قراءات نقدية

المسرح ولعبة البديل للواقع السياسي العراقي

محمد كريم الساعديلعبة البديل للواقع السياسي في نص مسرحية الموت والعذراء للمؤلف التشيلي (آرييل دورفمان) من قاعدة سياسية واجتماعية وثقافية تقارب الوضع السياسي الذي حدث في العراق بعد عام (2003)،، فكلا المرحلتين السياسيتين في (التشيلي والعراق) قامت على تغيير نظام الحكم، لكن بطريقتين مختلفتين، في (تشيلي) تم التغيير دون تدخل خارجي مباشر وفي (العراق) بتدخل خارجي مباشر من خلال الاحتلال الأمريكي عام (2003)، وفي كلا الوضعين كان هنالك شبح حرب أهلية، تقع بين أبناء الشعب بسبب ثقل المرحلة السابقة التي سبقت مرحلة التغيير. لكن المفارقة بين الوضعين السياسيين في كلا التجربتين، إن في (تشيلي) تم معالجة التصفيات السياسية مع الماضي من خلال تشكيل هيئات تحقيقيه سرية تأخذ على عاتقها وبشكل قانوني من خلال لجان تحقق في انتهاكات حقوق الإنسان، وأخذت على عاتقها تطبيق برنامج السلطة الجديدة ضد الجرائم السابقة التي وقعت في زمن حكام تشيلي السابقين وسميت هذه الدوائر التحقيقية بـ(هيأة ريتيج) والتي كانت تنتهي عقوباتها بالموت او بالسجن المؤبد، شرط ان لا يعلن عن أسماء المجرمين أو اماكن محاكمتهم، إذ علق (دورفمان) على هذه اللجان والسياسية الجديدة حينها قائلاً : استطاع الرئيس (ايلوين) حقاً أن يدير الدفة بحذر وتبصر وشجاعة، بإتباعه مسلكاً وسطاً يوفق ما بين أولئك الذين يؤثرون دفن الخوف، خوف الماضي الإرهابي كلياً، وبين أولئك الذين يريدون الكشف عنه كاملاً. وعلى هذا الأساس كتب (دورفمان) مسرحية (الموت والعذراء) التي تتناول ثلاثة شخصيات تدور بينها الأحداث التي تمثل التوجهات السياسية الثلاثة القائمة بعد التغيير، فشخصية (باولينا سالاس) زوجة المحامي (جيراردو اسكوبار) التي تمثل الواقع الشعبي الجديد الذي تحرر من الزمن السابق، والتي تعرضت فيه إلى التعذيب والاغتصاب بسبب مواقفها السياسة من النظام القائم آنذاك. أما الطبيب (روبيرتو ميراندا) الذي يبلغ من العمر (خمسين عاماً) فهو يمثل السلطة السابقة، إذ كان يعمل مشرفاً على التعذيب في المعتقلات وكان يعذب المناوئين للسلطة على أنغام موسيقى (الموت والعذراء)، وهي مقطوعة موسيقية للمؤلف النمساوي (شوبرت) كان (ميراندا) شغوف بها ويسمعها أثناء التعذيب الذي تعرضت له (باولينا)، أما زوجها (جيرارد) البالغ من العمر (45) عاماً الذي يمثل الرأي السياسي الذي تبناه الرئيس (ايلوين) وعضو في هيأة التحقيق (ريتيج). وعلى وفق هذه التوجيهات الثلاثة تنطلق أحداث المسرحية والتي تسوق الطبيب (ميراندا) للوقوع في قبضة (باولينا) التي تقرر أن تنفذ القانون بيدها مما يجعل شخصية (باولينا) التي تصل إلى اليقين بأن الطبيب، هو من كان يشرف على تعذيبها بعد أن تجد في سيارته موسيقى (الموت والعذراء) التي كان يسمعها في أثناء ممارسته للتعذيب، فيجعلها أمام لحظة الانتقام التي ساقها القدر إليها، وتصبح هي الضحية، وهي القاضي الذي يقرر طريقة التعامل مع الجلاد وتستمر في تطبيق قانونها الخاص التي اعتقدت بأن السلطات الجديدة عجزت من تحقيقه، وبعد ذلك يعرض (دورفمان) رأي السلطة الجديدة من خلال (الزوج) الذي يقع بين العاطفة، لكون التي عذبت وغصبت زوجته (باولينا) وبين الواجب هي عضو في هيأة التحقيق التي يجب أن تحقق العدالة في البلاد على وفق القانون الرسمي وليس الانتقام الشخصي حتى وان كان المجرم قد ارتكب فعلاً جرمه، فيجب أن ينفذ العقاب تحت قانون الدولة الرسمي بعد أن تثبت الإدانة من خلال الطرق الشرعية، وحتى لا يسود قانون الانتقام وتختفي معه حقائق كثيرة وتسود الفوضى والدمار وتنهار الديمقراطية الجديدة وتعود الدكتاتورية بثوب جديد، وهذا ما يراه الزوج في حواره مع باولينا التي تريد أن تنفذ الانتقام من الطبيب بنفسها. جيراردو : نعم، لان ثمة سبباً أكبر يدعوك إلى أن تطلقي سراحه، لا تنظري إلي هكذا، تخيلي ماذا سيحدث لو أن كل واحد من الناس فعل ما فعلته أنت (باولينا)، أنت بهذا فقط تشبعين رغبتك الشخصية، حين تقررين الحكم لوحدك وتنفذين العقوبة بنفسك.(باولينا)، أنت بهذا تسهمين في تأليب الناس بعضهم ضد بعض وتشاركين الأعداء في تقويض الديمقراطية في   البلاد .

أما في العراق بعد(2003) عمل التدخل الأمريكي الخارجي عكس ذلك وهو ما يسعى إليه الأمريكان في خطابهم الجديد، فهم لم يعملوا على تأسيس مؤسسات تأخذ على عاتقها حل المشكلات التي خلفها النظام السابق بسبب أعماله ضد أبناء الشعب العراقي، إذ عملت على تفرقة الشعب إلى طوائف وقوميات متناحرة متصارعة تنادي بالانتقام والثأر الجماعي،وبدأ مشروعها التقسيمي للعراق من خلال تأسيس مجلس حكم جعلت فيه التمثيل على أساس طائفي وعرقي ومذهبي وقومي وليس على أساس وطني يأخذ بجميع هذه الطوائف على أساس الوطن الموحد، ثم قامت بإرباك الأمن بحل مؤسسات الدولة والجيش وبنائها على وفق قانون المحاصصة، كذلك سمحت في بداية الاحتلال إلى تخريب المؤسسات ومن ضمنها المتحف الوطني والأرشيف الرسمي للدولة دون تدخل منها لمنع اليد الخارجية ومن يعاونها في الداخل من فعل ذلك وهذا ما أشار إليه تقارير المنظمات غير الحكومية في أن قوات الاحتلال الأمريكي لم تقم بحماية التراث الثقافي العراقي الذي لا نظير له، وتركته عرضه للسارقين ولصوص الآثار، أما المكتبة الوطنية والمتحف الوطني، إلى جانب العديد من الهيئات الثقافية المهمة، فقد تعرضت لأضرار كبيرة وسرقت محتوياتها خلال الأيام الأولى للاحتلال. منذ ذلك الوقت تقيم قوات التحالف معسكراتها في المواقع الأثرية الحساسة وتدمر المدن التاريخية في أثناء العمليات العسكرية، لذلك فالخطاب الذي يتبنى رؤية (دورفمان) في مسرحية (الموت والعذراء) يفكك الخطاب الأمريكي الذي عمل على ما يأتي :-

1. تأسيس تمثيل ثقافي جديد قائم على أساس الانتماء للطائفة والقومية، لا على أساس الانتماء للوطن ككل ومن ثمّ سيساعد هذا التمثيل الثقافي في تعميق التفرقة والخلاف بين أبناء المجتمع العراقي.

2. إبعاد المجتمع العراقي الجديد وأجياله القادمة من خلال تخريب وسرقة ارثه الحضاري المتمثلة بالمتحف الوطني، والمكتبة الوطنية من أجل الوصول إلى تأسيس ثقافة جديدة بعيدة عن الثقافة الأصلانية.

3. العمل على تأسيس جغرافية ثقافية جديدة تقوم على التفرقة الاجتماعية والثقافية بين أبناء المجتمع العراقي.

لهذه الأسباب، وغيرها عمل المخرج العراقي ابراهيم حنون على تقديم نص (الموت والعذراء) لكونه يناقش قضية سياسية واجتماعية وثقافية شهدها العراق بعد (2003)، وكان للخطاب الامريكي الجديد دور في رسم ملامح هذه المرحلة السياسية وأثر فيها بشكل مباشر من خلال الاحتلال وغير مباشر من خلال أهدافه الخفية التي نفذت في الساحة الثقافية العراقية، وهذا النص حينما يقدم في ضوء التجربة العراقية سوف يكشف أهداف الاحتلال الخفية من خلال موضوعة المسرحية التي تعيد للأذهان عملية تقييم هذه المرحلة.

إن نص مسرحية (الموت والعذراء) يقدم مستويات متعددة وتفسيرات متناقضة في ضوء التجربة السياسية العراقية لكونه يخالف طموحات ما تريده السلطة الكولونيالية، وكذلك فأن شخصياته المسرحية هي مثال واضح عن الصراع الداخلي بين الخطابين الماضي ما قبل 2003 وما بعده، لأنها تسرد أحداث الماضي في ضوء المرحلة الحالية مما يجعل من النص لا يخضع للبناء التقليدي، بل هو يدخل في مغايرة البنية الدرامية التقليدية للوصول إلى لمتناقض من الأحداث، التي تعطي تفسيرات مختلفة ومستويات متعددة للمعنى الذي لا يقف في القصة ذاتها، بل إن هذه القصة والأحداث التي تدور بين الشخصيات الثلاثة، هي مجرد حاملة لتفسيرات أعمق تشمل مرحلة سياسية وثقافية معقدة مرت بها بلاد المؤلف (دورفمان).

   أما في عرض مسرحية (الموت والعذراء)، يؤسس المخرج خطابه على تقديم خطاب مغاير لما إرادته السلطة الكولونيالية وخطابها في الساحة الثقافية في العراق بعد (2003)، إذ يقدم نموذجاً مغايراً لطبيعة المرحلة التي قامت على الانتقام الجسدي والتصفيات السياسية العشوائية في ظاهرها والمقصودة في باطنها لتأجيج الصراع الداخلي، بل ان اختيار نص (الموت والعذراء) جاء ليرسم البديل السليم لطبيعة المرحلة.

إن المخرج أراد أن يستجوب الخطاب الامريكي، ويكشف ويفكك أفعال هذا الخطاب من خلال تقديم عرض يرسم التمثيل الثقافي الذي يجب أن تأسس عليه الثقافة الأصلانية خارج التمثيل الثقافي الامريكي الداعي إلى خارطة سياسية واجتماعية وثقافية جديدة بعيدة عن البعد التاريخي وثقافي للتعايش السلمي، فالعرض يبدأ بتأسيس للخطاب البديل من خلال الفضاء المسرحي القائم على الاختلاف الثقافي لتجربة الاحتلال وارتداداته المغايرة لفعل الخطاب ما بعد الكولونيالي الكاشف عن أزمة الهوية وطبيعتها في المجتمع العراقي، وكذلك الزمن المسرحي في العرض الذي يناقش جدلية الماضي وأحداثه في تشكيل صورة المرحلة التي استفاد منها الخطاب الامريكي في رسم ملامحها واستحضار مخاطرها على خشبة المسرح.

يبدأ العرض بموسيقى ذات طابع وإيقاع شرقي تحيل المتلقي إلى أن الأحداث تقع في سياق الثقافة الشرقية، ويقدم في تكوينات ديكورية تعطي انطباع للمتلقي بالمستويات المتعددة والبناء الهارموني للعرض، فالديكور عبارة عن ثلاثة سلالم، احدهما يتجه إلى شرفة وباب في أعلى المسرح في الجانب الأيمن، والثاني يؤدي إلى شرفة وباب أيضاً في أعلى المسرح في الجانب الأيسر، وكلا البابين يؤديان إلى غرفة زجاجية في أعلى المسرح تقع في الوسط، وسلم ثالث ينطلق من المكعب نفسه التي تتكئ عليه السلالم الأخرى، ولكنه غير مرتبط بالغرفة الزجاجية، وكما أن الجانب الأيسر من المسرح تمتد قضبان تحت كلا الشرفتين الى الأرض لتشكل (قفصي اتهام)، وينطلق الحدث الرئيس من خلال خمسة ممثلين، ثلاثة منهم يؤدون دور الجوقة الصامتة التي تقوم ببعض الأفعال التي تسهم في التعليق على الأحداث، أما الممثلون الآخرين فالأول يؤدي دور المحامي وعضو هيأة التحقيق (جيراردو ايسكوبار) والممثلة التي تؤدي دور الزوجة (باولينا سالاس) التي وقع عليها فعل التعذيب والاغتصاب من قبل الممثل السادس الذي يؤدي دور الطبيب (روبيرتو ميراندا)، والذي يظهر بعد المشهد الأول، وينطلق المشهد الأول في الغرفة العلوية بعد أن يصعد إليها الزوج والزوجة ودخولها إلى المسرح مع الجوقة من وسط الجمهور الذي يجلس هو الآخر على خشبة المسرح، إذ أراد المخرج أن يكسر الجدار الرابع مستفيداً من العمق الموجود في المسرح الوطني ليربط فضاء العرض وفضاء التلقي في مكان واحد، وخروج الممثلين بأجمعهم من وسط الجمهور فوق خشبة المسرح من اجل جعل القضية المستهدفة -وهي مرحلة ما بعد (2003)- وفضاء التلقي يتجاوزان مكان العرض التقليدي الذي يفصل العرض عن الجمهور بجدار رابع أو ستار في المسرح التقليدي. بعد أن يصل الممثلون كلاً حسب المكان المخصص له يبدأ العرض بإضاءة خفيفة على الجوقة التي يرتدي أفرادها أزياء بيضاء مع (حمالات) سوداء في حين أن الزوجة ترتدي زي المرأة المتحضرة والزوج يرتدي (بدلة) رسمية لدلالة على نوع العمل الذي يؤديه، إذ يبدأ المشهد الأول في الغرفة الزجاجية بحوار من الزوجة التي تتساءل عن سبب تأخر زوجها في حركات جسدية تستخدم فيها إيماءات اليدين والزوج يقدم بتنظيف الزجاج الأمامي للغرفة، وكأنه يكشف عن طبيعة عمله الجديد في إظهار الحقيقة أمام الآخرين وفي نهاية حوارهما يسلط عليهما ضوء ساطع ينهي المشهد بانطفائه.

أما المشهد الثاني الذي يبدأ بفتح الجوقة لإضاءة يدوية بشكل تدريجي إذ يخرج على أثرها الزوج من الباب الذي يقع في اليسار، وهو يشرح للزوجة التي تظهر في الشرفة اليمنى كيف انه ينادي بعد تعطل سيارته على قارعة الطريق، وعلى الرغم من عدد السيارات الكثيرة التي تتخطفه ولكن لا أحد يراه، وهنا يبدأ بطرح سؤال حينما يشكل مع قضبان الشرفة اليمنى هل (فقد الناس حقاً أحاسيسهم)، وهي في إشارة إلى طبيعة المرحلة وحالة الفوضى التي يمر بها المجتمع. وحينما يشير بيده إلى وصول من يساعده يدخل إلى مكان الحدث (روبيرتو ميرندا)، وكأن الحدث قد تبدل من فترة النظام السابق إلى الفترة الجديدة، وهو ينادي بأعلى صوته مخترق الجمهور فوق الخشبة (تغير كل شيء سيدي.. فجأة سمعت ذلك في نشرة الأخبار، صار لزاماً أن اعترف لكن بماذا لست أنا)، يقدم المشهد بأداء جسدي مربكة يدلل على الهزيمة التي لحقت النظام الذي ينتمي إليه، إذ يكرر وضع يده حول رقبته بالإشارة الى الموت الذي يلاحقه بسبب التغيير حتى يتحول المكان إلى غرفة تحقيق ورشقات الماء التي تسقط عليه من الجوقة، وكأنها سياط التعذيب، ثم يقف أمام قضبان السجن قبالة (مايكروفون) الاعتراف ويوجه الحوار إلى الجمهور، وهو ينادي بصوت هستيري أمام مكان الاعتراف (صار لزاماً أن تجول طول البلاد وعرضها، صار لزاماً أن تستمع الألف الناس، صار لزاماً أن تستمع إليهم.. سيدي لست أنا) وحينما يريد أن يهرب من السلم الوسط الذي لا يؤدي إلى شيء يبدأ الزوج والزوجة والجوقة بالتوجه نحوه مع موسيقى ترقب ووقوفه أمام مفترق طرق بين الانتقام الشعبي الذي تمثله الزوجة، وبين القانون الذي يمثله الزوج لتنطلق أحداث العرض بعودته إلى حلقة الاستجواب وتنفرد الزوجة أولاً في تطبيق قانونها قانون الانتقام دون الرجوع إلى القانون الرسمي، حيث تبدأ معه مرحلة التحقيق معه على موسيقى (شوبرت) التي كان يسمعها خلال فترة تعذيبها، وتستخدم معه أسلوباً عنيفاً من خلال ضرب رأسه بالطاولة التي تجلس عليها، أما الجوقة الذين يشكلون بجلوسهم على السلم الذي في الوسط، وكأنهم مدونات الفترة السابقة مع تأديتهم حركة تقلب الأوراق مع كل حركات جسدية تمثل مرحلة التعذيب التي تقوم بها الزوجة ضد الطبيب، وفي هذا المشهد تؤدي الزوجة دور المحقق ودور الضحية، فحينما تريد ان تقدم دور المحقق، تستخدم أداءً جسدياً يدلل على البشاعة في معاملة الطبيب وحينما تستذكر دور الضحية تبدأ بأداء ما تعرضت له وكأن الجسد يتحول إلى ساحة صراع بين خطاب السلطة السابقة، وبين سلطة الانتقام الشعبي الذي يريد أن يتحول إلى دكتاتور جديد في معاملته لخصومه، وهذه من المخاطر التي يريد العرض أن يشير إليها والتي أسهم الخطاب الكولونيالي في أن تصل إلى هذه المرحلة بعد ما كانت تعاني من المصير ذاته.

أما في المشهد الثالث والذي يبدأ فيه (الطبيب)، أو السلطة القديمة بالاستنجاد بالمحامي (سلطة القانون الجديد)، إذ يتشكل تكوين جديد يتوزع فيه الجوقة إلى شهود والطبيب يحاول أن يصعد السلم الوسط وتتجه الزوجة ويديه على زجاج الغرفة العلوية التي يظهر من خلالها المحامي، وهو يستمع إلى نداء الطبيب ويأتيه نداء من الزوجة بأنه هو الطبيب نفسه الذي كان يسمع رباعية (شوبرت) في أثناء تعذيبها، ليشكل الجوقة عملية (الاغتصاب) بحركات جسدية، وكأنه اغتصاب جماعي للزوجة وهي تسرد أحداث الماضي ينزل الزوج بشكل سريع ويقف بينها وبين الطبيب على السلم ليشير بذلك الى أن ما تريد الزوجة تطبيقه باليد غير منطقي، وهنا يقع أيضاً الزوج بين صراعين، صراع العاطفة والانتماء للزوجة المعذبة نتيجة أفعال السلطة السابقة وبين العدالة التي يجب أن تتحقق بطرقها السليمة والقانونية لذلك يطرح عليها السؤال الذي يجب أن تحقق بموجبه العدالة، إذ يقول لها: (إذا كنت تمتلكين سبباً وجيهاً ضده فعليك أن توجهي التهم الموجهة ضده أمام المحكمة فقط)، وهذا ما يريد الخطاب في العرض الوصول إليه في أن لو كل من وقع عليه الجرم قام بأخذ الثأر بيده لأصبح المجتمع يعيش في قانون الغاب، وبعد ذلك يتحول المشهد للصراع بين قانوني العقل والانتقام في حوارية يتبادل فيها الزوج (سلطة القانون الجديد) والزوجة (سلطة الانتقام الشعبي) أحقية أي من السلطتين في التعامل مع أحداث الماضي ومحاسبته والمتسببين في مآسيه.

وفي المشهد التالي يتشكل تكوين مسرحية تغلب عليه الإضاءة الحمراء ويقف الزوج في مكان (المكرفون) منطقة الاعتراف ليعلن : الرجل يمتلك كامل الحق في الدفاع عن نفسه حتى لو ارتكب إبادة جماعية 0 ثم تعلن الزوجة في منح الزوج الفترة الكافية لتحقيق العدالة، ولكن هذا الإعلان لا يدوم حتى تبدأ لتمارس فعل التحقيق مع الطبيب الذي يحول أن يوهما بأنها تعاني من حالة الانفصام لكونه ليس المسؤول عما ما حصل لها في محاولة لنفي التهم عنه، ويستنجد مرة أخرى بالقانون الذي يمثله الزوج، والذي يعود ليذكر بأن قانون الانتقام ليس هو الحل بل هو جنون يؤدي إلى الهاوية، يستخدم المخرج في مشاهد الصراع بين الزوج والزوجة موسيقى (الكمان) في معزوفة تعيد إلى الأذهان موسيقى (شوبرت) ويريد أن يقول بهذا الاستخدام للزوجة لا تعيد استخدام صوت الماضي وأدواته وموسيقاه في الانتقام، حتى يصل بالزوجة إلى أن تذكر الزوج بعدد مرات الاغتصاب لتستميله إلى جانبها، لكن الصراع الداخلي في داخل شخصية الزوج تنتصر الى لغة القانون ويحاول أن يضع انتقام الزوجة في دائرة الصراع النفسي وممارسة فعل الاغتصاب نفسه ضد الطبيب، حيث يعمل المخرج إلى تكوين جسدي بين الزوج والزوجة عبارة عن قطعة قماش بيضاء تسحبها الزوجة، وهي تصعد السلم الوسطي من تحت أقدام الزوج الذي يؤدي طريقة المشي الوهمي عليه في دلالة إلى محاولة سحب البساط من تحته وتحويل القضية لصالحها، والزوج يلفظ عبارات التذكير بأن فعلها هذا سيؤدي إلى تأليب الناس بعضهم ضد بعض ويطلب بإطلاق سراح (الطبيب)، وهنا تبدأ الزوجة بالتذكير بحقوق المظلومين من يأخذها إذا لم يقتص من الجناة، ويتشكل مشهداً آخر يعاد فيه الصورة الماضية من خلال تحويل الجوقة إلى مساجين في كلا القفصين، وهي تجلس في المكعب الذي في وسط المسرح، وتؤدي حركات جسدية هستيرية تتكرر من داخل القفصين حتى يأتي النداء موجه الى الزوج (سلطة القانون الجديد)، وتقول (وأنا ماذا بشأني انظر إلي) وتتوقف الحركة على صوت الزوج الذي يناديها بطريقة هادئة ومستقرة (أنا أنظر إليك أنت ما زلت سجينة، ما زلت مقيمة هناك معهم تحت في تلك الطوابق السفلية المغلقة)، وهنا إشارة إلى كون فكره الانتقام ما زالت تقبع في داخل النفس الإنسانية ولا تستطيع الخلاص منها.

ويصل العرض في المشهد الأخير إلى محاولة أن يصل الزوج إلى طريق مقنع يمنع من خلاله أن تضيع البلاد في التصفيات، لذلك يبدأ بالبحث عن حل للخروج من ذلك النفق المظلم، إذ يتشكل هذا المشهد على فكرة الحوار من خلال تكوين طاولة حوار بين الزوج والطبيب في إقناع الأخير بالاعتراف من أجل أن تتحول القضية إلى جانبها الرسمي حتى وان كان هذا الاعتراف اتفاق ضمني يعمل من خلاله الزوج إلى تخليص الطبيب من يد الزوجة الغاضبة والساعية إلى الانتقام، وحينما يبدأ وضع الطبيب على كرسي الاعتراف ومن خلفه القضبان في جانب المسرح الأيمن والزوجة تقف فوق الشرفة ذاتها، يبدأ الطبيب بتوجيه الاتهام إلى السلطة الجديدة ممثلة بالزوج بكونها متفقة مع الزوجة بتبادل الأدوار من أجل الإيقاع به، وهنا يريد خطاب العرض أن يؤكد على أن سلطة النظام القديم ما زالت تسهم في خلق المبررات من أجل أن لا تأخذ العدالة مجراها، مما يجعل الحدث في هذا المشهد إلى تطبيق القانون بعد أن تأكد لدى المحامي بأن الطبيب هو من يريد أن يسهم أيضاً بتعطيل القانون للإفلات من العقاب، وهو أحد المتورطين في أحداث الماضي، ليتحول المشهد الأخير بعد أن تطفئ الإضاءة ويتم استخدام إضاءة حمراء حادة بواسطة (لايت صغير) يتصاعد من خلاله صوت المحامي بإعلان إن الطبيب وسلطته الماضية تقع عليها مسؤولية التعذيب والاغتصاب والتحايل على القانون الجديد، وأن خطاب السلطة الماضية أيضاً أصبح جزءاً من أدوات الخطاب الكولونيالي الذي يهدف إلى نشر الفوضى وثقافة العنف بين أبناء المجتمع، كما أن هذه الثقافة الانتقام الجديدة أصبحت لها صدى عند من تعرض إلى الظلم والتعذيب في فترة الأنظمة السابقة، وأصبح الخطابان المتعارضان (الماضي والحاضر) من أدوات التفرقة التي تستخدمها السلطة الامريكية في تنفيذ أهدافها في الساحة الثقافية والاجتماعية والسياسية العراقية، لذلك عمل هذا العرض على ملاحقة وتفكيك هذه المفاهيم من خلال استخدام خطاب مسرحي ما بعد امريكي يدعو إلى ثقافة الوعي والعقل في المرحلة الجديدة بدلاً من الانتقام الذي يؤيد إلى الفوضى.

 

الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم