قراءات نقدية

أدب النقد الذاتي

صالح الرزوقاختار موفق ساوا في نصه (الراعي والرعية)(1) أسلوب الهجاء الذاتي، وصب نقمته على ثنائية السيد والعبيد، أو المفرد وعلاقته بالجماعة الأدنى منه. وقد فرض عليه هذا الأسلوب لغة موجزة ومباشرة ومفتوحة على الذات. بمعنى أنها تتكلم عن المسكوت عنه و بشكل اعترافات تشبه تباهي المراهق بسقطاته، أو المجرم بجريمته.

ومع أن النص هو خطوط عريضة لمشروع بصري، ويستدعي تضافر جهود مهندس الديكور ومهندس الثياب (الأزياء بما فيها الأقنعة والدمى والرسوم التعبيرية)، ثم مهندس الصوت والإضاءة، فإنه يمكننا أن نذكّر بموقف هيجل من العقد الاجتماعي. فهو في كل أحاديثه يؤكد على أهمية تنازل العامة للأمير عن دور القيادة. ويصل الأمر لدرجة الاستجداء والخنوع والعبودية في كل ما يخص العامة. ولكنها ليست عبودية أقنان، وإنما شروط طاعة. وهنا أول فرق بين العقد الاجتماعي للدولة الحديثة والصراع الطبقي.

وللتوضيح يمكن مقارنة كتابات ساوا مع صباح الأنباري.

إن موفق ساوا كاتب مشاريع أو خطط. وإذا كان بعضها تراجيديا فإن غالبيتها ساخر، والسخرية تساعده على إنشاء مسافة عازلة بين الفكرة وتشخيصها، وتصنع حالة من التغريب أو الوعي بالذات. ونحن نفهم ذلك بضوء تفسير هنري لوفيفر لمشكلة الحداثة مع نفسها. فهي لا تعرف كيف تجعل الجزء يرتبط عضويا بالكل. إنها تصنع فجوة في التمثيل، وتحول الأفراد إلى أخطاء أمام استقرار النظام وهيبته وتعاليه. وهذا يجعل من كل إنسان مرشحا لسقطة نتيجة الضغوط وتشجيع الانحرافات، أو عرضة لمأساة نتيجة الوعي الصارم بالتفاهة والعجز. ولذلك كانت السخرية وسيلة لتسكين الألم مثلما فعل التركي عزيز نيسين في قصصه، أو إدغار بو وقرينه بودلير. لقد كانا يجدان في الشرور والرعب أداة للتحايل على قسوة الواقع وطريقة لرفض الظروف. وربما كان لوتريامون أقرب من غيره لكشف دور الرومنسية السوداء في الإشارة لأهمية الغرائز والأخطاء في التربية. فهي تدفع الأسوأ بالسيء، وتخلع على الجريمة صفة تطهير أو تخليص، بمعنى تجاوز وإنهاء. فالموت، برأي مالدورور، لسان حال لوتريامون، يضع حدا للتورية، ويقربنا من التعبير المباشر عن مادية العقاب ورمزية الثواب.

وهنا يطيب لي الإشارة لدور العقاب في تعرية المعنى الضمني للألم. وكما قال دستويفسكي: إن الله ليس ساديا ليتسلى بتعذيبنا في نار جهنم (2).

ويبدو لي أن الفكرة كلها مرتبطة باستعارة فنية تلغي من الذاكرة أثرها الماحي. فالهزء من الذات المتعالية، كما فعل ساوا، مكافأة مؤجلة، أو صورة رمزية تشير لحتمية تفكك وسقوط أي نظام نتيجة أخطائه. عموما إن أسلوب النقد الذاتي يصلح للأفراد والجماعات، وللسيد والتابع، وهو يشبه التفكير بصوت مرتفع، ويمكن أن يأخذ اتجاها من إثنين:

- أن يشير لأخطاء وزلات الحضارة القوية لمنع مزيد من التمركز حول الذات والانعزال عن التاريخ، كما فعل شومسكي مثلا في تشريح الغطرسة الأمريكية.

- أو يكون وقاية، إجراء يستبق به الإنسان غيره في الكلام عن دمامته أو عيوبه كما فعل الشاعر العربي المعروف ابن الرومي.

بالمقابل عمد الأنباري لتعرية الأسباب، وربط الدكتاتورية السياسية بالفشل الاقتصادي. وفي كتابه (مونودرامات تاريخية)(3) وضع كل نموذج أمام أطوار صورته، وهي تأخذ مكانها. بمعنى أنه رسم صورة مرحلية لشخصيات مسلحة بالإدراك، ولكن ينقصها وعي المعرفة. فهي نماذج متكررة لكل منها جهاز من المفاهيم، ولكنها تستجيب لظروف الصراع أو لنوعية العلاقة. فالجندي المجهول محارب يدافع عن البلاد، والعامل إنسان عادي كادح، وهكذا. إنما تتبدل رؤيته لدوره الطبيعي حسب تبدل مفهوم السيادة وأسلوب الحكم.

1- مهزلة الراعي والرعية. جريدة العراقية. عدد 661.

2- في سردابي. ترجمة عبدالمعين ملوحي.

3- منودرامات تاريخية. منشورات دار ضفاف.بيروت. 2015.

 

د. صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم