قراءات نقدية

في شعر المعرفة أو الحنين إلى أسفار الغيب.. حول نص لمادونا عسكر: خبز الرجاء

على قلبك وضعت كفّي

مادونا عسكر

فاتلُ على روحي بعضاً من رهبة الأبد.

في الأزمنة الملتبسة تتهامس الخفقات

تجاورُ القلق

حدّ الانغماس في دوائر الانفصال

ثم الالتئام...

ولكن لا شيء...

الأزمنة ملتبسة

والخفق همس يقتات من خبز الرّجاء

والرّجاء انتظار على مشارف السّماء

والسّماء بيني وبينكَ

حقول ألم تجتمع فيها الأضداد

وجبال جائعة لحبّة خردلٍ

تنقلها إلى الأزمنة البريئة.

الأجساد المتساقطة عن موائد الحنين

تلوذ بالقبر الكبير

تتغلغل في زواياه الأربع

تظنّ أنّها تحيا في هوّة الأنفاس المتقطّعة.

على قلبك وضعت كفّي

فاقرأ اسمي

في سفر جرحكَ

واكشف لي غيب وجهكَ

أعرف سرّ الحبّ المتدفّق من تعب النّبضِ.

تصل الشاعرة عسكر في هذا النص الشعر والمعرفة..وهذا ضرب من الوصل إشكاليّ، تنبثق عنه جملة من الأسئلة في الشعرية المعرفية أو المعرفة الشعرية وما يتصل بها من أكوان ومجالات تتقاطع داخلها وتتواشج كل النزعات والقوى المشكلة للتجربة الإنسانية في زخمها ومجاريها بلا تصنيف ولا ترتيب ولا تمييز..

وينبغي أن نميز منذ البدء أو قبله أن الشعر هنا ليس القصيدة باعتبارها شكلا قبليّا محددا بمقومات أجناسيّة تتبع اتباعا، وإنما هو حالة أو لحظة أو نظرة أو موقف، في تشكل مختلف بحسب ما يختاره المتكلم  / الشاعر من أشكال التوصيل والتعبير المعلومة أو الموضوعة وضعا، أي المبتكرة..لذلك يظل الشعر وتكثر أشكاله..

والشعر ليس الشعور وجوبا وإلزاما، فقد يكون في الغريزة أو بها، أو في العقل أو في أي طفرة أو نزعة من نزعات البشر في تركيبه المتعدد المتجانس في كثرته والتئام مكوناته..

ولذلك قرنت الشاعرة وقرنّا الشعر والمعرفة، وكان القول الشعري صورة لهذا الاقتران المخصوص، الواقع خارج ثنائية الوسيلة والغاية أو الشكل والمضمون، فلا الشعر بمنفصل عن المعرفة ولا المعرفة بمدركة خارج العبارة الشعرية..وحسبك أن تمضي من القول باعتباره تأويلا لحالة في النفس أو خاطرة في الخيال أو فكرة تلتمع في العقل أو هزة تعصف بالجسد، لتؤوله على الوجوه التي تبدو لك أقرب إلى الحالة(الأولى المجهولة..) التي كان القول عليها سمة أو عرضا، ليس إلاّ..

1) الشعر حالة للإنسان في العالم

هذه الحالة الشعرية المعرفية الخاصة تعيشها الشاعرة وتقدم عنها بعض الأعراض (القوليّة) والسمات، بلا إدراك كامل ولا بناء واع مثلما يحدث في " الشعر العقلي" البيانيّ القائم على الانسجام الاصطلاحي.. وفي سبيل تقديم الممكن عن الحال الإنسانية التي تمثلها أو تحياها المتكلمة، تلتقط جملة من الوحدات المعجمية المنسجة داخل حقل يمكن أن نسمه بالفراغ المعرفيّ.

وهذا الفراغ أو الانعدام المعرفيّ ينتشر في جل مفردات الخطاب:

- الالتباس

- القلق

- الانفصال

- اللاشيء

- الرجاء

- الانتظار

- الألم

- الجوع

- الحنين

- الملاذ

- القبر / الموت

- الأنفاس المتقطعة

- الغيب...

وهذه المفردات وإن انفصلت عن سياقاتها التركيبية النصية، تتجاوب وتتناغم معجميا ودلاليّا لترشح بحالة معرفية موسومة بالموت والفراغ والألم والانتظار والقلق والالتباس..هي حال اللاعلم  / اللامعرفة كما يحياها الإنسان في هذا العالم بحسب رؤية المتكلمة وقد صاغت هذه التجربة الإنسانية صوغا ذاتيّا ..

وهي رؤية "عدميّة" من حيث أنّها لا ترى في العالم / الأرض إلا التباسا وتعبا وقلقا وألما وسقوطا وعمى وموتا..ولنقل إن صورة العالم هي صورة الذات، ولكن في بعد معرفيّ يتحول به التعب والألم وما يتعلق بهما، لتكون العدّة المعرفية الروحيّة الموصلة إلى الغاية التي ضبطتها المتكلمة في مطلع النص ومنتهاه..وهي غاية تمثل منتهى العلم كما جاء في عبارة مباشرة صريحة..

وهكذا تتجلى الأرض "قبرا كبيرا" تتهالك داخله النفوس البائسة بأنفاسها المتقطعة الواهنة المنذرة أوالمبشرة بالفناء الداهم..

2) أيّ معرفة؟...

للنص إطار طلبيّ يحتويه ويوجهه خطابا جليّا طرفاه (المتكلم / المخاطب) وهما طرفان منفصلان  / متصلان، متباعدان / متقاربان:

على قلبك وضعت كفّي..

والسّماء بيني وبينكَ..

وتتسم هذه العلاقة بالعموديّة من خلال الضدّيّة التي تقترن فيها السماء (أو ما وراء السماء) بالأبد، ويقترن العالم المدرك بالفساد والنسبيّة:

فاتلُ على روحي بعضاً من رهبة الأبد

ومن اليسير أن نذهب سراعا إلى استخلاص هذه المقابلة الكلاسيكية التي تحكم ميادين الفكر والفن المثاليين (الأبد / المطلق / الحقيقة / الروح..مقابل الزائل والزائف والنسبيّ والمادّي..) ولكن هذا النص، ولئن لم يخرج عن هذه الثنائيات، فلقد تناولها على وجه إشكاليّ أكسبه طرافة  / جدّة..فالعالم الضديد، وهو متوق المتكلمة

يتردد بين المعلوم والمجهول، المدرك والغائب / الغيبيّ، لذلك كان "معرّفا" في المطلع بالأبديّة و"مجهولا" في المنتهى بالغيبيّة:

واكشف لي غيب وجهكَ..

فيتماهى الأبد والغيب ولكنهما يظلان كونا مجهولا معلوما: مجهولا لا يدرك (لاتدركه الأبصار ولا البصائر..)، ومعلوما بحجة أنطولوجية أو إيمانيّة..ولذلك يظل موضوعا مفترضا للكشف..

والطريف هنا أن وجه الأبد يتماهى ووجه المخاطب / الإله الذي طالت غيبته وترك غنمه في غربتها ولم يفتقدها..ولم يخلصها..

وبين الغيب والوجه توتّر ولود يهمنا من حيث أنه يقودنا إلى بعض نفس المتكلمة وهي تعلم ولا تعلم، تؤمن وتشك حين تتخبط في حقول الألم تتقاذفها الأضداد :

حقول ألم تجتمع فيها الأضداد

3) كيف نعرف؟...

إن كان الأبد مطلوبا معرفيّا مجهولا بديلا عن معلوم معرفيّ قلق متهالك تهالك ساكنيه بحسب الرؤية التي تحكم الخطاب، فإن سبيل هذا العبور المعرفي من المعلوم المتجاهل إلى المجهول المعلوم قدما وقلبا هي المخاطب باعتباره المدار الذي عليه مدار التجربة ومعقد الأمل والخلاص..فالاتصال القلبي الرمزي الخارق للمسافة:

على قلبك وضعت كفّي...

هو الخطوة الأولى على درب الخلاص والعبور العظيم من قبر ما تحت السماء إلى حياة ما فوق السماء، وعن هذه الحلقة تنشأ وتتسلسل حلقات تفضي إلى "الحقيقة":

فاقرأ اسمي

واكشف لي غيب وجهك

أعرف سرّ الحبّ المتدفّق من تعب النّبضِ...

وفي هذا التسلسل التشارطي السببيّ تدرج تصاعديّ من معرفة الذات وتعيين هويتها:

فاتلُ على روحي بعضاً من رهبة الأبد...

فاقرأ اسمي..

إلى معرفة المخاطب شرطا هوويّا، بمنطق "أعرفك فأعرفني"..فحين أكون اسما أتعيّن..أسمّى فأكون، وأكون فردا ذا كيان ووجود..وهكذا يخرج الاسم المسمّى من حيّز الجنس(الجماعة) إلى حيز الأعيان / الأفراد..

ويأتي هذا الاسم التعييني الإيجادي منحة من المخاطب المتعالي الواهب الحياة..

واكشف لي غيب وجهك

وكذا فهمنا هذا الانفتاح الكشفي على الغيب شرطا لمعرفة الذات الغريبة من حيث تتكلم، التائقة التواقة إلى عالم الغيب الذي تتجه إليه وتعلمه قبل أن تعلمه، وتكون فيه قبل أن تكون..

ويكون كمال العلم أو اكتمال سيرورة العلم من حيث تبدأ أو  حيث تنتهي بمعرفة «سر الحب.."

أعرف سر الحبّ...

فتتصل المفردات وتلتبس المفاهيم التباسا خلاقا، وتلتبس مسارات المعرفة وثناياها، ولكن تتأكد الطبيعة المعرفيّة للتجربة التي تقولها القصيدة، وتنفتح على مدارات تأويلية متشعبة متراكبة، كالعلاقة بين المخاطب والحب في اتصالهما وتماهيهما تماهي الصفة والموصوف، وما يسم التجربة المعرفية من امتحان شعوري يجعلها تجربة ذات خصوصية واختلاف بل تفرد، وما يبدو بين المتكلمة و"رهبة الأبد" من اقتران يجعلها منه ويجعله فيها :

اتل على روحي..

اقرأ اسمي

ففي التلاوة بعض القراءة، وفي "رهبة الغيب" بعض الاسم...وفي القلب كل الأبد وكل العلم...

ويختزل آخر القول مجمل التجربة :

أعرف سرّ الحبّ المتدفّق من تعب النّبضِ.

ليكون "التعب" مفهوما روحيا فكريا جامعا مؤهلا لبلوغ الرتبة المعرفية المأمولة الناقلة من "الجفاف" إلى القطر فالدفق الغامر المحيي المخصب..

هكذا يكتب الشعر المعرفة، وتنبني المعرفة على "الرجاء" خوفا وخشية ورهبة وأملا على أبواب السماء..

 

الحبيب بالحاج سالم

 

في المثقف اليوم