قراءات نقدية

المرأة المملكة..

madona askarقراءة في قصيدة "الرّسولة بشعرها الطّويل حتّى الينابيع" للشّاعر اللّبناني أنسي الحاجّ

"المرأة هي أرض الكلمات وفضاؤها" (أنسي الحاجّ)

أن تقرأ المرأة من خلال أنسي الحاجّ فكأنّك تسبح في أثير المرأة الأولى، في سرّ التّكوين وسرّ الأبد. المرأة الّتي تلامس المطلق، الحاضنة، الخالقة، المجتاحة الكيان الإنسانيّ والمطوّقة تركيبته. "المساحةٌ الرّحبة الطّريّة، المساحة الدّاخليّة المتمادية، الحافلة بالمفاجآت، المساحة الّتي لا وجود لمثلها لدى الرّجل." وكأنّي بأنسي يرنو إلى المرأة الإلهة بالمعنى الإبداعيّ لا بالمعنى الدّينيّ. فهي تحمل الحياة بذاتها بحسب أنسي، وتمنحها ظاهريّاً وداخليّاً. تمنحها على المستوى الخلق، وعلى المستوى النّفسيّ والرّوحيّ. "أرض المرأة خضراء."

- العنوان المفتوح على المرأة الرّسولة:

الرّسوليّة تختلف عن النّبوّة، فالنّبوّة تبليغ للكلام الإلهيّ، وأمّا الرّسوليّة فهي تقوم في مقام المُرسِل، وكأنّها المُرسِلُ شخصيّاً. وقد يمكن الاستعانة بالمعنى الإنجيليّ الواسع لمعنى الرّسوليّة ولرتبتها المقدّسة الشّاملة. إذ نقرأ في مواضع عديدة أهمّيّة الرّسوليّة من حيث الكرازة والسّلطة الرّوحيّة والامتداد الفكريّ والرّوحيّ المستمدّ من الله. "كما أرسلني الآب أرسلكم أنا" (يوحنا 21:20). والكلام للسّيّد المسيح، وبه يمنح الرّسول مقاماً رسميّاً. فهو مندوب رسميّ ومبعوث ومفوّض بمطلق الصّلاحيّة. والرّسولة في قصيدة أنسي الحاجّ قريبة جدّاً من هذا المعنى. دلّت عليها عبارة (شعرها الطّويل حتّى الينابيع). فشعر الرّسولة يجسّد شموليّة الجمال وسيطرته اللّطيفة على الوجود (حتّى الينابيع). فتأخذ هذه السّيطرة مساحة كونيّة لتكون المرأة الكونيّة. فأنسي لا يتحدّث عن امرأة بل عن "المرأة". المرأة الحبيبة الّتي يفتقدها أنسي ويلقاها، يغترب عنها ويعود إليها، يشتاق إليها وهي حاضرة.

المرأة الرّسولة، المرأة الكونيّة ، الحبيبة الّتي يتوق إليها الشّاعر المتجسّدة حقيقة لا مجازاً. وسيقودنا القسم الأوّل من القصيدة إلى مفهوم المرأة الحقيقة الّتي يخاطبها أنسي مباشرة.

- المرأة المركّبة البسيطة:

في البساطة يكمن كلّ الإبداع والجمال، فالبساطة ليست بالأمر السّهل. ومن العسير اختراق مفهومها وشفافيّتها. وقد تكون معقّدة في أرقى تجلّياتها (أنتِ البسيطة تبهرين الحكمة). فتتجلّى فلسفة أقوى من الحكمة، أو تجسّد الحكمة في أعظم معانيها الّتي تستمدّها من حقيقة الحبّ وقوّته.

أنتِ السّائغـة اللـّيـنـة تشابكتْ يداكِ مع الحُبّ

وكُلّ كلمةٍ تقولينها تتكاثف في مجموع الرّياح.

هذه المرأة الجسد والنّفس والرّوح (الصّغيرة/ السّائغة/ الخفيفة/ البسيطة) تفرض نفسها قوّة خاصّة وفريدة لتشكّل فعلاً كونيّاً. (حسرتِ الظّلّ/ تفكّين السّحر الأسود / تقولين / تبهرين الحكمة). وبذلك يولي الشّاعر المرأة سلطة على المادّة والغيب والكلمة والفلسفة...

- المرأة الرّسولة الطّريق إلى الله:

المرأة الرّسولة تقود إلى معرفة الله. بل هي الدّليل على حضوره. الله الحبّ وليس أيّ إله آخر. افتتح أنسي قصيدته باتّحاده بالمرأة الحبيبة (يدي يدٌ لكِ ويَدُكِ جامعة.) وجعل القارئ يسير معها ويغرف من كرازتها. ثمّ يدخله في حواره التّضرّعيّ مع الله، ربّ الأكوان وربّ الوجود، وربّ المرأة. إلّا أنّ هذه المرأة امتداد إلهيّ بحسب أنسي الحاجّ، كونها الطّريق إليه:

أيُّها الرّبُّ

إحفظْ حبيبتي

أيُّها الرّبُّ الذي قال لامرأة: يا أمّي

إحفظْ حبيبتي

أيُّها الرّبُّ إلهُ جنودِ الأحلام

إحفظْ يا ربُّ حبيبتي

مَهِّدْ أمامها

تَعَهَّدْ أيّامها

مَوِّجْ حقولها بعُشب الخيال

إجعلْ لها كُلَّ ليلة

ليلةَ عيدِ الغد

أيُّها الرّبُّ إلهُ المُتواعدين على اللّقاء وراء جسر الحُرّاس

أيُّها الرّبُّ إلهُ الخواتم والعُقود والتنهّدات

يدخل أنسي الحاجّ في حوار خاصّ مع الله، متضرّعاً إليه بصوت يخترق قلب القارئ مباشرة. ويكشف هذا التضرّع عن أهميّة المرأة في عينيّ الله وقيمتها المقدّسة (ها الرّبُّ الذي قال لامرأة: يا أمّي). ولا ريب أنّ الشّاعر يشير بهذه العبارة إلى السّيدة مريم العذراء أمّ المسيح الرّبّ. هذه العبارة الملفتة العميقة الّتي من خلالها تستبين قيمة المرأة المرتبطة بالأمومة أي بالحبّ الّذي لا حدّ له. ويعي الشّاعر جيّداً المفهوم الأموميّ الشّامل غير المرتبط بالإنجاب وحسب. فالمرأة الأمّ هي غير المرأة المنجبة. الأمومة صورة عن وجه الله الحبّ، وقيمة تتخطّى مرحلة الإنجاب المؤقّتة. المرأة أمّ منذ ولادتها وحتّى النّهاية. الحبيبة والأخت والصّديقة والعشيقة، كلّها صفات تصبّ في الأمومة الاحتضان الكونيّ.

بهذا الحبّ السّرياليّ، يبلغ الشّاعر الله. وبالمرأة يعاينه، ويتلمّس حقيقته. بل إنّها فعل الله في الكون (هي تعمل فتجري أنهاركَ في قِفاري/ هي تعمل فأتأمّل في معجزاتكَ). وهي الرّسولة المتّحدة بعالم الإلهيّات، منه تستمدّ كلّ قوّتها ومعرفتها (هي تنظر فأراكَ).

إنّها المرأة الحبيبة المستحوذة على كيان الشّاعر. إليها تنقاد مشاعره المختلفة ولها ينسحق ويقيم عهداً معها.

يتردّد فعل القسم ثلاثا وعشرين مرّة في القصيدة، دلالة على تعبّد خاصّ للمرأة. كما أنّ القارئ سيتلمّس الحركة الانفعاليّة التّصاعديّة عند الشّاعر الّذي ينسحق أمام الحبيبة حتّى يبلغ العبادة. (أُقسِمُ أنْ أكون لُعبتكِ ومغلوبكِ/ أُقسِمُ أن أنحني من قمم آسيا لأعبدكِ كثيراً.)

وتبلغ المرأة الرّسولة منتهى رسالتها المفتوحة على الحياة الجديدة، على صوت الله في الكون، على السّلام والطّمأنينة. المرأة الّتي يناجي الشّاعر الله من أجلها، ويتوسّله حضورها الفاعل الدّائم:

أبقِ بابها مفتوحاً فلا يبيتُ الرّجاءُ في العرّاء

بارِكْها إلى ثلج السّنين فهي تَجْمَعُ ما تَفَرَّق

أُحرسْ نجوم عينيها فَتَحْتَها الميلاد.

المرأة المانحة الحبّ والحرّيّة، الرّسولة بقدرتها الشّاملة الرّحبة حتّى ينابيع الولادة الجديدة، هي الحبيبية الّتي لم تكشف عن الضّائع فقط، بل إنّها "دلّتْ على المفقود"، وهي الرّسولة الّتي فازت على القوّات، ولذلك يعلن الشاعر هذا النّداء:

تعالَوا

المملكة مفتوحة

أسرابُ الحساسين عند باب المملكة تُسْرع للتّحيّة

على بُعْد قُبلة تقفون من الباب

الكنوزُ وحيدة

الأرضُ وحيدة

الحياةُ وحيدة

تعالَوا

كلَّلوا رؤوسكم بذَهَب الدّخول

وأحرقوا وراءكم

أحرقوا وراءكم

أحرقوا العالَمَ بشمس العودة.

 

مادونا عسكر/ لبنان

 

 

في المثقف اليوم