قراءات نقدية

ما علق بالخاطر بعد قراءة رواية الأستاذة هند أوراس

said merabtiاستقراء مكنون النفس البشرية يبتدئ عند تلك الحروف المتوهجة ولا ينتهي بانتائها.فالأداة لغة والكتابة جوهر.. تراها الكتابة كأنما هي بوصلة بيد غواصة أغوار الذات المنطوية على أشهى الأسرار وأعقد الألغاز، والذي يكاشفها ويميط عنها ستائر الحجب حـُـق لمثله بأن يوصف بالفارس .وأي فارس هذا الذي قدر له أن يقطع حمم براكين النفس ولا يرتد مهما ناله منه الإعياء؟

أسوق هذه التوطئة بعد أن جئت على قراءة رواية " أشياء ليست سرية جدا.." لمؤلفتها الأستاذة/ الشاعرة / هند أوراس . المنشورة من طرف الجمعية الثقافية الجاحضية قسم النشر .للسداسي الثاني لسنة 2017 وعدد صفحاتها 242 ص.

ما وقع في الخاطر بعد إتمام تصفح، بعث فـَي فضولا على تعليق، لما جلب هذا النص من تحريض لمن يمعن في مناخات هذه الرواية التي استدرجتنا صاحبتها منذ وضعها عتبة هذا العنوان الشبكي، الملغم العالق، في جعل القارئ يرفع من حس الفضول لهتك ما توارى خلفه وظل مودعا في المدفون والمتخفي والمنسي. "أشـياء ليست سرية جدا"..وقد جات كلمة "أشياء" نـكرة على سبيل التعميم والتعويم.والنكرة هو اسم يدل على شيء غير معين. فأما السر ما أسررت به من عمل خيرأو شر.والسر أيضا جاء تعريفه: يعني خطوط باطن الكـف .... لعل عتبتها الثانية الموقعة ضمن ذاك الاستهلال الشعري، لمحت بذكاء لما سيواشج أشياءها المكتنزة في شقها الأسود، حيث تجمعت محصلة من الأزمنة وبادت ولما تفـتأ الأشياء قائمة على حالها المأزوم. فمنذ هذا الاستهلال ستظل تنسل لحمة السرد وتتصاعد نبرتها:

أيها المساء

كأسلافي الرعاة

وآبائي المنجمين

ضمني بحنان بالغ

واعطف على ناحيتي اليسرى.{النص}.

راهنت الكاتبة على بطلتها المتعلمة والمثقفة كمفردة بين الآماكن، التي خبرتها من الداخل. وقد شكلتها من عجينة تمت في معراج ..تـُعد خلطة من مفاهيم و تصورات وآمال انصهرت فيها، فجاء تشكيلها مفرداوحضورا مثـاقـفا، مباغتا مشكلا لإزعاج في بعض الأحيان حيثما حطت بطلتها رحال. كيف لها بأن لا تستأثر بحسها الشاعري، أو تقظ ليلها، أو تعصف بها هواجسها، وقد ركنتها للفاقة وارتداد واقع مهزوم مأزوم..فضلا على أنها تخيرت لها مواقع بدوية التمظهرات الغارقة في سلوكيات لاتزال في الحجز رهينة ماضوية..

عند القفر القاحل، تختبر الكاتبة، جسدا حميما محموما ولعبة رأس مسافرة ..مولعة بتنشئة عواصف أفكار وتطلعات ليست آمنة تماما، جعلته لها محكا بيئيا ضروسا تفاقم في الهشاشة والصلابة وجدا ووجودا وتواجدا ومعضلات عصية على الفك... إن الشخوص المنتخبة لهذه المغامرة الإبداعية تحت الفضاءات الماردة المنزلقة تارة إلي فتك السلالة البشرية عبر تلك المحنة التي ألمّت وكانت مأساة وطنية ..وتارة إلى شبه حياة.. يسميها الناس "حياة": وهي مثقلة بالشجو الشقي والشجن الطـأغي على تباين حضورها المنكسر ومصائرها المفجوعة، جعلتها المؤلفة تقيم ما بيننا وراهن المتناقضات، حيث القيم التي لا تصمد أمام واقع جديد يعج بتسارع التغيير ويسحب الإنسان إليه بلا هوادة. إن الرواية لنفسية بامتياز، ولعل التوتر العاتي هنا لشدما وهب ميـزتها المرصودة كثيمة فنية، ضمن بحثها المؤرق كإدراك فلسفي يعري زيف الموجودات ببعضها البعض؛ ينظر إلى الوجود وعلاقة السلوكي ووعيه الظاهر.ويفـقـس ادعاءات الشخوص الموغلة في التورط المكتض بضوضاء الكلام وعسر التخطي بما لا يـُصدق.

كثيرا ما خاطرني تساؤل: ما مدى فعل الكتابة في رج الواقع وزرع الوعي والتأثير فيه وما جدواه؟

لقد جاء هذا التوتر ذو ريتم عال من خلال اللغة الشعرية .ويمكن أن يكون هذا التوتر بسبب المكان السردي عبر تلك التقاطعات النصية بوصفها مسرحا سرديا يتموسق مع أصداء الكائنات ومغامراتها التي تكتمل بلحمته جزئيات السرد... هذا وإن الجملة السردية لدى الأستاذة /هـنذ أوراس/ جـد متنامية، مكثفة، إلى حد المفردة المكتفية بحالها، حادة، متضادة مستطردة، ملغمة، متوترة ومبؤورة. وكم حـسـبتُ الـمؤلفة بين الحين والآخر، تنشأت في ورشة القصة القصيرة لما تتملك من حذق اكتفاء بالجملة القصيرة المكثفة، التي تسهم في خصوبة القص. هكذا أرادت الكاتبة أن تقحمنا في تجربتها الأولى في مجال الكتابة السردية .علما بأن جوهر العمل الروائي يقوم على خلق شخصيات متخيلة، ذلك لأنها شخصيات تمتـزج في وصفها بالخيال الفني للروائي، وبمخزونه الثقافي الذي يسمح لـه أن يضيف ويحذف في تكوينها وتصويرها. من ذلك أن نماذجها المقترحة جاءت متفاعلة في فضاء رملي عاصف..صلد، جاف، انقيادي يشوبه نكوص ..خانغ في أغلب أطواره . لكل من :-احمد : زوج البطلة -الــد لالة-. زوجة الزرمي- الأحدب عامل النظافة.- الدراجي شاب في مقتبل العمر ؛صاحب صهريج الماء.جالب الماء من جبال الخالدية. - السامعي: بائع المحاجب .- الإمام- رابح: البقال أب الأبناء الثلاثة المعوقين. - الفتاة خديجة : المراقبة للأحدب. نعيمة.

هي ذي الكاتبة تتخير لبطلتها المنهكة، كزوجة مثقفة واعية ..واقـفة على صراط تحول على إثـر انكماش علاقة زوجية بعد إنجاب أطفال، موكلة للانهيار والوساوس والمرض العضال. تقول البطلة : الأكثر مرارة من الصدمة الاكتشاف المتأخر لحقيقتنا يورطنا في التشابك عبر المبرر لمعطيات وجودناّ، فنفقد بذلك طرف الخيط ؛ أنا فقدت الخيط .ارتبكت حياتي وتشتت وضيعت قدرتي الفائقة على معرفة الاتجاه .ضعت في الطريق الذي أضاعني .لم أعد أفهم..وربما كنت دائما كذلك.- ص-.43.-

امرأة من طراز رافض لوضع المرأة " المملوكي" المتـشـيء الساحب للخدر والمقنن للعادة والقبيلة. على لسان البطلة: القيمة هنا لا تنبع من نفسها بل تستمدها المرأة من الرجل الذي يرفعها إلى عنان السماء، أو ينزلها أسفل السافلين..{النص}.

تجئ الكاتبة وتعطي لبطلتها في كل حين فرصة الوقوف خلف شقّ نافذتها المطلة على الشارع....لتراقب تلك النماذج البشرية عند حركتها الدؤوبة المحجوزة في اليومي ..في تسلقها العادي المنعوت ظاهريا بالبهوت؛ المسكون بالضجيج الداخلي العاكف على الطاعة وليس سواها. نماذج تختزل مجتمعا "محافظا " هو على بعد مهـول من سمات قيمة الإنسان واحترام رغبات الذكران والإناث...هو بدوي الطباع والتصورات التي سادت عند إجداده "الرعاة"بالمعنى المشار إليه من طرف الكاتبة..في الاستهلال. يركن إلى وتيرة شبه مدينة، تقع على مسافة من التطور المدني تقاس على بعد ما بين سلوك القرد وسلوك الإنسان . الإطلالة من النافذة، هي بمثابة "زوم كـاميرا" يرتقي لتفاعلية الأدب بجنس السنما . زومها المركز بعناية تصل إليه الأصوات والسير والخلفيات المتوارية بين نمط حياة تقليدية هؤلاء البشرالذائبين في حاجاتهم البسيطة المعقدة... تقول على لسان البطلة : الـنافذة.. تطل على الشارع والناس، أنيقة ومتلائمة. من خلالها يبدو العالم الخارجي خرافيا، مدهشا ومزاجيا. أرى أحلام الناس في خطواتهم اللاهـثة..{الـنص}.

شارع "الخالدية"..يعيش طقوسه المألوفة. يتحرك ببطء مشلول .. يرغم البطلة على الانتفاض. الخالدية تهز أركانها هواجسها تعلق بذهنها صورة مهزوزة مرفوضة . تقول البطلة:

أريد للخالدية أن تنتفض أن تعدل درجة حرارة نموها العاطفي والعقلي . أن تنكسر .أن تهوي في الأعلى. أن تـعـد إلى أسفل. الخالدية حبي الذي أكـره . وجودي الذي لا أتحمل. ص/44.

فتـقـنية التطلع عبر النافـذة تعـدُّ هي الـزوم "، في نظري تقـنية ركزتها الكاتبة بعناية فنية .

يقول المخرج الأمريكي- أورسون ويلس- : " لا يكون الفن فنا إلا إذا كانت الكاميرا عينا في رأس شاعـر ".

وبطلتنا تقنص الأشياء المثيرة بعينها الشاعرة والفنانة، وترسم لنا خلفية لكل الذي تقتات عليه يومياتها بكثير من الإيغال في ما هو إنساني وشخصي ملفوف في العـيّ والصخب النفسي، والعصاب الاجتماعي الداهس للكائنات. لعـل شخصيةّ "الأحدب" تحسب في حسنات كاتبتنا، كابتكار مرادف لفعل إبداع يخرق النمذجة المألوفة عند الكتـّاب. حيث توظف هذه الشخصية الغامضة والمهمشة في نظرة الآخر لها لكنها ترميزا - في نسيج الحكاية مشفرة مشخصنة- مقيما دورا، رُصـد لتعرية زيف الناس والأحدب ماكث فيهم ... يدفع بعربته المثقلة يحشو بطنها بأوساخ الذين يفترض فيهم عطف وتبجيل. يمشي الهوينا يلتـقط سوء أيامه والهم فوق الصدر أكبر ...ينحني أكثر.. يزيل من على الشارع فضلاتهم المنزلية والأخلاقية. يتحرك بينهم كأنما هو وصفة علاج ضد نفاقهم وقهرهم وعقدهم . الأحدب بهذه الشـائنة اجتماعي حد النخاع، ينتصب كاتهام لمجتمع يعزل العاهة ويخفيها ويحتقـر الضعيف وينهش المحرومين .حدبته تشبه قشرة الأرض وكم سميكة هي قشرة الأرض التي تحمل البطش والردس لبني البشر:

جاء في قاموس المعاني: حـدِبت الأرض: ارتفع بعضها .

لقد راهنت الكاتبة/ هند أوراس/ بشكل من الأشكال على إنزال "كـاسيمودو " الأحدب، من عليائه الجوهرية ..إلى أسفل. في حين صعدت" إزمـــيرالـدا".. بطلتها لتتقـفاه وهو يعيش في غموض دوره العاشق الذي أوقعه في حب دفء الجمال الإنسانى المحروم منه، والموجود بأعماقه الداخلية..

الأحدب بهـذه الـشائنة المقـيتة، بنتوء ظهره ... يقول: حدبتي تفعل ذلك لأنها جبل من الخيبات ومن الآلام.{النص}.

ولأن القشرة الأرضية هي جزء من الأرض تغلف كتلتها الصلبة، تعطي الكاتبة لبطلتها جميع الفرص لتقـشـير عاهة تسمى حدبة الأحدب وتواعده على مسافة شق نافذة البناية .. رفقا به.. على الأحرى رفـقا بإنسانيتها هي حتى لا تني عن كشف زيف الذين يقيم بينهم . فعلى لسانه يصرح : أنا تعنيلي حدبتي هذه كل شيء . علمتني تفاصيل الأسفل وتفاهات الفوق. تفاهت الفوق؟ الناس يمشون ورؤوسهم إلى أعلى .ومن حين إلى حين يسقطون في الأسفل المتنكرين له من البداية فينكسرون.لا بل يتحطمون تماما لأن حدبتهم الداخلية تمنعهم من الرؤية ومن الدخول في تفاصيل الأسفل الذي يقودهم إلى حيث شاؤوا.

لم تكتف الكاتبة بمتابعة أطور الأحدب وحده ولكنها خشت على سير شخوصها عبر محطات جمة. رصدت أحزانهم وأطوار تقلباتهم في الغيظ واليتم والفاقة و القهر والإحباط والخنوع أيضا. لكل شخصية مسار أخبرتنا به وغاصت لتنبئنا بالملابسات المحيطة . تتبعت سيرهم واستطلعت أخباهم الدفينة . فالمتأمل في هذه الرواية سيطلع على ما وقع في تماس مع كل تلك الشخصيات من تقاطع في علاقة مع العاطفة الإنسانية والرغبات الذاتية في مجال المحبة والسعادة ..حيث الكل منهم موكل لعزاء ذاته بمفرده .مسحوق في جوهره . بلا مرجع شخصي ذاتي كوني . يطحن أيامه فراغ رهيب مما تحبذ الروح من سكن عاطفي في الحياة . الكل له حدبة تواري سوءاته الأخلاقية، والناس يعمدون إلى الدنس والخيانة والاكتفاء بالخنوع والتملص من موقف إنساني نبيل. ..

في الحقيقة إن هذه الرواية فضلا عن حكايتها، تـقدم أيضا عبر صفحات أحداثها، فصولا من أكلات المطبخ الجزائري المتداولة بتـلك المناطق الصحراوية التي دارت بها أحداث الرواية . فقد تخيرت الكاتبة لقرائها بوصفها امرأة كاتبة، أطباقا ملفوفة ببهاراتها وخضرواتها وكيفية تحضيرها وبشهية، تعبق بنكهته مواسم وأعياد تلك الجهات بما يطبع عادات وتقاليد تلك الجهات العزيزة من الوطن. قد يجد فيها دارسوا علم الاجتماع والأنتثروبولوجيا ظالتهم بلا شك.

جدثت بالرواية هنات لغوية لم أشأ أن أذكرها تحسبا من أن نــسخــة / ب .د .آف / التي تحصلت عليها قد لا تكون الآخيرة المنقحة.

في النهاية، إن الكاتبة/ هند أوراس/ قلم ثابت متحصنة بموهبة حقيقية .. أحييها وأدعو لها بالتوفيق.

 

بقلم: السعيد مرابطي

......................................

هند أوراس/ شـاعرة وكـاتبة جـزائرية

 

 

في المثقف اليوم