قراءات نقدية

قصيدة النثر الناظرة من ثقب الباب

هي القصيدة التي تميل إلى النظر إلى الاشياء من زاوية واحدة فلا تتضح بغيتها بسبب الابهام الذي يكتنفها ما بين اليقظة والحلم ولا يتضح مرادها بسبب غلالة الترميز التي تحيط بها وعادة ما يوظف فعل النظر فيها لا بقصد الإبصار؛ بل التبصر.

ويغلب هذا النوع من قصيدة النثر على الكتابات الشعرية التي هي أقرب للخواطر والانثيالات الشعورية ذات النقلات الدلالية من دون ضابط أو معيار حيث الأنا تتحرك في شكل شطرنجي من حال الى حال متقلبة هائمة حائرة ومتضاربة تتشتت أفكارها وتزوغ مدياتها فلا تكون رؤياها للعالم متضحة.

وعادة ما تشيع هذه الكتابة الشعرية في النصوص التي تحمل صوتا نسويا سواء كتبها الرجل أو كتبتها المرأة مادام للأنثى فيها حيز مركزي.

والقصيدة الناظرة من ثقب الباب، قصيدة تغاير المنطق في إدراك الاشياء وفهمها وهي تجد للمحسوسات بعدا يقلب المرئيات إلى لا مرئيات، بمعنى أن النظر كفعل فيزيقي تواصلي يتحول من تداوليته الاشارية المباشرة الدالة على الابصار والرؤية الى دلالة أبعد غورا تتعلق بفعل تجريدي يحمل أبعادا تفكرية تأملية تنساح في الما ورائيات. ومن أمثلة هذا المبنى في كتابة قصيدة النثر مجموعة( أحاول دحرجة الايام) للشاعرة فرح الدوسكي فتقول مثلا في نص( بغداد):

انظر اليك بارتباك

من ثقب عباءة الغرباء

أرى ممالك الفقراء مفتونة برواية

لا تستيقظوا

والفراغ عندها هو المؤنس والمطلب ويظل الاختفاء هو اللعبة الأثيرة التي بها تتلمس الذات حقيقة وجودها في قصيدة( أراجيح متكئة) التي تتوسل فيها الذات بالسماع كوسيلة توصيل لإدراك ما حولها، لكن الاصغاء لنداء الذات نفسها هو الذي يخرج الانصات من وظيفته السماعية الحسية الى وظيفة تفكرية تدبرية لا حسية تتجرد فيها الذات من أي شعور بالـ( ما حول) لتنشغل بالتأمل الذي يحمل الانصات على بلوغه وإدراكه والبغية الظفر بكنه الروح الحقيقي: أين كانت ؟ وما تكونه ؟ وما الذي تتأمل في تكوينه ؟ لعلها تجد ذاتها وتحس بما حولها فتعرف موقعها من نفسها ومن الآخرين

إن الخيبة من الزمان ومكابدة لوعة الفراق والحنين تجعل القصيدة نسوية تسير نحو اللازمان واضعة ثقتها بالمكان الذي يستبدل الزمان( الغد ) ويحل محله.

 وقد تهادن الذات ما حولها حالمة بيوتوبيا من النجوم والفراشات على أديم من ورود وندى، لكن كآبة الأنا الفردية تجعلها رهينة سجن ليس فيه إلّاها، مشتتة ميتة وحية معا، باحثة عن ملاذ ينقذها من عزلتها، فلا تجد بدا من النظر من ثقب الباب.

وقصيدة النثر ذات المبنى الناظر من ثقب الباب هي في الأغلب قصيدة نسوية لكنها لا تقتصر على الشواعر وحدهن؛ بل يمكن أن تنطبق على ما يكتبه الشعراء أيضا كون التوصيف بالنسوية ليس رهنا بالكاتب كمذكر أو مؤنث إنما هو رهن بالقصيدة نفسها وما يحويه نصها من دلالات تتموضع في سياقات أنثوية.

 وقد نلمح في قصيدة النثر تقولبات شعرية لها شكل انزياحي دال وموح، والسبب أن الذات سابحة في عالم يوتوبي حالم حيث لا زمان لها ولا مكان.

وعلى الرغم من أن الذات الشاعرة لا ترى إلا من ثقب الباب وقصيدة النثر لا تتجاوز عندها التعامل مع ما هو مرئي إلا إن هذا الجزء الواقعي المرئي هو ممر الى رؤية ما هو تخييلي لا مرئي وبما يوصل الذات الى رؤيا العالم..

 فيتحول تشظيها الى الآخر الذي تراه ناقصا إن لم يكن متلاشيا ولن تشعر بحضوره إلا مستلبا بكينوتها مصادرا وجودها وبسبب هذه الاسلبة تصبح قصيدة النثر ناقمة على الاخر الذي ستتعدد صورته وقد تتسرب في ذاكرة الانا المؤنثة كغائب غير حاضر.

وما بغية القصيدة الناظرة من ثقب الباب إلا تتصالح مع العالم متوخية الاعتناء بنفسها مع عدم الاكتراث بغيرها متلفعة بالغياب ومتوارية بالغموض صانعة لها صرحا من المثالية وعالما من اليوتوبيا فيها الاشياء موصوفة ومرتبة بحسب ما تريد تلك الذات في عالم خاص ليس فيه للادلجة أي مكان. 

وعادة ما تتشكل قصيدة النثر الناظرة من ثقب الباب نصا سرديا كل شيء فيها يتحرك وينبض وينطق ويهتف وأما تفاصيل اليوم المعيش فانها صالحة للشعر ما دامت العين الراصدة تلتقط تفاصيل مكانية تسيح فيها اللحظة السردية في رؤية هلامية حيث لا تتوضح أبعاد المشهد إلا من زاوية واحدة، والسبب أن الانا ترى من ثقب الباب

وهذه القصيدة لا تنتجها الا ذات ترى حالها بالانزواء وهي تخاتل الآخر مفردا وجمعا بوعي يشوبه الغموض وعقل يتدارى خشية ووجلا. والزمن القادم كابوس أليم وعادة ما لا تفارق حدود هذه القصيدة حيز المكان المعيش كالغرفة مثلا او اي حيز تعتاده بشكل مكرر، مسجلة يوميات الشاعر كلحظات يقظته ونومه أو طبيعة حركاته وسكناته ملتقطة صمته وسكونه راسمة هدوءه وعربدته تعقله وجنونه.

ولا تخلو كتابة هذه القصيدة من واقعية لكنها واقعية موهومة أو واهمة بسبب سوء الفهم الناجم عن اللااكتمال في الرؤيا التي تبصر الاشياء من جانب واحد.

هذا ما يجعلها بالنسبة للذات الشاعرة كيانا حيا نابضا ومتحركا تحاول الذات أن تبني معه شراكة او صداقة أو لعل هذه الذات تتمكن من أن تتبنى القصيدة كوليد أو ربيب تعاهده بالرعاية وتتكفل بكل متطلباته.. والهدف ألا تضيع الذات وأن يكون لها ما يربطها بالوجود ويشعرها بالأبوة او الأمومة فتركن إلى واقعها وتتفهم منغصاته بلا عصاب أو توتر.

وهكذا يبدو هذا النوع من قصيدة النثر لا كنص من كلمات وبنى.. وإنما ككائن أثير وهلامي وجزء صميم من تكوين الذات. وهذا الكائن الحميم حدوده البيت ومرتعه الغرفة فهو الطفل أو المرأة أو الابنة، ولأن القصيدة تظل تنظر من ثقب الباب لذلك لا يتعدى الالهام فضاء الذات وحضنها وحدود الكتابة فيها لا تتجاوز الغرفة التي تظل المكان الاثير لولادة القصيدة ولعل تسميتها بالقصيدة الغرفة سيكون ملمحا من الملامح المميزة لقصيدة النثر ذات المبنى الناظر من ثقب الباب لتنغلق على نفسها داخل فضاءات كتابتها منشغلة بخصوصيات صغيرة وشخصية تجد فيها الذات إرهاصات ابداعها التي تنصهر فيها شعرية النص ضمن حميمية المكان ليكون المنتج وليدا فتيا لكنه أصيل، فهو جزء من فضاء البيت وأثاثه وموجوداته .

 

د. نادية هناوي

 

في المثقف اليوم