تستتدعي شعرا نهضويا فكريا يكنز قدرات تحفيز العقول، ورج الأعماق وتأهيلها للتفاعل الإبداعي الإبتكاري مع العصر، وما يتحقق فيه من مستجدات وكينونات طافحة بالتوثب والإنطلاق في آفاق المطلق البعيد.

أما الشعر السائد في الصحف والمواقع ما هو إلا تعبير بدائي إستهلاكي لعواطف ومشاعر إستنفدها العشاق العرب على مر العصور، ويغرق بكلمات الندب والبكاء، وفيه روح تكريسية وتسويغية لما يحصل، بل ويدعو إلى إستلطاف الواقع والتلذذ بالمقاساة والإستكانة والخنوع، وعدم المبالاة وفقدان قدرات النهوض والشعور بقيمة الإنسان والحياة.

وهذا النوع من الشعر وباء فتاك يسعى لتدمير الأرواح والعقول والنفوس والقضاء على قيمة الإنسان ومعاني الحياة، وإرادة التفاعل الإيجابي والتواصل المعرفي الوهاج، الذي يبني حضارة ويؤسس لمميزات إنسانية متوافقة مع إيقاعات عصرها، وكأن الشعر ماضوي الخصال متأسن الطباع!!

فلا يزال الشعر بعافية في الدول المتقدمة، وفي مجتمعاتنا مصاب بأمراض وأوبئة وتنخر في جوهره أُرضة التكرار والتقليد والإندثار في الغابرات، وإن تبدلت المفردات لكن المنظومة الذهنية للشعر العربي لم تتغير!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم