قراءات نقدية

تجديد موضوع الموت في الشّعر

سوف عبيدقد أخذ المنحى الشكلي ـ بما فيه من مقاربات عروضية وإيقاعية وغيرها ـ جهودا جمّة في تنظيرات الشعر الحديث حتى بدا التجديد فيه يكاد لا يتمثل إلا في مظهر المباني بينما ظلت مسألة المعاني والرّؤى والصور قليلة الحضور والتناول على مستوى النصوص النظرية والحجاجية لذلك نرى أنه يتعين على المتابعين لتطور القصيدة العربية الحديثة أن يعكفوا كذلك على سبر مثل هذه الأغوار الداخلية للوقوف على مدى إضافات الشعر الجديد ورصد تحولات القصيدة الحديثة تلك التي ولئن طرقت نفس المواضيع القديمة عموما إلا أنها تناولتها من زوايا أخرى وبأساليب مغايرة مثل موضوع الموت

في الموت قصائد عديدة ضمن أغراض الرثاء والتأمل والزهد وغيرها فهو من المواضيع التي يزخر به ديوان الشعر العربي على مدى توالي عصوره واِمتداد أمصاره غير أنه أضحى في مدونة الشعر العربي الحديث موضوعا قد تناوله بعض الشعراء بكثير من التجديد سواء من حيث المناسبة والعبارة أو من حيث الإيقاع والصورة ناهيك عن النظرة إليه من حيث الرؤية الاجتماعية والدينية والفلسفية فظهرت قصائد عديدة في ما يسمّى بالرثاء الذاتي تتمحور عموما حول فكرة أساسية غالبا ما تؤكد على أن الشاعر قد نفض يديه من الدنيا تلك التي يغادرها وحيدا بلا أهل وبلا أصدقاء وبلا مراسم دفن أو طقوس جنائزية لكأنّ القصيدة تتحوّل إلى عتاب لمعاصري الشاعر لتصل إلى الخيبة والمرارة…إنها قمة المأساة

من بين أولئك الشعراء الشاعر والأديب صالح القرمادي في ديوانه ـ اللحمة الحية ـ الصادر بتونس سنة 1970 حيث نقرأ له قصيدا بعنوان ـ نصائح إلى أهلي بعد موتي ـ يقول فيه

إذا متّ مرّة بينكم

وهل أموت أبدا

فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين

واتركوهما لمن يرتزق بهما

ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين

فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض

ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي

فقد كانا أشهي أطعمة حياتي

ولا تذروا على قبري حبوب التّين

لتأكلها طيور السّماء

فالأحياء بها أولى

ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي

فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي

كل يوم خميس

فلم تزلزل الأرض زلزالها

ولا تزوروني في كل سنة مرّة

فليس لديّ ما به أستقبلكم

ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون

ولا حتى وأنتم كاذبون

فصدقكم وكذبكم عندي سواء

ورحمتي لا دخل لكم فيها

ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون

فليس هذا السّباق من رياضاتي

إذا متّ بينكم

وهل أموت أبدا

فضعوني في أعلى مكان من أرضكم

واحسدوني على سلامتي

إنه خطاب تأبين ذاتي أو وصية إلى أهله وأصدقائه يعلن فيه القطيعة بينه وبينهم على جميع المستويات بل ويتهكم من عاداتهم واعتقاداتهم مما يؤكد الغربة التي عاش فيها بينهم

بحيث أنه عندما يدفن بعيدا عنهم سيلقى الهناء والسلامة

أما على مستوى الأسلوب فيبدو الكلام قريبا جدا من المستوى المحكي اليومي ولكنه حامل لكثير من التضمينات ذات الأبعاد الاجتماعية والفكرية والدينية مما يجعل القصيدة

تعبر بالبساطة والسلاسة عن المعاني المعقدة والإشارات البعيدة

وللشّعر باللغة اليوميّة التونسية إضافات بديعة في غرض الرثاء أيضا وفي نفس سياق قصيدة القرمادي يمكن قراءة قصيدة الشاعر أبي أمين البجاوي الذي يرثي فيها نفسه حيث يوصي قائلا

أنا عندي ألف حكاية…وحتى حكاية ما تمتشي

وانا عندي ألف غناية… وحتى عناية ما تكتبشي

وك نوصل آخر العمر

نهز معايا الف حكاية

وتحت اللحدة

وسط قبر تنام معايا

الف غناية

. وأنت. لو وصلك الخبر

وجيت وقفت مع العزايا

لا تنطق لا تبوح بسر

ولا تحفر في ماضي ورايا

. نوصي القبار إذا حفر يقرأ حساب لألف حكاية

. اما. إذا حفرلي شبر

. آش نعمل للالف غناية

وهو حلال الألف حكاية

وهو حلال الألف غناية

كيف نموت يموت معاي

وللشاعر أبي أمين البجاوي قصيدة أخرى يرثي فيها صديقه الشاعر عبد الله مالك القاسمي يبدأها بسرد بعض ذكرياته عندما كان معه في المقهى ويدعوه للمغادرة وقد حان وقت إغلاقه فالقصيدة ترشح بالأشجان والوفاء ضمن صور يرصدها من تفاصيل لقائه الأخير مع صديق

وفي موضوع تجديد موضوع الرثاء نقرأ أيضا قصيدة ـ بكائية البحر ـ للشاعر محمد الحبيب الزناد في ديوانه ـ المجزوم بلم ـ الصادر بتونس سنة 1970 وهو في رثاء أمه حيث زرد في بعض مقاطعها

خرجتْ تتفقد الأحباب

كان البحرجميلا ساخرا كذاب

عقدت عليه أشواق الأهداب

ورمت إليه بما في العمر من أتعاب

أعجبها النخل على زيفه

و الرمل وضوح سراب

….

خرجت تلوي على فرح جذاب

لبست جلباب

أبيض كالصبح لا حقد فيه

و لا لون اغتراب

خرجت تواجه زبد الموج وتمويه السحاب

مابين فتح الباب وغلق الباب

سنوات شطت وحبيب غاب

أعطني من ملحك يا بحر

ملح كلماتي

أعطني شعرا لأمواتي

ماذا عن الدنيا يا غامض الألوان

ويا قادرا عاتي

ماذا عن الأموات

جالت عيناها في البحر

فارتعش البحر لعينيها

علته الزرقة

فيبدو بوضوح أن الرثاء في هذه القصيدة يختلف إلى حد بعيد عن قصائد الرثاء في دواوين الشعراء القدامى لا من حيث المبنى فحسب وإنما من حيث المعنى أيضا بما فيه من مفردات ولوحات ومواقف ومشاهد جديدة كان البحر فيها نقطة الانطلاق

ومدى الآفاق

ونحن نلاحظ تجديد موضوع الموت لدى الشعراء المعاصرين حتى ضمن شعر البحور الخليلية

ففي القسم الأخير من المجموعة الشعرية “تعب” للدكتور الشاعر جعفر ماجد والذي جعل له عنوان تأملات في الحياة والموت قصيدة في غرض الرثاء تحت عنوان ـ حقيبة المفاجآت ـ وهو نفس عنوان برنامج الفقيد الراحل الإذاعي صالح جغام

ولئن كان موضوع القصيدة تقليديا يندرج ضمن غرض الرثاء فإن القصيدة قد فاضت على معاني التفجّع المألوفة لتلامس تخوما جديدة في القول الشعري بالرغم من سلوكها الدروب التقليدية مبنى ومعنى، فأين تتجلى مظاهر التجديد؟

مظاهر التجديد في هذا القصيد كامنة في شخصية المرثي فهو إذاعي قدير وصاحب معاناة ثقافية وهذه صفات جديدة طارئة على سجل الرثاء في الشعر العربي الذي يجد التعبير فيه سهلا إذا كان المرثي من الأقارب أو من الفرسان أو من الأمراء والأدباء والعلماء أما والحال يتعلق بإذاعي فقد عمد جعفر ماجد إلى المعاني التالية

في مطلع القصيدة اعتبر جعفر ماجد الميت نائما في قوله

نَمْ هنيئا فأنت يا صاح متعب

نَمْ هنيئا وخلنا نتعذّب

فأكد النوم والهناء بالتكرار وجعل من صيغة الأمر طلبا برفق ورجاء من خلال السياق مع المقابلة بحال المتكلم في صيغة الجمع ذلك أن الفقيد كان موته كأنه اِستراحة المحارب بينما العذاب كان من نصيب (نحن)

فمنذ المطلع تحدث المفاجأة في سير الأمور ذلك أن الميت قد تعذب وهو يغالب الموت لكن الشاعر قلب الآية وجعله ينام نوما مطمئنا بينما ظلّ هو وصحبه في العذاب، ولعلّ هذه المباغتة الشعريّة صاغها الشاعر من عنوان البرنامج المذكور فكان طالع القصيد منسوجا من خيوط تفاصيل شخصية المرثيّ

و في البيت الثالث يصرح الشاعر بالمفاجآت قائلا

أنت فاجأتنا فهل شئت حقّا

أن تظلّ المفاجئ المتوثب

و في البيت الرابع ترد المفاجأة بصيغة الجمع قائلا

قد صنعت المفاجآت بحذق

و سبقت الجميع في كل مشرب

وفي البيت الخامس يصرح بالحقيبة ألا وهي حقيبة المفاجآت التي تصبح المفاجآت حقيبة فتنقلب العلاقة الإسنادية بين الكلمتين من مضاف ومضاف إليه إلى مبتدأ وخبر

لقد جعل جعفر ماجد الموت نوما في مطلع القصيدة ثم بداية من البيت السادس يجعل موت صالح جغام مفاجأة من مفاجآت حقيبته كأنه وهو ميّت ما يزال حيّا يفاجئ الأحبّة بجميل وغريب ما لا يتوقّعون قائلا

غير أن التي فعلت أخيرا

أبدا لم نكن له نتأهب

أما بقية معاني الرثاء فهي من سجلات منتظرة في هذا الغرض كالهلع والدموع والتأمل والحكمة إلا أن الأبيات الثلاثة الأخيرة فيها معان جديدة في الرثاء وهذه الأبيات هي

هكذا نحن دائما لا نبالي

بعذاب الطيور حين تعذب

فإذا آذن الرحيل وغابت

شاقنا صوتها وأشجى وأطرب

طلعت شمس هذا النهار علينا

أين صوت نحبّه حين يغضب؟

فتشبيه الموتى بالطيور جديد على الشعر العربي القديم الذي قد نقرأ فيه بعض الإشارات إلى طائر خرافي يخرج من رأس القتيل صائحا إذا لم تأخذ عشيرته بثأره ويسمى هذا الطائر الصدى وقد ورد في لسان العرب قول أبي عبيدة

سُلّط الموتُ والمنون عليهم

فلهُم في صدى المقابر هامُ

إنّما في هذه القصيدة يكون الطائر رمزا للمعاناة وللعذاب وهما قدر المبدع الملتزم بالقيم النبيلة في هذا العصر والذي يعترف له الناس بقيمته وبعطائه ولكن بعد أن يدفع حياته على الحساب فختام القصيدة ورد في معاني الحكمة بأسلوب جديد.

أما البيت الأخير فهو مسك الختام حيث يجعل جعفر ماجد الشمس طالعة رغم هذه الأحزان إلا أن شخصية المربي تظهر من جديد في الكلمة الأخيرة عند قوله

أين صوت تحبّه حين يغضب

فهذه الصيغة هي إلى الحسرة أقرب وهي تمثل صفة من صفات المرحوم صالح جغام المتمثلة في غضبه الواضح وهو وراء المصدح عند الغيرة على الذوق العام وعند التحمس إلى المعرفة والثقافة فالقصيدة اقتبست في كثير من أبياتها شخصية المرثي واستعملت أساس برنامجه الإذاعي بحيث أن غرض الرثاء فيها تلون بخصائص المرثي فجعفر ماجد في هذه القصيدة جدّد ضمن الإطار التقليدي…إنه التجديد من الداخل

للشاعرات أيضا نصيب في قصائد الموت الحديثة حيث تناولن هذا الغرض بنظرة تجديدية واضحة نذكر منهن الشاعرة آمال جبارة في قصيدتها ـ مقبرة ـ بديوانها ـ أرق الكلمات ـ الصّادر سنة 2006 والتي تُصور فيها مقبرة مدينة المهدية التونسية تصويرا هو أقرب إلى الرسم التشكيلي حتى لكأن القصيدة تستحيل إلى لوحة يطغى عليه اللون الأبيض بداية من أزهار الأقحوان إلى بياض القبور وزبد البحر غير أن اللون الأسود يسجل حضوره في آخر القصيدة وذلك عندما يخيم الليل القصيدة إذن قائمة على سجل من الثنائيات والمدلولات من بينها ثنائية الأبيض والأسود وهي تتراوح أيضا بين العمق والارتفاع وتتنزل بين المد والجزر أو بين البر والبحر وهي تتجلى من ناحية أخرى بين الحضور والغياب أو بين زمن الفاطميين والزمن الحاضر لتظهر معاناة ثنائية الحياة والموت تلك التي تعبر عنها الشاعرة وهي تزور المقبرة البحرية فتلقى في أحضانا الصفاء والسكينة والسلام فالمقبرة في هذه القصيدة لا تعني الموت وإنما تتحول إلى رديف للحياة المنشودة وبذلك تنقلب جميع المعادلات المعهودة

هناك

حيث ينام الأقحوان قيد قبور من البحر

على بعد شهقة من‘ البرج

تتسنّى لي الحياة مرّتين

ما بين قبر وعوسجه

صخور الفصل مرهَقة

ترسم حدود الحياة

والعمق يحثّ الزّبدَ

يغازل الشّواهد المؤنّثه

عاصمة الموت الفاطميّ

تدلّك مفاصلها بمرهم المدْ

شبق يحتدْ

و تشهق في البرج الأعمده

للموت حضاراتٌ يجهرها الصّمت

هناك…بين القبور

تتقاسم مع البحر كلّ الزّمان

وبعض الأمكنه

ينهزم الغياب

في الكفّ الفاطميّ المخضّب

تستبيح الأرواح ترك الغطاء الحجريّ

آهلة أراها هاته المقبره

اللّيل يحبّ الانفتاح على المسالك

بين القبور

يخلد الزّبد الى الصّمت

حين تلألأ الأرواح نجوما مبعثره

الموت هديّة المنهكين/عودة مذهلة للصّفاء الأوّل

أمارس النّبش اضطرارا

لأقبر رغبة في الحياة دون النّضج

كم أفارق الجسد في هاته الأمكنه

أضرحة يزورها الأ……موات

يربكون هدوءها

بتجويحة اليتم الحقيقي

تتداخل الظّلال في الخميسات

في ليالي الجمعة

أضحت طقوس النّدب مشتّتة

بين الرّغبتين

كم ممتع هذا الصّراخ الأزليّ والرّجع مقبور

حين اللّيل يحتضر في هذي الكفّ المقفره

كذلك هو الشعر العربي ـ هذا الجديد ـ في مختلف أنماطه وتسمياته ـ ليس تجديده في خروجه عن التفعيلات والبحور والقوافي فحسب وإنما في ظهوره بأساليب من المفردات والإسنادات والمجازات والإشارات وحتى في مستوى توزيع كلامه على الورقة ليأتي بمعان وأحاسيس ويرنو إلى أبعاد ويعبر عن معاناة ظروف أخرى لم يعشها السابقون…و تلك لعمري شرعية التجديد في كل عصر

 

سُوف عبيد ـ تونس 

 

 

في المثقف اليوم